بين الفكر والسياسة

الإسلام والإدخار

بقلم:نور الدين بوكروح

ترجمة: بوزيان فرحات

من فترة لأخرى ، ومع ظهور أشكال معاملات جديدة مع البنوك لسبب أو لأخر،يظهر للسطح الجدل القديم الجديد حول جواز نسبة الفائدة من عدمه، خاصة وأنه أصبح يمس شرائح مختلفة من المجتمع بإعتبار أنه لم يعد مرتبطا فقط بالودائع البنكية ،بل يبرز مثلا في مشاريع السكنات أو قروض مساعدة الشباب المقدمة من طرف الدولة، وهذا الجدل ، و إن اختلفت أسبابه، ذكرنا بالفتوى التي نشرتها وزارة الشؤون الدينية سنة 1971 حول الشكل الجائز لمختلف عمليات الإدخار: تحصيل الفوائد الناتجة عن الودائع، سداد القروض الممولة  مع اضافة نسبة تعويضية، الخ. من الناحية الشرعية ،أُعلن أن الإدخار وعمليات تجميع رأسمال عموما بهدف تنمية اقتصادية لصالح الأمة ،جائز ولا غبار عليه.
“الفتوى” هي عمل جليل يحاول من خلاله المفتي الفصل في مسألة لم يرد حولها حكم واضح ومباشر في القرآن أوالسنة، وتعتبر على الصعيد القانوني مصدرا للتشريع، أما على المستوى الاجتماعي التاريخي فهي “اجتهاد” يرفع المسلم ليكون في مستوى تحديات زمانه، وعلى المستوى الأخلاقي هي انشغال ضمير المسلم بشرعنة أفعاله، وتأصيليها  بإستناد الى نظام قيمي معين.
هذا الجزء من تقرير الأحكام ذاتيا للمسلم  والمرخص لها من عقيدته،لها اصولها سواءا من القرآن على اعتباره الكتاب المنزل ، و من السيرة النبوية كما يوضحه المثال التالي الذي رواه  في الترمذي،فقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل قاضيا على اليمن، و نظرا لحداثة سنه (24سنة)أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يمتحنه ليتبين رشده فسأله:” بم تقضي يا معاذ؟ قال : بكتاب الله، قال : فان لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله، قال : فان لم تجد ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلوا” فرضي رسول الله، حسب راوي الحديث، بما قال معاذ و أقره.
دخل مفهوم ” الاجتهاد” تاريخ الفقه الإسلامي ، وهو يعني بذل الجهد وإعمال العقل للفصل في المسائل ،  و بهذا يمكن للمسلم أن يواجه الحالات الجديدة، وقد حدده رسول الله لهذا الغرض بل وذكر به في مناسبات عديدة،
روى مسلم ، أحد كبار علماء الحديث ،الحادثة التالية: أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن العاص مهمة الفصل في خصومة وقعت، فقال عمرو بن العاص: أأقضي في حضرتك يا رسول الله؟، قال : نعم ، فقال : وعلى ماذا أستند ؟ فقال له رسول الله: إذا وصلت الى العدل و اجتهدت بالإعتماد على حس الخير فيك فقط ، يؤتك الله ثواب عشر حسنات” . وبالتالي فلا لبس في القضية ،ومن هنا فمن المنطقي أن نفهم أن مسألة الاجتهاد كانت في لب أزمة انحطاط العالم الاسلامي.
في العصور الظلامية من الانحطاط، لم يتحمل المسلم مسؤولية قدره بل عانى منه ، لأنه نفسيا بقى حبيس أمرين: “التواكل”، بمعنى أن توكل أمرك كلية إلى الله من دون اتخاذ الاسباب (وهو ما أصبح معلوما عند المستشرقين بـ”القدرية” ) والأمر الثاني ” البدعة” أوالخوف من الجديد، من اللا متوقع الذي يشلّ كل جهد اجتماعي ويجبره على الانسحاب من” مسائل الحكم”.
في العهد النبوي ، كانت هذه المسائل يمكن الفصل فيها بكل سهولة، من دون أزمة ضمير ولا مبالغة في الفعل، أما اليوم فتتم معالجتها تحت ظلال الشك والألم والسفسطة logomachie (هذا إذا ما تمت معالجتها أصلا) ،أمر يدعو للحسرة فعلا: لأن رجل اليقين تم استبداله برجل متذبذب ضعيف الإرادة، الأول صنع التاريخ والثاني يتغنى فقط بمكتسبات الماضي، في مجال إعمال العقل خاصة، كالاجتهادات في الأحكام القضائية،أي تحرك يكون موضع جدال. ولهذا لم تتجرأ الامة على معالجة مشكل “الربا” إلا في بداية القرن العشرين مع محمد عبده الذي أعلن في فتوى له، أن الفوائد التي تصب في الحسابات الجارية ومختلف الودائع البنكية حلال، وهذا ما ألهم بكل تأكيد الفتوى الجزائرية الصادرة سنة 1971.

لنلخص مكمن المشكل من الناحية الفقهية ،حرم الرسول صلى الله عليه وسلم  الفوائد الربوية في احكام البيوع في خطبته الشهيرة ” خطبة الوداع” بضعة أشهر قبل وفاته، أما القرآن الكريم فقد حرم الربا بشكل قطعيّ قال تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً …” (آل عمران-130).
كل الشعوب تعاملت بالربا، وهو القرض بفائدة، وهو فعل غير أخلاقي ومدمر، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان معظم اقتصاد المدينة تحت تصرف اليهود الذين كانوا يمثلون غالبية سكانها، و قد بالغوا في التعامل بالربا و تسببوا في خسائر للمسلمين، فأعلن الرسول حرمة الربا مباشرة بعد الهجرة و الذي خرب القواعد الاقتصادية للمدينة التي وجد الرسول فيها الملجأ له وللصحابة الكرام ،فكان من الضروري و المستعجل: ضمان بقاء الإسلام.

عشر سنوات بعد ذلك، أصبحت الدولة الاسلامية حقيقة كاملة، وهنا يمكن لرسول الله أن يشرع في إصلاح اقتصاد المدينة، المشروع الذي سيساعده القرآن الكريم عليه:” وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا “(البقرة-278).أُعتبر التخلي عن كل ما نتج عن الربا لفائدة نظام مساعدة اجتماعية تأسس على قاعدة” الزكاة ” حلا اقتصاديا كمرحلة أولى، أما المرحلة الثانية ميّزها التحريم التام لكل قرض جر منفعة.

الحياة الاقتصادية في أيامنا هذه تختلف كلية عما كانت عليه في العهود الأولى للإسلام، حيث التداولات المالية كبيرة والميكانيزمات أكثر تعقيدا، ناهيك عن كونها تعتمد كلية على قواعد فلسفية غربية، سواءا تعلق الامر بالرأسمالية أو الاقتصاد الموجه.

يلعب الصرف دورا مهما في الأنظمة الاقتصادية الحالية الأمر الذي لم تعرفه منذ أربعة عشر قرنا. وهو يخضع لتحولات حسب مؤشر القدرة الشرائية، وحتى نبقى في موضوع الادخار، لو وضعنا اليوم قيمة مالية  في حساب بنكي، قيمتها الآن  t+ 1 ستنخفض بالنسبة لقيمتها الأولية.

مثلا ،الألف دينار (1000 دج) التي تضعها اليوم في صندوق التوفير و الاحتياط، هي حسب مبدأ انخفاض قيمة العملة تساوي (1000دج- ن) التي ستأخذها غدا إذا أردت سحبها من حسابك. نسبة 4٪ ،لنبقى دائما  في نفس المثال،التي يضمنها لك صندوق التوفير و الاحتياط  ليست في الحقيقة إلا تعويض للضرر الذي تأثر به مالك الحساب بارتفاع الاسعار والتضخم ،في نفس الوقت،مبلغ الـ 1000  دج ، تم تداوله وساهم في الاستثمار الوطني. نفس المنطق يمكن تطبيقه بالعكس، لبيان الفائدة المرتبطة بتعويض القرض الذي تراضيت به مع الدولة في إطار تمويل مرخص. فـ”الربا” ليست هي ” الفوائد البنكية” المفهومان مختلفان في الجوهر كما في الحقيقة.
لمحة عامة حول العلوم الإسلامية تعلمنا أن كل شيء يرتكز على مفهوم الخير ، أو ” المعروف” بتعبيرالقرآن الكريم، ولا معنى للخير ما لم تكن فيه فائدة. بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رأى أن أهلها يلقحون النخيل، الأمر الذي لم يرض عنه و انتقده، فترك الناس تلقيح النخيل فنقص المحصول بشكل خطير، فجاءوا يشتكون إلى رسول الله فقال لهم:”افعلوا كما كنتم تفعلون من قبل، أنتم أعلم بأمور دنياكم”( رواه مسلم)، لكن ليس معنى هذا أن نركن إلى الكسل، أو أسوء من ذلك ،أن نعتقد أن الرسول استدرك خطأ!، بل الأمر يتعلق بالنظر الثاقب ،اختيار الافضل،والاهتمام بالتصالح بين ما هو مقدس وما هو مفيد، وهذا ما برهن عليه رسول الله طول حياته،حياة تمثلت في القدوة الحسنة، والنموذج الملهم لسلوك المسلم.
وحتى نشرح الفكرة أكثر، فإن الفرائض والنواهي تتغير في الإسلام حسب مصلحة الإنسان، و سنذكر مثالا آخر،في سنة 630، بعدما خرق كفار قريش صلح الحديبية، فتح رسول الله مكة بسلام من دون أن تسيل قطرة دم واحدة، أيام بعد ذالك وعلى جبل الصفا،أتت الجموع لتدخل في الإسلام وتعلن البيعة، ثم قام رسول الله فيهم خطيبا ليعلن أن أرض مكة حرام:”فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا ..“، فصاح احدهم قائلا:” ‏ يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم“، فوافق رسول الله على طلبه بكل بساطة وحكمة قائلا:”. ‏”إلا الإذخر‏”
ومما سبق، فإننا نود استخلاص درس ذو معنيين: بالنسبة للمسلمين، لا بد أن يعلم كل واحد يقينا أن باب الاجتهاد يجب إعادة فتحه من جديد لمواجهة تحديات العالم المعاصر بكل شجاعة، من دون عقدة ولا خوف، ما دمنا سنكون على ثقة ان ذلك سيوافق روح القرآن والسنة، ومن المسلم به أن هذان المصدران ليس فيهما ما يتعارض مع مصلحة الانسان، هذا الاخيرالمخلوق الأول عند الله، بوجوده كل شيء له معنى ، ومن دونه لا معنى لأي شيء، وبالنسة لأعداء الاسلام ،أو حتى للجاهلين، عليهم أن يعلموا أن الاسلام لا يحتاج لأن يجهد نفسه لحل ما يعتقدونه عقدة مستعصية على صوت التحرر وتنمية العالم الإسلامي.

 

تنبيه: هذا المقال ظهر في جريدة “المجاهد” يوم 23/08/1979

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى