بين الفكر والسياسة

الثورات العربية (2) : علبة باندورا

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد القادر أنيس                                                                                                  

عمَّ كان يمكن أن تتمخض عنه الثورات العربية ونحن نعلم أن المستبدين قد فعلوا كل شيء إبان حكمهم لكي لا تتكون  تيارات فكرية وأحزاب ديمقراطية قادرة على الظهور بمظهر البديل لسلطتهم؟ هل كانت توجد في البلدان التي رمت بها هذه الثورات إلى الجحيم حياة سياسية طبيعية، بأحزاب معروفة وهيأة ناخبة متعودة على تعيين النواب و رئيس الدولة؟ لم يكن من وجود إلا للأحزاب الواحدة أو لأحزاب إدارية، أحزاب للتمويه أو لا أحزاب بالمرة كما كان الحال في ليبيا. كانت الانتخابات تُزوَّر كما هو الشأن عندنا منذ ظهوها وكانت نسبة الامتناع عن التصويت هائلة. لم يكن الإسلامويون بديلا ضمن بدائل أخرى، بل كانوا البديل السياسي أو، بالضبط، الدهني الوحيد المتوفر في الساحة. على فرض أنهم لم يكونوا موجودين : فمن كان سيملئ الفراغ السياسي والمؤسساتي الناتج عن السقوط العنيف للأنظمة؟
أحد أهم المبادئ الرئيسية للديمقراطية هو ألا تُقْصَى من الحياة السياسية والمؤسساتية أية قوى اجتماعية تمثيلية و دفعها إلى السرية والعنف، ثم منحها وسام الضحية والحصول في نهاية المطاف على حكم منقوص الشرعية. وهذا عكس ما فعلته الأنظمة العربية الإسلامية بمباركة من القوى الخارجية. كانت هذه الأنظمة تنظر إلى شعوبها وكأنها عبارة عن صناديق بندورا boîtes de Pandore يتوجب الحرص الشديد على عدم فتحها.

لقد حرصت إيران البهلويين Pahlavi وتركيا أتاتورك(Ataturk)  ثم جنرالاتها، وفي أفغانستان الملكية ثم الشيوعية، والأنظمة البعثية في العراق وسوريا، وفي مصر الضباط الأحرار ثم مصر اللبرالية وفي الأنظمة التي نُعِتت بالتقدمية في الجزائر وليبيا، كل هذه البلدان وغيرها حرصت طويلا على ترك العلبة محكمة الإغلاق. فهل تمكنوا، مع ذلك، من لجم الأفكار الإسلاموية ؟ مثال آخر: لقد اجتاح الغرب أفغانستان بهدف طرد طالبان وإقامة دولة حديثة فيها. فهل نجح؟

في كل مكان أمكن فيه إجراء انتخابات شفافة إلى حد ما، ابتداء من هذه البلدان، وفي كل مكان تم فيه فتح صندوق بندورا، برز الإسلامويون . لقد فازوا بالثورة أو بدونها. هذه الظاهرة فريدة في العالم . لم نشهد مثلها لا في بلاد المسيحية، ولا في بلاد اليهودية ولا في بلاد الهندوسية ولا البوذية. صندوق بندورا هو “اللاشعور الجماعي العربي الإسلامي“.

وعليه، يجب أن نفتش في التاريخ والمنظور الثقافي لهذه الشعوب العربية الإسلامية إذا رغبنا في فهم تصرفها الاجتماعي والسياسي. إن لها تجربة طويلة مع الاستبداد الذي وَسم نفسيتها بميسمه، وخيالها حافل بالمثل الأعلى الإسلامي الذي يقض مضجعها منذ قرون، لكنها تفتقر إلى التجربة الديمقراطية التي هي قبل كل شيء ثقافة.وهذه الثقافة تفترض أننا استوعبنا فكرة الانتقال من حالة الشعب الأحادي النظرة إلى مجتمع تعددي في أفكاره ومتنوع في تشكيلته.
هل هذا هو الحال؟ هل يمكن أن نتصور هذا في نظام إسلاموي؟ الإجابة عن سؤال التصويت الآلي ليست من طبيعة سياسية، بل ثقافية. ليس لها علاقة بالثورات نفسها، ونحن، الجزائريين، كنا أول من جرب ذلك في 1990 و1991. المسألة تتعلق بتصويت عفوي تفسيره يكمن في هيمنة الثقافة الثيوقراطية (الثقافة التي يطغى عليها العامل الديني)على تفكير أوساط واسعة في المجتمع . الأحزاب الإسلاموية، حيثما وُجدت، لا تمتلك قاعدة انتخابية أشرفوا هم على بنائها، لكنهم يستفيدون من استعداد عام مسبق في صالح قضيتهم قبل أن يوجدوا.

إن حزب النور، في مصر، وهو تجمع سلفي ظلامي لم يكن موجودا قبل الثورة، ومع ذلك فقد حصل على 25 % من الأصوات بعد شهرين من تأسيسه ، وهو ما يعادل مجموع أصوات الأحزاب غير الإسلاموية. المخزون الانتخابي الإسلاموي يكمن في الخلفية العقلية للناس. هم ليسوا في حاجة الى امتلاك حزب، أو برنامج أو زعيم، فالثقافة السائدة، والأدبيات الدينية الوفيرة، والفضائيات والمساجد تغنيهم عن ذلك. ليس المبعدون والمحرومون والفقراء والأميون هم من يصوتون عليهم، بل أفواج من كل شرائح المجتمع، بما في ذلك جزء من الجاليات في الخارج : فتونسيو فرنسا صوتوا بنسبة 30 % لصالح النهضة سنة 2011.

الثقافة الثيوقراطية، سواء في الحكم الملكي أو الجمهوري، هي التصرف الذي يعيد كل شيء إلى الله وابتغاء كل شيء منه أو من رجال يزعمون أنهم مُوَكَّلون من قِبَلِه. إنها خليط من الحالات النفسية، والأفكار المغلوطة أو تلك التي تجاوزها الزمن وتكونت طوال فترات الانحطاط. هذه الثقافة، المُرَوَّجة والمُلقَّنة حتى أيامنا، لم تكن تسمح للإنسان العربي المسلم بلوغ العقلانية، والأفكار الجمهورية والمثل العليا الديمقراطية.

المثقفون والزعماء السياسيون الحداثيون في القرن الماضي لم يتمكنوا من إقناع الجماهير أنه من الممكن أن يكون المرء مسلما وعصرانيا في نفس الوقت، لأنه بدل ترقية فكر جديد يأخذ بعين الاعتبار حياتهم الروحية وقيمهم، عرضوا عليهم الماركسية والبعثية والعلمانية، وخاصة الاستبداد.

كان هناك الإسلام المتواصل الذي فتح نصف العالم المعروف يومئذ، وقدم حتى القرن الخامس عشر الدليل على روحه الخلاقة في جميع ميادين العلوم، وطور الفكر الإنساني، وترك روائع لا تفنى في مختلف بقاع المعمورة. وكان هناك، بعد ذلك، الإسلام النهضوي الذي ظهر مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر داعيا إلى تحرير العالم الإسلامي وإصلاحه الأخلاقي. وأخيرا،  هناك الإسلام السياسي الذي ولد خلال النصف الثاني من القرن العشرين من فشل النهضة والحركات الإصلاحية. كان من أهم منظريه الرئيسيين المودودي وسيد قطب. وكان دعوة إلى الاستيلاء على الحكم لفرض النظام الإسلامي و لو عن طريق اللجوء إلى العنف ضد المسلمين أنفسهم.

إن التطلع إلى دولة إسلامية مثالية، بوصفها تحصيل حاصل للتطبيق الصحيح للإسلام، لم يبرح اللاشعور العربي الإسلامي منذ الخلفاء الراشدين الأربعة الذين يمثل حكمهم العصر الذهبي. الدولة التي أقيمت بعدهم عرفت فترات تاريخية بين مد وجزر إلى غاية القضاء عليها من طرف الإمبريالية الغربية. بعد مجيء الاستقلالات، تأسست الدول القومية المدعومة من طرف الشعوب، ولكنها بعد بضع عشرات من السنين من التجربة فشلت في ترقية التنمية والحكم العادل و الراشد. فما هو بديلها ؟

طبعا، البديل هو ما كان قد نجح في الماضي البعيد والذي ظلت تمجده الثقافة الثيوقراطية : إنه الدولة الإسلامية. حتى في الوقت الذي كانت فيه الإسلاموية محبوسة في صندوق بندورا، احتفظت هذه الثقافة الملتبسة في عقول الشعوب، بكل زخمها. كانت تنتظر الإسلاموية كما كان “مجنون” ينتظر “ليلى”. أما المستبدون، من جهتهم، فقد حرصوا على عدم دفع الإسلاموية نحو الترقي، نحو ثقافة مستنيرة وحداثية لأنها تخدمها كما هي.

إلى حد الآن، استخدمنا عبارة “الشعب العربي” وكأننا نقصد بذلك كل سكان تونس ومصر أو غيرهما. هذا تعبير اقتضته اللغة وليس اقتناعا بالتباس شائع يتوجب علينا أن نميط عنه اللثام الآن. لقد خلّد الشعب التونسي شعارا اقتبسه من نشيده الوطني وصاح به الجميع حيثما قامت ثورات : “الشعب يريد…”. بعد ذلك، ظهر أن “الشعب” الذي أطلق الحراك الثوري و”الشعب” الذي منح الأغلبية للإسلاميين كانا يشكلان شعبين متمايزين.

في مرحلة أولى، كان هناك الثورة متبوعة بسقوط النظام، وفي المرحلة الثانية كان هناك الانتخابات. المرحلتان تعاقبتا لكن إحداهما لم تسفر عن الأخرى وليستا من نفس الطينة. أولئك الذين أسقطوا المستبدين ليسوا أولئك الذين رفعوا الإسلامويين على كواهلهم وأوصلوهم إلى الحكم. في المرحلتين كنا إزاء صنفين من الممثلين، إزاء جَمْعَين مختلفين، وكأن في هذه البلدان كان هناك شعبان في كل منهما.

الشعب الذي قام بالثورة كان يتكون من “شباب الفايسبوك” المنحدر من الطبقة الوسطى (من المثقفين، المحامين، القضاة، الفنانين، الخ) وانضم إليهم فيما بعد خليط من كل حدب وصوب، بينما من صوّت للأحزاب الإسلاموية كان متشكلا من المناضلين الإسلامويين ولكن أيضا وخاصة من الشريحة المحافظة في المجتمع. الأوائل كانوا من أنصار الأفكار العصرية والثواني كانوا من المتشبثين بالأفكار التقليدية.

القاسم المشترك الذي كان يجمع بينهما لم يكن صالحا إلا للمرحلة الأولى، رفض النظام الحاكم. غير ذلك، فقد كان لكل منهما، بدرجات متفاوتة، فكرته عما سيفعل بحريته المسترجعة. يجب أن نعترف أن الثاني كان أفضل إعدادا للمرحلة القادمة لأنه كان يعرف بالغريزة لمن يتوجب عليه أن يصوت عندما يحين الحين، بينما الأول لم يكن له، عمليا، من يصوت عليه.

“الشعوب” التي أطلقت الثورة في تونس ومصر واليمن وسوريا وحتى في ليبيا، هي هي. إنها هي التي مسها “المفعول البوعزيزي”، كرد فعل انفعالي متداعٍ، وألقى بها هي الأولى إلى الشارع لمواجهة المستبدين. مثلهم الأعلى كان الحرية، مع نبرات ديمقراطية. كانوا يشكلون شعبا واحدا ووحيدا رغم انتمائه إلى جنسيات مختلفة. “الشعوب” التي انتخبت لصالح التيار الإسلاموي في تونس والمغرب ومصر يمكن مع ذلك أن تشكل شعبا متجانسا، متلاحما بقناعات واحدة. هؤلاء ينظرون بعين الريبة للديمقراطية “على الطريقة الغربية” وللأفكار الحداثية، وكل تَمَثُّلاتهم العقلية متشبعة بالثقافة الثيوقراطية.

الأوائل يتصورون ما يمكن أن يكوّن مجتمعا ديمقراطيا عربيا، يتألف من مسلمين متفتحين عصرانيين ومتسامحين كما كان شأن مسلمي قرطبة والصين في القرن الثالث عشر، أو الهند في القرن السابع عشر. أما الفئة الثانية سيكونون أسعد في دولة شريعستان، يعيشون فيما بينهم، يجمعون بين السلفيين والجهاديين والمعتدلين والمحافظين. هذه التجمعات تحصل تلقائيا لو كان من الممكن مبادلة السكان والجنسيات والأراضي. ولكن، في الوقت الراهن، لم يحدث ذلك إلا مع التقسيم بين الهند وباكستان، وبين باكستان وبنغلادش، وبين أثيوبيا وإريتريا، وبين السودان والسودان الجنوبي، وبين البوسنة وصربيا، و بين غزة و رام الله… من أجل تسوية مشاكل تعايش صار مستحيلا. يمكن أن نصل يوما ما إلى هذه الفكرة في تجميع الإسلامويين في شريعستان.
في الانتخابات، تَقَدَّم الإسلامويون في شكل كتلة موحدة وعبّر خطابُهم عن العقلية والتربية التي تلقنتها غالبية الشعب، بينما تقدم الديمقراطيون ضمن طيف عريض تعددي رافعين عقيرتهم بخطاب لا يثير أي صدى في نفسية الجماهير. بالنسبة لهذه الجماهير، فإن هذا الخطاب الغامض واللبرالية المتساهلة التي يحملها هي في أعينهم منتجات مستوردة من الغرب وتشكل خطرا ماكرا على هويتهم وقيمهم. الإسلامويون، والعلماء الدينيون قبلهم، أقنعوهم أن الديمقراطيين، الذين هم بالضرورة لائكيون (وإذن هم ضد الدين) يروجون في البلاد لنمط حياة غربي فيه تم شرعنة الشذوذ الجنسي، الزواج المثلي والعائلة وحيدة الأب أو الأم، دون أن ننسى الأحقاد القديمة : الاستعمار، الدعم غير المشروط لإسرائيل، العنصرية المعادية للعرب وكراهية الإسلام. ومن هنا يأتي رد الفعل النافر والرفض الغريزي التام.
إن الأحزاب العصرية والديمقراطية وهي تتموقع في الوسط أو على اليسار، ظنت أنها بذلك ترتبط بالجماهير لكن هذه الأخيرة تحتقرها، لأن القيم الأخلاقية، عندها، لها الأولوية على الحلول السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية. فقبل أن يكون المسلم مواطنا، فهو قبل كل شيء مؤمن. ومهما فعلوا لم يجدوا عند الجماهير استجابة للتمكين لهم لأنهم لم يحدثوا لديها أي صدى، ولم يمسوا أي وتر من أوتارها، ولم يعبروا عن أي مثل من مثلها العليا .

لم يكن يجمع بين غير الإسلامويين الذين قاموا بالثورة إلا الشبكات الاجتماعية ولم يكونوا موحدين إلا ظرفيا حسب مناهضتهم للاستبداد ورغبتهم في الحرية. وما أن بلغوا الهدف حتى لم يجدوا ما يفعلون معا. لم يكن لديهم لا الفكرة ولا الوقت الكافي لينتظموا في قوة سياسية قادرة على التأثير في الانتخابات التي جرى تنظيمها على عجل. وهم، وإن لم ينتخبوا لصالح الإسلامويين فهم لم يفكروا في تثمير قواتهم ليجعلوا منها ثقلا سياسيا. ومن المحتمل أن الكثير منهم لم ينتخبوا بتاتا.

كانت الأحزاب اللبرالية التي تواجدت في عهد الاستبداد تتنازع على فُتات، مفضلة التحالف مع السلطة على التحالف فيما بينها. وواصلوا السير على هذا النهج الوعر، في العهد الجديد، بينما، من الناحية الحسابية، فقد حصلوا في تونس وفي المغرب على عدد من الأصوات والمقاعد يفوق ما حصّلته الأحزاب الإسلاموية. وعندما توحدوا، فقد كان توحدهم حول النهضة في تونس وحول حزب العدالة والتنمية PJD في المغرب. وحتى الشيوعيون دخلوا في هذه التحالفات المتنافرة.

الإسلامويون لا يؤمنون، في قرارة أنفسهم، بالسيادة الشعبية بوصفها مصدر السلطة، ولا بالديمقراطية كإطار للحياة الدستورية، ولا بالمواطنة كمجموع حقوق وواجبات مناطة بالفرد. إنهم يتأقلمون مع هذه الأفكار التي تتعارض مع مبادئهم الرئيسية ماداموا لا يملكون خيارا آخر، وإلا كانوا قد مشوا بخطى ثابتة نحو نظام الخلافة ونموذج طالبان.

السلفيون، الأكثر صراحة، لا يشعرون بأي حرج ليعبروا عن ذلك على رؤوس الأشهاد. لا سيادة إلا لله، وحتى عندما ينتخبهم الناخبون، فهم يرون أنفسهم منتخبي الله. المتظاهرون الذين أسقطوا المستبدين لا يعتبرون في نظرهم إلا أدوات سلبية (خاصة إذا كانوا أقباطا أكراد أو يزديين) لتجلي الإرادة الإلهية. وهم بذلك لا يدينون لهم بأي شيء، ولا يرون قتلاهم “شهداء” وكل حمدهم وشكرهم لا يكون إلا لله. إنهم يرون أن هؤلاء “الرومنسيين” قد أدوا نحوهم دورا شبيها بالدورالذي أدته العنكبوت نحو النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر عندما لجآ إلى غار ثور للنجاة من ملاحقيهم قبيل الهجرة.

الإسلامويون يحملون بطبيعتهم عقلية الراعي تجاه رعيته، وهم بذلك يرون أن نتيجة التصويت تمنحهم الحق في سوق قطيعهم نحو المرعى الذي يبتغون. وهم يجنحون أيضا إلى البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة لأنهم مقتنعون بأنهم الواسطة التي سوف يعيد بها الله بعث العالم الإسلامي. إن الشعبوية هي فكرة هابطة عن الأيديولوجيات التي أرادت ترقية المصلحة العامة للجماهير ظهرت على هامش النظريات الاشتراكية والشيوعية. ولقد مس تأثيرها الفكر الإسلامي أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى