أراء وتحاليل

الجزائر بعد المصادقة على الدستور الجديد:الأولويات والرهانات

الدكتور خضري حمزة*

التجديد الجمهوري أو الجمهورية الثانية، هو العنوان البارز الذي يمكن إطلاقه على تاريخ السابع من شهري فيفري 2016 الذي عرف المصادقة على دستور الجزائر الجديد، الدستور الذي صدر بعد نقاش طويل، و مخاض عسير، عقدت خلاله السلطة عبر رئاسة الجمهورية مشاورات عديدة بحثا على التوافق حول التوجهات الكبرى للدولة الجزائرية في المرحلة القادمة، و مهما يكن مستوى التوافق الذي تحقق حول هذه الوثيقة الأساسية للدولة، فإن البلاد دون شك تمر إلى مرحلة جديدة حدد الدستور ملامحها من خلال الفصل بين السلطات، و الارتقاء بالحقوق و الحريات، و التأسيس لدولة القانون و المؤسسات، والتحول نحو اقتصاد حر يثمن القدرات المادية و البشرية العلمية للبلاد دون المساس بالطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية المعلن عنه في بيان الفاتح من نوفمبر 1954 .

   الدستور الجديد و إعادة ترتيب الأولويات

جاء في رسالة فخامة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة إلى البرلمان في 07 من شهر فيفري الجاري أنه يتعين على الدولة الجزائرية بعد المصادقة على الدستور الجديد إعادة ترتيب أولوياتها في المرحلة القادمة بما يتماشى مع الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد بسبب التراجع الكبير لأسعار النفط في الأسواق العالمية و الذي نتج عنه تهاوي الإرادات المالية للبلاد وهو ما سيحتم على مؤسسات الدولة البحث عن مصادر أخرى للخزينة العمومية خارج قطاع المحروقات من خلال تشجيع الاستثمار المنتج و بناء قاعدة اقتصادية صناعية و فلاحية و تجارية و خدماتية منتجة للثروة و هو الأمر المتاح تحقيقه في ظل الإمكانيات المادية و البشرية الضخمة التي تتمتع بها الجزائر، هذا دون أن تتخلى الدولة الجزائرية في ضوء الرأسمالية الجديدة عن مسؤولياتها الاجتماعية اتجاه الشعب، و هذا ما أكده الدستور الجديد في ما أقره من ضمان حق السكن للفئات المحرومة و العلاج  للفئات المعوزة، زيادة على المحافظة على مجانية التعليم في القطاع العمومي و هو ما من شأنه أن يحدث توازن اجتماعي يحفظ للشعب الجزائري تماسكه الاجتماعي و خصوصياته الرافضة للطبقية و القائمة على العدالة الاجتماعية و الحد من الفوارق المعروفة منذ الاستقلال .

المحافظة على مكتسبات السلم و الأمن

من أولويات الجزائر في المرحلة القادمة المحافظة على المكتسبات التاريخية للأمة الجزائرية مكتسبات السلم و الأمن و الاستقرار التي استطاعت الدولة المحافظة عليها عبر مسار طويل من الإصلاحات بدأ بمشروع الوئام المدني الذي طبق بواسطة القانون 99/08 المؤرخ في 13 يوليو 1999 المتعلق باستعادة الوئام المدني، و هو القانون الذي توج مسارا طويلا للخروج من الأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر خلال العشرية السوداء، بدأ بعقد ندوة الوفاق الوطني سنة 1994 التي رسمت خريطة طريق للخروج من الانتقالية إلى الشرعية الدستورية، و هو ما تحقق عبر أول انتخابات رئاسية تعددية سنة 1995 ثم التعديل الدستوري لسنة 1996 و بعده أول انتخابات تشريعية و محلية تعددية سنة 1997 و قد أخذ رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة على عاتقه إنهاء المأساة الوطنية – بعد قانون الوئام المدني – بإصدار ميثاق السلم و المصالحة الوطنية الذي صادق عليه الشعب الجزائري بنسبة 97% في التاسع و العشرون من شهر سبتمبر 2005 حيث عرفت الجزائر تدريجيا استرجاع الأمن و السلم و الاستقرار طيلة عشرية كاملة حتى أصبحت نموذجا يتقدى به عالميا في المصالحة الوطنية و مكافحة الإرهاب، و جاءت في بداية العشرية الحالية أحداث الخراب العربي التي عصفت باستقرار دول الجوار ليبيا سوريا اليمن والعراق مصر و تونس، و كادت الجزائر أن تكون الاستثناء الوحيد في منطقة الشرق بفضل حكمة و فطنة مؤسسات الدولة التي سارعت إلى الشروع في إصلاحات سياسية عميقة بدأت بمراجعة حزمة من القوانين المرجعية في الدولة كقانون الانتخابات و الاعلام و الجمعيات و قانون حالات التنافي مع العهدة البرلمانية، و القانون المتضمن كيفات مشاركة المرأة في المجالس المنتخبة، وغيرها من النصوص التي صدرت في بداية 2012 ، و كان الدستور الجديد جزء من استراتجية متعددة الجوانب اعتمدتها الدولة لتعزيز مكاسب السلم و الأمن و التي تخرج الجزائر نهائيا من تهديدات الخراب العربي، على الرغم من أن المخاطر الأمنية في محيط الجزائر تتصاعد بتزايد احتمالات التدخل العسكري في ليبيا الذي يزيد من إمكانيات حدوث اختراقات إرهابية للأراضي الجزائرية بسبب انتشار حركة السلاح بأنواعه المختلفة على طول الحدود الشرقية للبلاد، زيادة على إمكانية حدوث حملة غير مسبوقة للاجئين للأراضي الجزائرية، و هو ما يدفعنا إلى تنبيه كل فواعل الشعب الجزائري في السلطة و المعارضة و المجتمع المدني و عموم الشعب للتعاون، كل في موقعه للمحافظة على الأمن و الاستقرار في ضوء التهديدات المستقبلية المتوقعة .

مواصلة رحلة البحث على التوافق      

لا ينبغي أن تنتهي رحلة البحث عن التوافق بالمصادقة على الدستور الجديد، بل يتعين على جميع الأطراف في السلطة و المعارضة مواصلة السعي نحو التوافق لمواجهة تحديات المرحلة القادمة، لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تقوية الجبهة الداخلية في مواجهة المخاطر المستقبلية داخليا و خارجيا، و لعل من أهم العوامل التي من شأنها أن تساعد على الوصول إلى هذا التوافق التخلي على الدعوة إلى استنساخ تجارب دول أجنبية لأن خصوصياتنا في الجزائر تختلف عن ظروف الدول الأخرى، و من ثم فإن إطلاق الأفكار و الرؤى مع مراعاة ظروف اللحظة التاريخية التي تمر بها الجزائر على كافة المستويات و الأصعدة من شأنه أن يقرب وجهات النظر نحو توافقي جزئي يخدم المصلحة العليا للبلاد، و في هذا السياق يجب أن نعترف أن بعض الأحزاب السياسية في الجزائر و أطياف متعددة من المعارضة في الداخل و الخارج تعاني من حالة اغتراب عن المجتمع الجزائري و واقعه المتطور باستمرار، حيث أنها مازالت متمسكة بمرجعيات وإيديولوجيات تجاوزها الزمن، فمازال البعض منها يريد أن يفرض على الجزائريين مشروع مجتمع بخلفية دينية مصرية تعود إلى أربعينات القرن الماضي، في حين ينادي البعض الأخر بالأفكار والتصورات الحمراء التي حكم عليها التاريخ بالفناء بعد هدم جدار برلين، لذلك يجب على الطبقة السياسية الانطلاق من خصوصية الشعب الجزائري في بناء البرامج حتى لا تكون في حالة اغتراب عنه كما هو حاصل هذه الأيام .

الثورة القانونية

بات من الواضح أن من أولويات الدولة الجزائرية بعد المصادقة على الدستور الجديد هو مراجعة المنظومة القانونية الجزائرية بما يتماشى مع أحكام الدستور الجديد، و في هذا الإطار سيتم مراجعة قوانين الانتخابات و الأحزاب السياسية و الإجراءات الجزائية و الإعلام و الجمعيات فضلا على القانون العضوي رقم 99/02 المؤرخ في 08 مارس 1999 المتعلق بالمجلس الشعبي الوطني و مجلس الأمة و العلاقات الوظيفية بينهما و بين الحكومة و النظام الداخلي لغرفتي البرلمان و هذا لتبني الإصلاحات التي جاء بها الدستور الجديد على مستوى النصوص القانونية وفي نفس الاتجاه ستصدر نصوص قانونية جديدة تطبيقا لبعض المبادئ الدستورية الحديثة في مقدمتها القانون الذي يبين كيفيات تطبيق المادة 17/02 التي وضعت على عاتق الدولة الالتزام بالاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية، و القانون المحدد للوظائف السامية التي تشترط فيها الجنسية الجزائرية دون سواها تطبيقا للمادة  51 من الدستور، و في نفس الإطار الرامي إلى تنفيذ الدستور الجديد ستشرع الدولة في تنصيب الهيئات الدستورية الجديدة و المتمثلة في المجلس الأعلى للشباب و المجلس الوطني لحقوق الإنسان و المجلس الوطني للبحث العلمي و التطوير التكنولوجي.

ختاما يجب التنبيه إلى أن فعالية و نجاعة الأحكام الدستورية الجديدة في إحداث التحول المطلوب في الجزائر مرتبط بالإرادة السياسية في تطبيقه على الوجه الصحيح الذي صدر من أجله، و مرتبط أيضا باعتماد معايير الكفاءة و النزاهة في إسناد المسؤوليات في الوظائف السامية التي تشرف على مؤسسات الدولة الوطنية و المحلية حتى نضمن التحول الفعلي و الحقيقي نحو التجديد الجمهوري، و التحول نحو مستقبل أفضل .

 

(*)رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الدستورية و القانونية .

                                                        

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى