بين الفكر والسياسة

مالك بن نبي 10) فكرة كومنويلث إسلاميّ

بقلم نورالدين بوكروح

 ترجمة عبد الحميد بن حسان

شهِدَ العالم خلال الفترة التي عاشها مالك بن نبي بروز التكتلات الكبرى إلى الوجود، مثل: الاتحاد السوفياتي، والكومنويلث  حول بريطانية العضمى، والاتحاد الأوروبي ذي الدول الستة، والحلف الأطلسي، ومجلس التعاون الاقتصادي (الكوميكون) بين دول الشرق الأروبي الاشتراكي … وبقي العالم الإسلامي وحده في حالة تشتت، وذلك بسبب غياب الإرادة الموحدة، والمصالح الموضوعية المشتركة، والتواصل الجغرافي. فمعظم الدول المسلمة حديثة عهد بالاستقلال، وهي متفرقة من الناحية السياسية إذْ بعضُها يميل إلى موسكو والبعض الآخر متحالف مع الولايات المتحدة أو أوروبا.

وفي الفترة التي كان فيها بن نبي منهمكاً في تأليف هذا الكتاب الصغير بين 07 و 18 أكتوبر 1958، كانت سوريا ومصر قد بادرتا بالانضواء تحت لواء واحد، متمثل في “الجمهورية العربية المتحدة”، لكنَّه لم يُبْدِ أيَّ اكتراث بهذا الحدث. فقد بقيت آراؤه في الاتجاه المعاكس للخطاب الوطنيّ العربيّ. وهذه الدراسة، أي كتاب “فكرة كومنويلث إسلامي”، تتكون من مقدمة وثلاثة أجزاء رئيسية، جاءت عناوينها كالآتي: مشروع دراسة شاملة، قيمة الفكرة في المجتمع الإسلامي، وظيفة الكومنويلث الإسلامي، بالإضافة إلى الخاتمة.

لقد انتاب بن نبي شعورٌ بالحاجة إلى تأليف هذه الدراسة الموجزة عقب محاورة أجراها مع كاتب وطبيب من القاهرة. أمّا الأول فقد سمعه يقول: “أشتغل واليأس يسكن قلبي”، أمّا الثاني فلم يكن بعيدا عن حالة الأول، فقد سمعه يقول متنهِّداً: “أعترف أنني لا أجد أيّ شيء في موقعه عند المسلمين”.

إنّ تعليقات هذين الشخصين اللذيْن التقى بهما صُدْفَةً ذكَّراه بصور ذهنية قديمة عَلِقَتْ بذاكرته: الأولى هي صورة ذلك الصيني الذي كان زميلاً له في الدراسة خلال سنوات 1930، والذي كانت تظهر عليه دوما علامات عدم الرِّضا عن حالة بلاده الرازحة تحت نير الإمبريالية اليابانية. والصورة الثانية كانت في وقت لاحق، وهي لصينيٍّ آخر التقى به غداة تأسيس الجمهورية الصينية سنة 1949، وكانت تظهر عليه علامات الاعتزاز والإقدام. وقد أوحتْ هاتان الصورتان لبن نبي هذه الخاطرة: “إنَّ الثورة الصينية لم تُلْغِ المشاكل، لكنّها قامت بتعديلٍ جذريٍّ لموقف الفرد تُجاهها“.

في كتاب “وجهة العالم الإسلامي” الصادر سنة 1954، كان بن نبي قد أشار إلى ذلك الموقف المعبِّر عن اضطراب نفسي دفين لدى المفكر محمد إقبال عندما تطرّق إلى حياة المرأة في أرض الإسلام. يقول بن نبي: “كُنَّا نراه مذبذبا بين التقاليد الشرقية التي تقضي بعزل المرأة عن الحقيقة بحجاب أو (مُشربية)، والنظرة الغربية المتفتحة تفتحاً غير مشروط، والتي تتيح للمرأة أن تكون في مستوى واحد مع الواقع. إنّ هذا الموقف المتذبذب يشهد على الاضطراب العام الذي يتخبّط فيه الوعي الإسلامي الحديث، ذلك الوعي الذي يهيم على وجهه بين حلّين لا يجد في كليهما إلاّ زَيْغاً مؤسِفاً… وينبغي الإقرار بأن ذلك هو السبب في اضطراب العقول النيِّرة، وقد نتج عن ذلك جمود في الأفكار لأنَّه صار من غير الممكن أن يتراجع المجتمع الإسلامي إلى الوراء، أي إلى مرحلة ما بعد الموحِّدين، ولا أنْ يمضي إلى الأمام على غير هُدى باتجاه الغرب. وهكذا يعطينا العالم الإسلامي انطباعاً بأنه يعيش في منطقة تاريخية جدباء تقع بين فوضى ما بعد الموحّدين والنظام الغربيِّ“.

لقد وجّه مالك بن نبي في كتاب “النزعة الأفروآسيوية”، سنة 1956، نقداً عاماًّ إلى المثقفين المسلمين الذين كان يُخمِّنُ أنَّ فيهم “نوعاً من النفاق الذي يتجسَّد في عجزهم عن طرح مشاكل العالم الإسلامي ومعالجتها معالجة مناسبة…  إنّ التعلّق المَقِيتَ لدى المسلم بأوضاع يريدها مثالية لأنه يظنّ أنها إسقاط للفكرة الإسلامية في المجال الاجتماعي، هذا التعلّق يولِّدُ عنده نوعا من الانسداد أو اللاأمن الفكري التي يُرغمه أحياناً على غض الطَّرْف عن بعض المشاكل، ذلك أنه يخشى ـ لو واجه المشاكل بصدق ـ أن يصطدم بأحد الطابوهات الدينية الناتجة عن الفكرة التي أدت إلى الانسداد...”.

ويضرب مالك بن نبي مثالا بشخص سيد قطب، مُنَظِّر “الإخوان المسلمين”، فيقول: “في بعض الحالات، وعندما يتعلق الأمر بمثقف ينوي دراسة مشاكل العالم دراسةً إيجابية، يٌفْرَضُ نوعٌ من التحديد لفكره، ممَّا يؤدي إلى تغيير طبيعة تلك المشاكل… لقد أراد أحد هؤلاء المفكِّرين أن يصمم مخطط عمل، واختار ـ وهو مُحِقٌّ في ذلك بلا شكّ ـ أن يكون عنوانه “نحو مجتمع إسلامي متحضِّر”. لكنه بعد التفكير مَلِياًّ أدخل تعديلاً على عنوانه ليصير كالآتي: (نحو مجتمع إسلامي). في هذا المثال نرى أن الصِّلةَ المَقيتَة تتدخل في شكل انسداد فكريٍّ يفرض التعديل المشار إليه. ولا أظن أن هذا المفكر الفذَّ قد أدرك أن الكلمة المحذوفة من عنوانه غيّرت طبيعة المشكلة من أساسها، وذلك بإخفائها أو تنويمها بشكلٍ ما في نفسه… وهكذا تهرّب هذا الرجل الفذَّ من مشكلة العالم الإسلاميّ الأساسية بمجرد أنه نوى الاعتقاد بأن المجتمع المسلم متحضِّر بذاته، ودَفَعَنا إلى أن نقتفي خُطاه في هذا المسلك“.

ويعود مالك بن نبي إلى هذا الموضوع ثانية في كتاب “مشكلة الثقافة” سنة 1959، إذ يقول: “إن المسلم يشعر بعدم الارتياح لأنه شعر بحضوره الغريب في عالم لا مكان له فيه، لكنه يُغالط نفسَه عندما يعْزو داءه إلى غياب أشياء كثيرة من خزانته، والحقيقة أنّ ما ينقصه بصفة خاصة هي “الأفكار”… إنّ على المُربّين في البلدان العربية أن يتفادوا تعليم الشباب أساليب تقليد الروس أو الأمريكان بشرح كيفية اتباعهم، لكن، وعلى عكس ذلك، عليهم أنْ يعلّموهم كيف يمكن لهم اكتشاف الطريق المؤدية إلى ريادة البشرية. وللتمثيل، فلو أنّ هذا الشباب تبنَّى فكرة اندماج البشرية، وذلك بتسخير ذكائه وشغاف قلبه بالكامل كرسالة شخصية، لو فعل ذلك لصار رائدا للمسيرة في الاتجاه الذي يبدو أن مصائر البشرية قد سلكته. وبذلك سيتخلص الشباب من حالة القَرَف التي تسيطر على أنفسنا اليوم، ومن بعض الأوهام الخرافية التي تُثْقِلُ صدورنا“.

إنّ حالة اليأس التي اكتشفها بن نبي عند المثقفين المصريين الثلاثة وعند المفكر الهندي الباكستاني (محمد إقبال) هي الحالة نفسها التي اكتشفهاعبد الرحمن الكواكبي قبله بحوالى قرن في سلوك معاصريه. وهو يأس مرتبط بوطأة الدين على فكرهم، تلك الحالة التي دفعت بهذا المفكر السوري الذي عاش خلال القرن 19 إلى أنْ يقول: “ليس من الحكمة أن يشعر أهل زماننا بأنهم مُقَيَّدون بآراء مَنْ سَبَقوهم بعشرة قرون… إن الله يعرف محاسن المصير الذي كتبه لكم، وقد ترك لكم الحرية في اختيار القرارات التي تتخذونها في شؤونكم لكي تكيِّفوها مع مقتضيات زمانكم التي لا تعرف الثبات على حال. لذلك، فلو أنك عالجْتَ أكثر شؤون الحياة بهدوءٍ وقرارٍ حُرٍّ لكان هذا خيراً من أنْ تعالجها وأنت متضايق، وأنت لا تعرف ما إذا كان فعلك مطابقا أو معاكسا لأمر الله. وبهذا تحيا خائفاً، ليس من الله الذي هو أصل كل سيرة حسنة، بل في قلق روحي وتردد في اتخاذ أي قرار،  وينجرّ عن هذا غياب تام للمبادرة والقدرة على تسيير الشؤون”.

وبعد الكواكبي بأزْيد من قرن، وبعد بن نبي بنصف قرن، لا يزال المشكل قائما، بل إنه ازداد خطورةً، وامتدّ إلى جماهير المسلمين الذين اختاروا ألاّ يختاروا أي مسلك لأنهم بقوا مترددين بين خيار المجتمع الحديث والمجتمع الديني التقليدي، وراحوا يُلمْلِمون مظاهر الثقافتين في مزيج جاء أثره في أقبح ما يَكُون. وأكثر ما نلاحظ هذا التردد في موقفهم من الإسلاموية التي استولتْ على قلوبهم كبديل سياسيٍّ في معظم الدول المسلمة التي جَرَتْ فيها انتخابات حُرَّة، إضافةً إلى الإرهاب الذي يبدو لهم أنه لم يقُمْ بما يجب لكي يُفَجِّرَ لديهم نوبة رفض صريح وإدانة مُطْلقةً لِما هو قائم.

هذا كلّ ما يتعلّق بالظروف التي أحاطتْ بصدور كتاب “فكرة كومنويلث إسلامي”. أما في محتواه فهو يطرح مشكلاً لأنه صدر سنة 1960 إثْرَ الأفق الذي انفتح بعد صدور كتاب “وجهة العالم الإسلامي” وكتاب “النزعة الأفروآسيوية”،لأن الانطباع الأولي الذي تتركه هده الدراسة هو أن الكاتب تراجع عن مواقفه، ذلك أنه في “وجهة العالم  الإسلامي” كان يصبو إلى النزعة العالمية، وفي “النزعة الأفروآسيوية” يقترح مسعى براجماتياًّ من أجل تحقيق الالتحام بين إفريقيا وآسيا، أما في “فكرة كومنويلث إسلاميّ” فهو يؤكّد على معيارٍ ديني من أجل تأسيس مجموعة سياسية اقتصادية. فبقدر ما أبهرنا بما أثبت من القدرات الإبداعية لرسم مستقبل عالمي ـ أو جهوي على الأقل ـ للإسلام في الكتابين الأوَّلَيْن، بقدر ما أدهشنا تراجعه القَهْقَرَى إلى كومنويلث على أساس إيديولوجي. لكنْ، هل هذا هو واقع الأمر ؟

بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى القاهرة نهاية أفريل 1956، وجّه بن نبي رسالة إلى الأمين العام للمؤتمر الإسلامي، وهو أنور السادات، وذلك بتاريخ 20 جويلية 1956 (أي ثلاثة أشهر قبل صدور”النزعة الأفروآسيوية”). وممَّا جاء في تلك الرسالة: “أسمح لنفسي بأنْ أضع بين يديكم وثيقتين متعلقتين بمشاكل العالم الإسلاميّ. الأولى عبارة عن فصل اقتبسته من كتاب عنوانه “النزعة الأفروآسيوية، وهو الكتاب الذي خصصته للمشاكل التي أثيرت في باندونغ من زاوية نظر اجتماعية. وقد ارتأيْتُ في هذا الفصل، التزاماً بمقتضيات الأطروحة، أنْ أُبْرِزَ أحد الأعراض المَرَضية في تطور العالم الإسلاميّ حالياًّ، وذلك بالتأكيد على ضرورة المنهجية في مثل هذه الدراسة، والمتمثلة في الفصل بين ما هو روحيّ وما هو اجتماعي، وذلك من أجل النظر بمزيد من الحرّية إلى هذا العَرَضَ من أعراض الأمراض الاجتماعية التي يشكو منها العالم الإسلاميّ حالياًّ. أما الوثيقة الثانية فتتمثل في خُطّة لدراسة العالم الإسلامي بغرض تنظيمه في شكل كومنويلث إسلاميّ… أعتقد أنّه لو أُنْجِزتْ هذه الدراسة بكاملها، ورافقتها عملية نشرٍ بانتظام، فإنها ستكون أحسن مُوَجِّهٍ للجيل الحاضر، وأحسن دواء لعلاج الاضطراب الذي يسيطر على ذاتها حاليا. إنني أعتقد أنه بتحديد وظيفة كومنويلث إسلاميّ فإن المؤتمر الإسلاميَّ يكون قد أعطى للجيل الإسلاميِّ الحاضر معنى مهمته التاريخية، ويكون في ذات الوقت قد أبْعد عنه الكوارث التي تقبع في ذاته. ولكي أعبّر عن فكرتي كاملة لا بدّ لي أنْ أضيف أني أخشى أنه بعد عشر سنوات سيكون قد فات الأوان“.

قد يذهبُ البعض إلى أنَّ بن نبي كان مبالغاً في الآمال التي علَّقها بالنزعة الأفروآسيوية. والحقيقة أنه مباشرةً بعد بثّ هذه الفكرة مكّنه حماسُه من رؤية تركيب جديد يتنامى، وهو الحضارة العالمية التي بدأت في الظهور على أرض الواقع. وهذا رغم أنه كان يعرف أنَّ الفكرة لم تخْتَمِرْ بَعْدُ. والواقع أنّه حمّل ذلك المشروع مسؤوليات تفوق طاقته على الاستيعاب، وهي: إخراج البلدان المتأخرة من حالتها وإرغام البلدان المتقدمة على التراجع عن (قُوَتِهَا).

لكن مفكرنا لم يُجازف كثيرا فيما يتعلق بحظوظ نجاح الفكرة، إذْ نراه يُعبِّرُ عن موقفه الحذِر في كتاب “النزعة الأفروآسيوية” قائلاً: “إنّ مؤتمر باندونغ هو أوّلاً حصيلة من الافتراضات. ويبقى أنْ تُحَيَّنَ هذه الافتراضات إلى واقع ملموس يُتَرْجِم الأفكار المتولدة عن المناقشات إلى خارطة طريق دقيقة المعالم، وإلى إنجازات فعليَّةٍ كفيلة بتغيير حياة الإنسان الأفروآسيويِّ”.

 وإنْ لم يحضُرْ بن نبي مؤتمر باندونغ الأول في أفريل 1955، فإنه كان حاضراً في المؤتمر الثاني الذي انعقد في القاهرة شهر ديسمبر 1957، وهناك تراءى له  “عدم جدوى بذل مجهود لتحقيق وحدة اقتصادية داخل جمعية أعضاؤها لا تربطهم رابطة”. تلك كانت الثغرة الأولى التي ظهرت في حلمه الأفروآسيوي، وانطلاقاً من ذلك رجع إلى “خُطّة لدراسة العالم الإسلامي بغرض تنظيمه في شكل كومنويلث”.

إنّ ما كان يخشاه بن نبي بالتحديد هو أنْ تُفْهَمَ فكرة الكومنويلث هذه على أنها تراجع في فكره، ولهذا نجده يلتمس لنفسه مبرِّراً في مقدمة الطبعة الثانية من كُتَيِّبه هذا سنة 1971، إذ يقول: “إذا كان الكاتب قد حرّر هذه الصفحات منذ خمس عشرة سنة من منظور أفقٍ مستقبليِّ على وجه التحديد، فإنَّه قد صار من الضروري اليوم أن يُنْظر إلى المشكل ثانيةً من منظورِ أفقٍ إنسانيِّ على أوسع مدى… وإذا كان الأفق الأول لم يطرأ عليه تغيير يُذْكر منذ خمس عشرة سنة، فإن الأفق الثاني طرأ عليه تغيير جذريّ. ويتأكّد هذا في كون الإسلام، ونحن نقدم هذه الطبعة الثانية، لم يعُدْ يعني المسلمين وحدهم، بل الإنسانية قاطبة… والكومنويلث الإسلامي يجب أن يظهر إلى الوجود كإعادة تأسيس لحضارة، لا كشكل جديد للإمبراطورية… ولا يُمكن أنْ يُتصوَّر كبنية سياسية اقتصادية واستراتيجية بسيطة مُتكيِّفة مع موازين قوة جديدة في العالم، مثل النموذج البريطاني، لكنْ كبنيةٍ أخلاقية وثقافية ضرورية ـ ليس للخروج من الأزمة الاجتماعية التي تتخبط فيها البلدان الإسلامية اليوم فحسْب ـ بل للخروج من الأزمة الروحية التي تتخبط فيها الإنسانية جمعاء“.

ولم يكن يغيب عن بن نبي، وهو صاحب الرأي الصائب والحصافة البيّنة، أنَّ جمع المجتمعات المتعددة التي تُكوِّنُ العالم الإسلامي في وحدة واحدة ضرب من المجازفة، ناهيك عن تبعثره الجغرافي، فقد كان العالم الإسلامي في الوقت الذي ألَّف فيه هذا الكُتَيِّب، وحسب المصطلحات التي استعملها هو نفسه، منقسما إلى ستِّ مجموعات، هي: العالم الإسلامي الأسْود أو الإفريقي، والعالم الإسلامي العربي، والعالم الإسلامي الإيراني (إيران، أفغانستان، وباكستان)، والعالم الإسلامي الماليزي (أندونيسيا وماليزيا)، والعالم الإسلامي الصيني المونغولي، والعالم الإسلاميّ الأوروبي.

وعندما تحين ساعة تنفيذ المشروع (أي الكومنويلث الإسلامي) فإن الكاتب يشير إلى أنه يجب ألاّ ننطلق من نقطة مركزية كما حدث في عهد الرسول (ص)، أي انطلاقا من بلد مُعيّن، بل انطلاقا من كل عالم من العوالم سابقة الذكر، ثمّ يتمّ التلاحم واللقاء في المركز الذي هو فكرة الكومنويلث نفسها. والأمر لا يتعلق بالسعي إلى تحقيق ذوبان تلك العوالم، بل إلى إيجاد تمفصُلات بينها. أمّا المبدأ الذي سيُحدِث الإدماج بينها فسيكون مصدره تلك الوحدة الروحية التي تجمعها، لكن “تلك الوحدة الروحية لا يمكن أن تؤدي دورها الإدماجي بفعالية إلاّ إذا تجسّدت في شكلٍ مناسب يمثّل الشكل المؤسساتي للإرادة الجماعية في العالم الإسلامي”.

وكان بن نبي في المجمل أقرب إلى فتح مسارات عمل منه إلى تقديم اقتراحات بهذا الشأن التي ارتأى تركها لتقدير الدول. وجاءت خاتمة الكتاب بصيغة تحذير (الظرف كان سنة 1958)، إذ يقول: “لا بد من القيام بثورة اجتماعية من الداخل، وإلاّ فإنها ستأتي من الخارج. فالخطر مُحَدِّق بنا خلال العشرين سنة المقبلة“.

كما طرح في خاتمة الكتاب هذا السؤال المُحَيِّر: “هل يمكن للعالم الإسلاميّ أن يُنْجِز ثورته عبر مسار مُعيّن ومَضبوط بمخطط مرسوم مسبقا يأخذ بعين الاعتبار المعطيات النفسية والعوامل الاجتماعية الخاصة بالمجتمع الإسلامي الحالي ؟ أم أن العالم الإسلامي سيجد نفسه ُمُنْجَراًّ إلى ثورة لا يتحكَّمُ فيها بسبب ضرورات التكيّف مع مسار تطوّرٍ عالمي سرعتُه تتزايد يوميا ؟”.

وعندما عَلِمَ بتأسيس مركز للدراسات الأفروآسيوية في تل أبيب، سجّل في دفاتره ما يأتي: “إن بن غوريون يعرف أن قوى القارتين اللتين اجتمعتا في باندونغ لن تتمكّن من تشكيل قوة مُوَحَّدة بخطابات سياسية بسيطة أو بِبِنَايَاتٍ مشيّدة في القاهرة أو غيرها، بل بإيديولوجيا أفروآسيوية لم يُعبَّرْ عنها إلى حدّ الآن إلاَّ في كتابي… إنه (أي بن غوريون) جدير بالإعجاب: فهو رَجُلٌ بِحقّ“.

لقد سبق لنا أن ذكرنا المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي خلال هذه السلسلة. وكان معاصرا لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وقد ذكرناه لقرب أفكاره من أفكار بن نبي. فهو الذي اقترح في كتاباته مخططا حقيقيا لإعادة بناء الفكر والتنظيم السياسي في العالم الإسلامي. والكواكبي هو صاحب كتابيّ “أمّ القُرى” و”طبائع الاستبداد”. كما أنه نشرعدة مقالات في الصحف.

لقد تصوّر في الكتاب الأول إمكانية انعقاد مؤتمر إسلاميّ جامع بغرض وضع أسس لتوحيد البلدان الإسلامية في شكل فيدرالية تضمّ دولاً مستقلّة تضطلع في إطارها كل دولة أو مجموعة من الدول بدور خاص بها. يقول: “بعد قيام المؤتمر ببحث دقيق وفحص مُعمَّق للوضعية ولأمزجة كل الشعوب والظروف المحيطة بها، ومعرفة إمكاناتها في النهاية، فإنّ المؤتمر قد قرّر أن على شبه الجزيرة العربية وأهلها أن يتفرّغوا للسياسة الدينية…

أما العناية بالحياة السياسية وخاصة منها الشؤون الخارجية فيجب أن تُسْند إلى تركيا، أما الرقابة اليَقِظة للحياة المدنية وتنظيمها فالأحسن أنْ تُسنًدَ إلى المصريين. وعلى الأفغان والتركمان والقوقازيين شرقاً، والمغاربة وأهالي إمارات إفريقية غرباً، أن يتولَّوا مسؤولية الشؤون العسكرية. وأخيرا فإن الحياة العلمية والاقتصادية يجب أن تكون تحت إدارة الإيرانيين وسكان آسيا الوسطى والهنود والشعوب المجاورة لهم…” (1).

فكتاب “أم القرى” هو بمثابة تقرير مفصَّل عن هذا المؤتمر ـ الذي لا نعرف إلى يومنا هذا هل كان حقيقيا أم خياليا ـ والذي انعقد سنة 1898 في مكة بحضور ثلاث وعشرين ممثِّلاً قادمين من مختلف بلدان الإسلام: من الصين وروسيا وأنجلترا. وكان الهدف من هذا اللقاء هو تلخيص حوصلة عن أوضاع العالم الإسلامي المتدهورة، ووضع مخطط لتدارك الوضع. وينص هذا المخطط على إعادة ترتيب نظام الخلافة الذي لن يكون إلاَّ رمزياًّ، وتأسيس منظمة إسلامية جامعة للتربية تتكفل بتوحيد البرامج التعليمية الوطنية.

وأعتقد أنّ هذه كانت أول محاولة قام بها عقلٌ مُسلِمٌ للتحرر من التصور السابق للنهضة، والذي كان ذا أساس أخلاقي صِرْفٍ، وأتى ببديل عنه متمثل في مقاربة سياسية وبراجماتية. وسنعود لاحِقاً إلى الأفكار الرائدة التي أتى بها هذا الرجل الجدير بالإعجاب(2).

وإذا كان بن نبي قد فقد الأمل في رؤية النزعة الأفروآسيوية تتكرّس كمَعْلَمٍ في طريق النزعة العالمية، فإنه لم يُخَامِرْه أدنى شك في حتمية هذه الاخيرة، ذلك أنه كان يرى فيها الغاية التي يتجه إليها التاريخ. وعندما أُسست منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1960 رأى في ذلك مناورة من مناورات الصراع الفكري، وكتب في إحدى مقالاته يقول: “إنّ منظمة الوحدة الإفريقية هي ابن غير شرعيٍّ للإمبريالية وإفريقيا، لكن إفريقيا وضعته دون أن تعرف حتى مَنْ يكون أبوه، ولا أنَّ ابنها هذا وُلِد ببساطة لكي يضع حجابا حاجزا بينها وبين آسيا“.

وفي سنة 1964 كتب في كتابه “افاق جزائرية” Perspectives algériennes”: “إنّ مفعول الطاقة التي فجَّرَتِ الحربين العالميتين أوقفها عند حدّها مفعول مُضادّ لها بطريقة آلية، ذلك أنها تسببتْ في رسم أفق حرب عالمية ثالثة. وإذْ ذاك فإنَّ موازين القوة تركتْ مكانها لموازين جديدة خاضعة لمقاييس الأفكار. وهكذا صارت الديمقراطية والاشتراكية والسِّلم موضوعا لمقدمات كل الدساتير الوطنية، وصارت وِجْهةً لتطوّر البشرية. ويبدو أنّ هذه الأفكار الثلاثة إرهاص لظهور دستور عالميّ، وهي منذ الآن تُكوِّن مبادئ إيديولوجيا عالمية، وذلك من أجل تكليل جهود الإنسان المتجه إلى المرحلة العالمية”.

وقبل وفاته ببضعة أشهر باح بن نبي في إحدى مقالاته في جوان 1973 بما يأتي: “إنّ مسار التاريخ المثقل بكل تجارب البشرية، والمُثْخَن بالزّخَم المميِّز للحضارة الحالية، يبدو أنه اقترب من غُرّة القرن القادم وأمامه أُفقٌ عجيب. فسنة 2000 يبدو أنها، في بحر الزمن، هي عتبة عودةٍ مُقدَّسة يكون فيها، إمَّا التصالح بين البشر وإمَّا الطوفان الذي سيقضي على مصيرهم. وليس لنا أن نتنبَّأ بالآفاق المستقبلية، لكن يحقُّ لنا كمسلمين أنْ نحدد دورنا كي نوجهه إلى مخرج إيجابي. إننا نعرف مسبقا دورنا في جميع الحالات، فالقرآن الكريم قد حدده بوضوح في قوله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة- 143). وسواء أكانت عودة مقدّسة أم طوفاناً فذلك هو دورنا في البدء، لكن قبل هذه الشهادة وبعدها، يجب علينا أيضا بطبيعة الحال أن نضطلع بدورنا كإخوةٍ للبشر الآخرين لكي ننقذ مصيرنا المشترك”(3).

ولكون بن نبي متعلقا بتوجّهٍ رشيدٍ ومتفتح للإسلام، ووفاءً منه لفكره فهو يبيّن : “يجب أن نعطي للإسلام الذي نفكر به، ونعيشه جميعا، بُعْدَ (حقيقةٍ مُشتغلة). وهذا يعني أن هذه الحقيقة يجب أن تتعهّد بالسعي إلى مستقبل الأخوة للإنسانية جمعاء“.

وقد حاولت ديبلوماسية العالم الثالث، بدافع الحنين، أن تبثّ الروح في ذلك الجسد الميِّت. كان ذلك سنة 2005، لكن بدون جدوى. وهكذا عُقِدَتْ قمّة في هذه السنة، حضرها خمسون رئيس دولة يجمعهم “التشبث بروح باندونغ”، ووقّعوا على بيان يدعو إلى تطوير الشراكة الإستراتيجية الأفروآسيوية، ويقرر عقد قمة كل أربع سنوات، واجتماع لوزراء الخارجية كل عامين. وفي هذه القمة تحدث رئيس الجمهورية الجزائري عن “إعادة بعث النزعة الأفروآسيوية… فرياح باندونغ لم تتوقف أبداً رغم أنها فقدت بعضا من قوتها أحيانا”. ولم يتمّ الوفاء بأي التزام من الالتزامات السابقة، وآلت الفكرة إلى الزوال.

إنَّ الأحداث الأخيرة التي عُرِفَتْ باسم “الثورات العربية” قد بيّنت إلى أبعد حدٍّ أنَّ البلدان العربية الإسلامية لا تملك زمام أمرها، كما أنها تفتقد لأية رؤية حول ما يمكن وما يجب أن تكون عليها حياتها ومستقبلها بين الأوطان، إنها تعيش في بُعْدٍ آخر، والكيفية التي تعيش بها ليست نظام حياة. إنها تعمل على سدّ الرمق، لكن داخل نظام جامد يعيش من إنجازات غيرها من الأجناس مُقايضةَ بثرواتها الطبيعية.

ولقد تمكّن المسيحيون من حزم بنود عقيدتهم التي فيها ما يُقال، ومعها مبادئهم وشعائرهم، في قيم أخلاقية وإنسانية تحضُّ على اللطف واللّين، أمّا المسلمون فقد جرّدوا قيم الإسلام من الروح الإنسانية: جفّفوا تلك القيم وجردوها من البُعد الاجتماعي وجرّوها إلى عدم التسامح وغلظة القلب. وإذا كانت المسيحية واليهودية قد سَايَرَتَا مسيرة الحداثة، فإنّ الإسلام يواصل سيره بعيدا عن الحداثة. إنه يهيم وحيداً، بدون غاية، بدون شِرْعة، وبدون رؤية حول المستقبل، والعقل فيه مطموس بفكرةٍ واحدة هي الغيب.

إنّ وجود المسلم على الأرض ليس من أجل أداء أية مهمة ـ اللّهُمَّ إلاَّ إذا استثنينا الوهم الذي يتشبث به دوما وهو أنه سيأتي يوم ينضمّ فيه غيرُه إليه ويتبنى أسلوب حياته وتفكيره – المسلم لا يؤدي أية مهمة سوى ربح “الحسنات”، ونيل الضمانات لدخول الجنة، بناءً على حديث الرسول (ص) القائل فيما معناه: “إن الأمم ستتداعى على المسلمين ليس من قلة عددهم ،بل هم كثر،لكنهم غثاء كغثاء السيل”.

إنَّ الهند والصين والفيتنام بلدان رزحت تحت نير الاستعمار لفترات متفاوتة الطول، لكنها أخذت الدرس من تجاربها الماضية، فقامت بإعادة تقييم رأسمالها الفكري، وهي الآن في طريقها لتبَوُّإ أعلى مراتب القوة. أما المسلمون فينقصهم جِدُّ الآسيويين وتواضعهم وبراجماتيتهم. إن الغطرسة واحتقار الغيرهو ما يتميزون به. يجب أْن نتذكّر ما كاله العرب لإسرائيل من كلام فارغ خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، ومقارنة تلك العجرفة الكلامية بوضعهم المُفْلِس اليوم. فحروبهم لم تَعُدْ ضدَّ إسرائيل، بل صاروا يتناحرون فيما بينهم بضراوة و بأبشع الصور.

إنّ استراتيجية الدول المسلمة اليوم ليست متجهة إلى وجهة الاتحاد، بل إلى وجهة التدمير المتبادل في صالح العدوِّ المشترك. إنّ كُلاًّ من رجال السياسة ورجال الدين يساهم في تأجيج نار الحقد المتبادل بسبب تفاهات، وكأنّي بهم موكلون بتدمير العالم الإسلامي والإسلام بعد أن هووا بهما في أسفل درك الانحطاط. إنّ أخطر شيء في مسار الانحطاط ليس ضياع الأراضي أو القدرات العسكرية، بل ضياع معنى الأفكار.

ومالك بن نبي يُعبِّر عن هذه الظاهرة بـ “فقدان الأفكار لقيمتها”، فقد كتب في “مشكلة الثقافة” يقول: “عندما ظهرت أعمال ابن خلدون في العالم الإسلامي، لم يكن بإمكانها أن تساهم  في رقيه الفكريّ ولا الاجتماعي، لأن تلك الأعمال كانت تمثل آنذاك فكرة مفصولة عن الواقع. وعلى أية حال، ففي مثل هذه المرحلة ليست الفكرة وحدها هي التي تفقد دلالتها الثقافية وقدرتها على خلق أشياء، بل إن في المقابل نجد أن الشيء نفسه يكون عاجزا عن توليد أفكار. وكمثال عن ذلك نتساءل: ماذا يمكن أن تكون الفائدة من “تفاحة نيوتن” الشهيرة لو أنها سقطت على رأس أحد أجداده من عصر غليوم الفاتح(Guillaume le conquérant) بدلا من سقوطها على رأس نيوتن (Newton) ؟ واضح أنها لم تكن لتكشف عن فكرة الجاذبية، وكل ما سينتج عن سقوطها هو قشورها بعد أن يكون جَدُّ نيوتن قد التهمها. وهكذا يتبيّن أن الفكرة والشيء لا يكتسيان قيمة ثقافية إلاَّ في ظل شروط معينة. إنهما لا يخلقان الثقافة إلاّ من خلال المصلحة العليا التي بدونها تتجمّد الحياة في عالم الأفكار و عالم الأشياء كما يحدث في أي متحف، وتفقد كل فاعلية اجتماعية حقيقية. ويمكن تأويل تلك المصلحة العليا بالنسبة للفرد على أنها الصلة العضوية التي تربطه بعالم الأفكار وعالم الأشياء. وإذا غابت هذه الصلة فإن الفرد يفقد التحكم في الأفكار وفي الأشياء على السواء. إنه يكتفي بالسباحة على سطح الأشياء دون التغلغل في ثناياها، وهو يمرّ مرور الكرام على الأفكار دون التعرف عليها “.

 

المراجع:

1) عن كتاب:”الافكار الاصلاحية للكواكبي” Norbert Tapiero “Les idées réformistes d’al-Kawakibi”, les Ed. arabes, Paris, 1956.

2) سرعان ما نالت فكرة مؤتمر إسلامي جامع إعجاب النخب الإسلامية في تلك الفترة. فبعد المحاولة التي قام بها أحد الزعماء المسلمين في شبه جزيرة القرم، وهو إسماعيل باي جاسبرانسكي، لجمع هذا الشمل سنة 1906 ، اختفت الفكرة بسبب أحداث تلك الفترة (الحرب العالمية، والثورة البلشفية…). لكن بعد إلغاء الخلافة في تركيا سنة 1924 عادت إلى الظهور. وهكذا انعقد (المؤتمر من أجل الخلافة) في ماي 1926 بالقاهرة، وانعقد (مؤتمر العالم الإسلامي) في مكة شهر جويلية من نفس السنة. حاول المؤتمر الأول أن يُعيِّنَ خليفة جديداً، لكن بدون جدوى، بينما اكتفى الثاني بالنظر في الفروق الموجودة بين الوهابية والمدارس السُّنِّيَّة. وعُقِدَتْ مؤتمرات أخرى في 1931 بالقدس، وفي 1932 في الهند، وفي 1935 بجنيف. وتمخضت الفكرة عن تأسيس (منظمة المؤتمر الإسلامي) سنة 1961.

3) « La promesse de l’islam »”وعد الاسلام”, “ماذا أعرف عن الاسلام”« Que sais-je de l’islam » n° 10, juin 1973.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى