بين الفكر والسياسة

  أين نحن  مند الاستقلال؟(7  المستقبل

بقلم: نورالدين بوكروح

ترجمة: بوكروح وليد 

    وصلنا  إلى ختام هذه السلسلة الخاصة بذكرى  الاستقلال. كان من الواجب خلالها العودة إلى الماضي لنُحاول إيجاد مَعنىً لتاريخنا البعيد والقريب, ونَسعى لتأسيس فكرة عمَّا يُمكن أن يَكون عليه مستقبلنا. فَأَينَ نحن إذا بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال؟ لا نَزالُ مُعَلَّقين بين مأساة لم تَنطفئ بَعدُ تماما, و بَين مستقبل يُمكنُنا التنبؤُ ببعض خطوطه عبرَ قراءة حاضرنا المعاش, و تَأمُّل و تحليل الاتجاهات التي سوف يقودنا إليها.

 

أَشَرتُ في أول جزء من هذه السلسلة إلى مقتطفات من سلسلة مقالات نَشَرتُها في 1984 بمناسبة ثلاثينية اندلاع ثورة نوفمبر, تَساءلتُ من خلالها عمَّا إذا كُنّا نَملكُ مستقبلا و عمَّا ستكون عليه بلادنا بعد ثلاثين سنة, ذاكرا بالتحديد سنة 2014 .الأحداث بَرَّرت على نَحو واسع تساؤلاتي. إذ أَوشكت الجزائر عُشريَّةً  بعد مَقالاتي أن توضع تحت الوصاية الدولية, كما ترك مئات الآلاف من المواطنين أرواحَهم في ما نَصطَلحُ عَلَيه اليوم باحتشام “بالمأساة الوطنية”, ناهيك عن التداعيات الاقتصادية المتواصلة لهذه الأخيرة, و التي ستُثقل طويلا كاهل ميزانية الأمة الهشة. أَجدُ اليَوم نفسي أَطرح ذات السؤال مُجدَّدا, قاصدا به الخمسين سنة القادمة. الكثير منا, و أنا أَوَّلُهُم, لن يكون حَيّا و لكن: ماذا عن بلادنا؟ هل ستكون على قيد الحياة في عالم ذلك الوقت؟ و إن كانت فَعَلَى أي حال ستكون ؟

 

إن عبارة “المستقبل المشرق” ليست سوى مثلاً جميلًا و استعارة بليغة على لسان الشعراء أو السياسيين. يمكن للقادم أن يكونَ أسوءَ بكثير من ماضينا القريب الذي نتذكرُهُ جيّدا. فالمستقبل ليس وليد الصُّدَف أو القَدَر, و إنما هو بكُلّ بَساطة النتيجةُ الحتميةُ للماضي و التَكملةُ المنطقيةُ للحاضر. تَكملةٌ يمكنها أن تكون تخليدا له من خلال الاستمرار في نفس الممارسات التي سَتُفرزُ نفس النتائج أَو, و ذلك مُمكنٌ أيضا, أن تؤدي إلى تحسّنه عبر العمل بأفكار جديدة تُعطي نتائجَ أفضل. لكننا نَتذكّر ما كان عليه الماضي و نَرى ما هو عليه الحاضر.

 

في الماضي البعيد لم نكن لنُستَعمَرَ لو كنا موحَّدين بوَعي جماعي وَ لَو حملنا شعورا وطنيا. و لو سبق أن شكلنا سلطةً مركزيةً ذاتيةً لمَرَّة واحدة في تاريخنا, أو طَوَّرنا أساليب إنتاج اجتماعية, أو حتى لو ساهمنا قليلا في الاكتشافات التكنولوجية و العلمية التي تَخلَّلت في الخارج مسيرة َتقدُّم الإنسانية. فنحنُ لم نَتَخَلَّف فَقط عن الالتحاق بالطَّور الاجتماعي المُنظَّم رغمَ انقضاء آلاف السنين علينا,  بل كذلك لم يستخلص أجدادنا الدُّروس من الاستعمار الأوَّل ثُمَّ الثاني ثم الثالث إلخ. أتساءل حتى إن كنا نحن المعاصرون قد استخلصنا العبرة من آخر واحد منها.

 

و في الماضي القريب كان سَيَكُون لنا مستقبلٌ آخر لو وُضعَ رجالٌ من مقام فرحات عباس على رأس البلد في 1962 بَدَل أن يُزَجَّ بهم في السجون, أو يُفرَضَ عليهم السكوت و حَضرُ مغادرة التراب الوطني إلى الممات, لا لشيء سوى لاتّهام رخيص “بالبرجوازية” أو “الرجعية”. لكن انتصار الشعبوية الاشتراكية على العقلانية و الذكاء, مَضى بالجزائر قُدُمًا و بخُطًى ثابتة إلى أزمة 1988. و لنُوَضّحَ هنا إن وَجَبَ التَّوضيح, فإن الشّعبوية ليست حُبَّ الشّعب أو التَّعلق بمصالحه, بل هي استعماله و استغلالُه دون ضمير من أَجل بُلوغ أَهداف إيديولوجية و سياسوية.

 

و كان سيكون لنا مستقبل مختلف بعد أكتوبر 1988 أيضا, لَو لَم تَستَول الشَّعبَويَّة الدينية على حماس واندفاع الجماهير, و لَو لَم يَتَرَشَّح راسبوتين لخلافة ستالين. فَنَزَلَ علينا نتيجةً لذلك الإرهابُ يَجُرُّ الخرابَ و سلاسلَ القتلى خلال العشرية الحمراء, و لَم تُنقذنا في آخر لحظة إلّا أحداث 11سبتمبر 2001 ثُمَّ ارتفاع أسعار المحروقات ابتداءً من 2002. لَم نَكُن لنستطيعَ الصمودَ و البقاء إلى الوَقت الحالي دُونَ هَذَين العاملين الخارجين عن نطاق سيطرتنا, و اللَّذَان التقطانا و نحن على شفى حفرة من النار. يُفتَرَضُ بنا اليوم إذا أن نكونَ قَد فَهمنا جَيّدا أَينَ لا يَجبُ علينا البحث عن المستقبل: في الشعبوية, سَوَاءَ كانت تلك النَّابعة من نظام الاستبداد الجاهل أو بَديلَتُها التي تَجُرُّها الشعوذة الأُصولية. إلّا أنّنا لا نزالُ نَتأَرجحُ بين الاثنتين, و عندما تنسحبُ الأولى لا تَلبَثُ أن تُعَوّضها الثانية.

 

فَنَحنُ نُلاحظ مثلا أن حاضرنا يَشهَدُ عودةً قويةً نَحو الانحطاط و الظَّلاميّة و ثقافة الحكايات و الأساطير المستوردة من المشرق. لم تكن تَنقُصُنا إلّا “الرّنقيلة” و ها هي غَزَت اليوم مقاهينا و بُيوتَنا. شَعبُ ثَورة أوّل نوفمبر و سنوات الستّينيات و السّبعينيات اختفى اليوم من الوجود. لا أقصد الأموات منه بل الأحياء, الذين لم تبقى إلا أَقَلّيَةٌ قَليلَةٌ منهم تُحافظ على ما كانت عليه خلال و بَعدَ الثَّورة. لقد حَلَّ مَكانَه اليوم شَعبٌ آخر هو شَعبُ البزنسة و الاقتصاد الموازي و العَدَميَّة و التَعَصُّب, و شعب الفوضى و القُبح و البشاعة. هذا الشّعب غَيَّر من ثقافته وعقليته و لُغَته و خطابه و لباسه و نموذجه و اتجاهه. لم تعد تَهُمُّهُ الحداثة إلا في اقتناء الأدوات و اللُّعَب الالكترونية, فهو يُريد الرُّجوع إلى الشعوذة و الطَقَسيَّة, و إلى الرُّقية و الحجامة, ليَقتَربَ كُلَّ يوم أكثر و على مرأى البصر من “الطَّالبانية”. لم يَعُد يَغَاُر من كوريا الجنوبية أو الصين أو الهند أو البرازيل, بَل من جزيرة العَرَب المُتَعَصّبَة المُتَاجرة, إن لم َنقُل من غزّة و باكستان.

 

لَم يَعُد لَدَينا اليوم, مثل ما كان عليه الحال في السابق, شَعبُ مُواطنينَ يَطمَحون إلى حياة عصرية, و يُحافظون على ما اكتسبوه من بَعض مبادئ التَّصَرُّف و التفكير و التنظيم خلال احتكاكهم بالثَّقافة الغَربية. بل أصبح لدينا حَشدٌ مُتَزايد العَدد من “المُؤمنين” الذين يُسَيّرون أَنفُسَهم بأنفُسهم بالأحاديث و الفتاوى. مَرجَعُهُم “الحلال و الحرام” بَدَلَ “القانوني و غَير القانوني”, و يحرصون على التحضير للدَّار الآخرة أكثر ممّا يَعتَنُون بالدّار الدُّنيا, أي بتأسيس دولة و وَطن و مجتمع و تاريخ. أَذهانُ هذه الجماهير تَطهَّرت من مبادئ و مفاهيم القانون و الدولة و الصّالح العام و الثقافة, و دَفَنَتها تَحتَ أَكوام من المراجع المُتَدَفّقة من كل صَوب. حَذَفَتها من مُعجمها الذي يَرجعُ في كلّ صغيرة و كبيرة  إلى “العادات و التقاليد” التي يَزيدُ كلّ واحد عَليها ارتجَاَلَهُ و “اجتهاده” الشخصيين.

 

الإسلام الذي لَعب طيلة قُرون دَور العامل الوحدَويّ داخل المجتمع, و شَكَّل حصنا مَنيعا ضدّ تَبَدُّد الشخصية, تَمَّ استبدالُهُ بالإسلامويّة المُستوردة من الخارج و التي سُرعان ما فَرَّقَت بين شعبنا, و أبعَدَته عن أفكار الوطن و المجتمع و العالمية, باسم ربّ أفهمتنا أنهُ عدوٌّ للقوانين و المؤسسات التي يَصنعُها الإنسان.

 

في زمن ابن باديس استطاع العلماء أن يُوَفّقُوا بين الإسلام و الحداثة و العلمانية في كافة مجالات الحياة, السياسية منها و الاجتماعية و الثقافية. كانت النُّخَبُ مزدوجة اللّغة بصفة طبيعية, و لم يكن يُتَّبَعُ إلّا المذهب المالكي وَحدَهُ. أمَّا اليوم فيُشَكّل دُعاةُ الحداثة جنسا مُهددّا بالانقراض, مُنكَمشا إلى نَصيبه الأدنى من العدد, و يُشار عليه بالكفر و الإلحاد حتى لم َتعُد تَؤويه غيرُ المَعاقل الأخيرة للصَّحافة الناطقة بالفرنسية. لكن انقراضه مُسجَّلٌ و مُبَرمجٌ في مسار التّخلُّف الذي تمشي عليه بلادنا, حيثُ أَضحَت هذه الصّحافة في حدّ ذاتها تقترب من الزَّوال: فعدد النسخ التي تَطبعُها جميع الصُّحف الفرانكوفونية لا يصل إلى ذلك الذي تَطبعهُ أَكبرُ صحيفة ناطقة بالعربية.

 

تابعت منذ بضعة أيّام على إحدى القنوات الفضائية الجزائرية برنامجا يستعرضُ وُجُهات النَّظر في الشارع الجزائري حول موضوع الرشوة. فَاجتَمَعَ الكُلُّ على إدانتها لأنها حرام, و ذَكَرَ الجَميعُ الحديثُ المعروفَ حول الرّاشي و المرتشي و مَن بَينهما, لكن لم يَخطُر على بال أَحدهم أن يُدينها باسم القانون أو الصَّالح العام: كَلامُ قَوم صاروا “مُؤمنين” و لم يَبقوا “مُواطنين”

 

لكن إذا كان الجميع مُلتزما إلى هذا الحدّ بالتقّيد بالشّعائر و المُقدّسات, فَلماذا تستفحل الرشوة عندنا إذا كما تَفعلُ اليوم؟ و لماذا يُمارسها و يَفرضها على الآخرين دون قَيد, كُلّ مَن شَغَلَ وظيفة خَلفَ شُبّاك إداري, أَو أُوكلَ إلَيه نَصيبٌ من السلطة؟ هذا السُّلوك لا يَختلف كثيرا عن الذي دَفَعَ بالمَسئُول الأَوّل للحزب الفائز بالانتخابات التشريعية الأخيرة, إلى التّصريح بأن الانتصار العظيم لحزبه جاءَهُ من عند الله, جاعلا بكَلامه هذا منَ الذّات الإلهية مُجَرّد مُناضل حزبي. ماذا يَجب إذا على الأحزاب الإسلامية و مناضليها الذين لم يصوتوا في الاقتراع أن يَستَنتجوا: أَنّ الله عاقبهم, بالنسبة للأوَّلين, و صَوَّتَ بَدَلَهُم بالنّسبة للآخرين؟

 

هل يوجد مُستَقَبلٌ لأُمَّة لا يَكترث نصفُ عَدَد أفرادها على الأقل بقوانين الجمهورية, و لا يَهتَمُّ سوى بالحلال و الحَرام؟ هل يُمكن الحديث عن المُستقبل معَ شَعب قَطَعَ كُلّ الروابط التي تَصلُهُ بدَولَته و بالعَالَم الحديث, و لم يَعُد يَهتَمُّ إلّا بالفَوز بالجنَّة و بَرَكَات السَّماء؟

 

المُستقبلُ الوحيد الذي يُمكن أن يَصبو إليه هو ذاكَ الذي َيَتَرَبَّصُ بالدُّوَل السّائرة في طريق الخروج من الحداثة مثلَ أفغانستان, باكستان, إيران أو مصر. شَعبٌ كهذا, إن تُركَ لحاله سوف يُعَلّق عَرَبَةَ الجزائر على أوّل قاطرة حَاملة للخلافة الإسلامية يُصادفها في طريقه, مُحَرّرا بذلك نَفسهُ نهائيّا من الهَمّ الذي يُلزمه ببناء مجتمع و دَولة و اقتصاد. وسَيَستَودعُ حينئذ مصيرنا عندَ أسوء واحد من “الراسبوتينات” التي يُفرخُها و يَزدحم بها مجتمعنا, واحدٌ من أولئكَ الشُّيُوخ العُميَان, بالمعنى الحَرفيّ و المُستَعار.

 

قبل سنتين من بداية الأزمة الاقتصادية في اليونان, قَرَأتُ في إحدى الصُّحُف الفرنسية مقالا لملاحظ يوناني, يَصفُ فيه العقلية السائدة في بلده كما يلي: ” شعبٌ بُنيَت عقليته على التحايل على القوانين, و التهرُّب من الضرائب, و الاقتصاد الموازي, و الرشوة التي اخترقت كل شبر من حياتنا اليومية“. احتَفَظتُ يَومَها بالمقال لأنّي رَأَيتُ هذا الوَصفَ يُطابق تماما ما َأراه في بلدي.

 

هل يُمكن لنا الحديث عن مستقبل عندما نَعتمد كُلّية على أسعار النفط في الأسواق العالمية, و التي تُحَدّدها مُبادرات الدول التي تَتَقدّم باستمرار؟ و عندما تَأتي مُعظم السّلَع و الخدمات التي نَستَهلكُها بشراهة من الخارج؟ هل يُمكن أن نَتوقّع مستقبلا عندما تكون الأغلبية الساحقة من الشَّعب مُقتَنعةً بأنّها ضَحيةٌ للدَّولَة التي  يَرى فيها مُعظمنا سَبَبَ مَصائبه و تعاسته و حرمانه و إحباطه, و لا يَنتَظر إلا الفُرصة السّانحة للانتقام منها؟

 

لم يتبقى الكثير من الوقت مع الجزائريين الذين لم َتخطفهم بَعدُ دَوَّامَتا الشَّعبَويّة الاشتراكية و الشّعوذة اللَّتان تَعصفان ببلادنا. أولئك الذين لا زالوا يُؤمنون ببناء جَزائر تَقوم على مبادئ بَيان أوّل نوفمبر و قيَمه. لابدّ عليهم أن يَلتَقطوا أنفاسهم و يَلُمُّوا شَملَهُم لمواجهة الانحراف العقلي و الروحي الذي يُصيب البلاد. لا يُمكنهم تأجيل العَمَل إلى الغد أو تركُه للأجيال القادمة, أجيالٌ قد لا تَبقى لها بوصلة غَيرُ تلك التي تَقودُها إلى طُرُق الشّعوذة بأَصنافها. يَجبُ عَليهم أن يَتَصرَّفوا اليوم قَبل الغد لأننا وصلنا إلى اللحظة التي يُمكن أَن تنقلبَ عندها المَوَازينُ رَأسا عَلى عَقب, في الاتجاه الصَّحيح أو الآخَر.

 

مُهمَّة التجديد هذه يَجب أن تَقَعَ على عاتق دولة جديدة. دَولةٌ تَكونُ قبل كل شيء قد غَيَّرت من تَصَوّرها لنفسها و لوظائفها, وأعادت النظر في إمكانياتها و حُدودها و المَهام المُخَوّلة إليها, و أدركت و وَعَت حُقوقَها و واجباتها الحقيقية. يَجبُ على هذه الدولة أن تُسَطّر لنفسها أهدافا مُحَدّدة و مَعقولة, مثل نسبة نُمو اقتصادي تَفوقُ التَضخّم و النُّمُوَ الديموغرافي, و مُراقَبَة مُستَمرَّة للتّوازنات الكُبرى للبلاد. كذلك يجب أن تَقضي على كُلّ ما يَنفَعُ أقليةً من الأشخاص و يَضُرّ بأغلبية المجتمع. ل

 

ا يجب عليها أن تلعب دور المقاول و إنما أن تكون المُنَظّم و المُراقب للمُتعاملين الاقتصاديين, الذين تُحَفّزُ نَشاطَهم أو تَردَعُه عبر مُختلف الإجراءات الجبائية و المالية و النقدية و المصرفية. يجب أيضا أَن تَسهَر على خَلق الشروط المناسبة لحُرية التَبادلات التجارية و الاستثمار و الإنتاج و الشغل, التي سَتُمَكّنها من القضاء تدريجيا على النشاطات الفوضوية و الأسواق الموازية. فَمن هذه الظّواهر تَأتي الفَوارق و فُرَصُ الرشوة و الربح السريع, التي تُوَلّد بدَورها في النهاية السُّخط و التَّوتّرات الاجتماعية. أَينَمَا يُمكن أن تَبرُز فرصة للرّبح السريع أو الثراء الغير مشروع, لابُدّ عليها أن تَتدخل لإطفائها أو مَنعها من الاستفحال. تلك هي الطرق الوحيدة التي يُمكن من خلالها أن تَستَتبّ في المجتمع العدالة و المساواة, اللَّتان لا تَعنيان المُشابهة و تَسطيح المجتمع و تَوحيده, بَل تَسَاوي الحُظوظ و الفُرَص, و عقاب الخَطَأ على الجَميع دون تَمييز.

 

لا يمكن لهذه المُهمة أن تُكَلّل بالنجاح إلا بالمُشاركة المُباشرة لكُلّ الجزائريين الذين تَتَوفّر فيهم النية الصادقة للمساهمة فيها, شَرطَ أن يَكون هؤلاء قد صحَّحوا بدَورهم التَّصَوُّر الذي يَحملونه لحُقوقهم و واجباتهم و دَورهم الاجتماعي. فَفي مثل هذه المُهمّة لا يَبقى مُصطلح الشعب مُعبّرا عن كمية الأفراد الذكور و الإناث التي يُحصيها المُجتمَع, بل يُصبح يُشير إلى جَسد اجتماعي و هيكل مَدَني مُوَحَّدَين, و طَاقَم من المُواطنين الوَاعينَ الذين يُدركون حُقوقهم و يُنَفّذون واجباتهم, و َجيش من العَوامل الاقتصادية المُجتهدة و المُنتجة. فلا يَبقى الشَّعب كُتلةَ مُتَواكلين يَنتظرون كلّ شيء من الدولة, و لا مَعشَرَ مُؤمنين يَصبُون إلى أَن يَحكُمَهم الله مُباشَرة. الأجيال الجديدة تَملك اليَومَ منَ الإمكانيات ما لَم يَتَوفّر عند التي سَبقتها, و ما لم تَملكهُ الإنسانية مُنذُ عشرين سنة فقط. خُصوصا تلك التي تَفتَحُها لها التكنولوجيات الجديدة للمَعلومات التي تُمَكّن الفرد من دُخول عالم المَعرفة و الاتصال و تَبادل الأفكار, حتّى دون أن يَبرحَ مكانه.

 

لتَتَمَكّن من التَّأسيس لإدراج اسمها في التاريخ المُعاصر و لتَضمَنَ لنفسها مكانا مُشَرّفا في عالم اليوم, تحتاج الجزائر إلى بداية جديدة. و هي اليَوم تَملكُ الوسائل التي تُمَكّنها من ذلك, فَمَلحمة نوفمبر حَقّقت الوحدة الوطنية, و صار عندنا جيشٌ و إدارةٌ و ثَرَواتٌ مُعتبرة, كما تَتَوفّر في مُتناولنا مُختَلف التكنولوجيات التي نَحتاجها. يَجب علينا اليوم إذاً أن نَنتقل من مرحلة تَقديس المبادئ الوطنية, إلى مرحلة التَّطبيق الفعلي لَها. و لابُدّ على الجزائريين أَن يُؤَسّسوا لرَوابطَ جديدة مع بلادهم, تَكون مَوضوعية و مادّية و لَيسَ فَقط عاطفيّة و خَياليّة. كما يَنبغي أن تُصبح الجزائر فعلا ملكية مَلموسة و حقيقية لجميع الجزائريين. لكن قَبل أن نَصلَ إلى ذلك ينبغي علينا أن نُصحّح العديد من الأفكار السائدة لدينا, و منها تلك المُتعلقة بالاستقلال و الحرية و الكرامة.

 

فهناك حرية التعبير و التظاهر و الانتخاب التي يَتَمتّع بها مُواطنو البُلدان الحُرّة, لكن هناك أيضا في البلدان الفوضوية, حُرّيةُ أَن يَفعل المَرءُ ما يَشاء و لا يَأبَهَ إلّا بمَصالحه الفَرديّة فقط, و أن لا يُصغي إلّا لمزاجه و ل”النفحة”. حُرّية عَدَم إنجازه لواجباته المَدنية و الاجتماعية و الجبائية و العسكرية, و حرية الانغماس في السُّوق السَّوداء و مُخالفة قوانين المُرور. الحُرّية الحقيقية لا تعني استقلال الفَرد و استغنائه عن المجتمع, أو انتفاضُهُ ضدّ النظام و القانون لأَتفَه الأسباب, بل تَعني الدخول كُلّيةً وَ عَن طَواعية في النَّسيج الاجتماعي, و الخُضوع تلقائيا و عَن قَناعَة للقوانين و القَواعد التي تَسير بها الجماعة. كذلك الحُرّية ليست في التَّملّص من القيود الاجتماعية أَو الاستفرادَ بتَصَرُّفات شاذة و أَفعال غَريبَة, بَل في إلزامُ النَّفس طَوعا بخدمَة القانون و المجتمع و الصَّالح العام.

 

الكثير منا يَضُنُّ أن الدول الديمقراطية أَكثر حُرية من البلدان الأخرى, لَكنَّ هذا الاعتقادَ في الواقع لا أَساس لهُ من الصّحة. فعلا: فَمَن الذي تُلاحقه القوانين و الأنظمة باستمرار ويُعَاقب على أبسط الأخطاء, وتَضطهدهُ الضرائب, و يَدفَع الغرامات عند التَّوقف الممنوع بسيارته, أو عند رَميه للنفايات في الطريق العام أو تَسَبُّبه في الضَّوضاء و إزعاج الآخرين؟ الجزائري أم السويسري؟ مَن الذي يَخافُ الشُّرطي و البوَّاب و المُحضر القَضائي و مُراقبَ الميترو؟ الجزائري أم الفرنسي؟ من الذي يُمكنه أن يَحتل أرضا عمومية دون عقاب, و يَبني عَشوائيا على الطريق العام دون أن يُعتَقل و يُزجَّ به في السّجن, أَو أَن يَرعى كَبشُه في الحدائق العامة؟ الجزائري أم الألماني؟

 

الحقيقة أن البلدان غير الديمقراطية هي المَوطنُ الحقيقي “للرجال الأحرار”. أَحرارٌ حُرّيَةَ القرَدَة التي تَمرَحُ كما يَحلو لها في الطبيعة, و تَسرحُ في الغابة دون قَيد. هذه البُلدان الفوضوية التي يَغيب فيها الرَّادع, و يُمكن أن يَقعَ فيها كُلُّ شيء, و لا ُيعاقَبُ فيها أَحدٌ على خَطأه. و على عَكس ذلك, فالبُلدان الديمقراطية هي التي يَحسُب فيها الفَردُ نُقودَهُ, و يَدفَع ضرائبه, و يَصلُ في الوقت إلى عَمَله, و لا يُمكنه تَحقيق الثّراء إلّا شَرعيا, و يَستَحيل عليه أن يَخرج عَن القانون دون أن يَتَكبَّد عقابَهُ القاسي. هَذه هي البُلدان التي قَاست و عَانَت و تألَّمت طيلة قُرون, قَبل أن تَصل إلى الرَّاحة الأسبوعية و العطلة المدفوعة الأَجر و الضَّمان الاجتماعي و حق الانتخاب, بَينما وَجَدنا نَحن كُلّ هذه الأشياء جاهزةً في المَهد سنة 1962. هذه البلدان التي فيها يُفصَلُ العاملُ من عَمله لأصغر هفوة, و يَنتَحرُ رَبّ العمل إذا أفلست شركته, و يمكن أن يُلقى بالوزير في السجن لأي تَلاعُب. في هذه الدُّول لا تَسمَحُ الحرية إلَّا بفعل الخير, و المَشي بحذر في متاهات القانون الضَّيقة التي لا تَرحم, و إتباع المَسالك المُستقيمة للأَعراف و الآداب. بَينما البلدان الأخرى تَمنَح حُريةَ ارتكاب كُلّ الشَّر الذي نُريد, و لا يُجبرُ القانونُ فيها الناسَ فعليَّا إلّا على القليل.

 

الكرامة لا تعني الغُرور و الكبرياء دون مُبرّر و عبادة الرُّجولة و “الشّلاغم” و افتخار المرء بعُيوبه, بل هي إبرازُ ما هو إيجابي و َبنَّاءٌ و فَعَّالٌ عند كُلّ واحد فينا, و إثباتُ قيَمنا الإنسانية و مَردودنا الاجتماعي و انجازاتنا التاريخية. كذلك الكرامة ليست في التَّهرب و الإفلات من القيود الاجتماعية, و الاحتيال على القوانين, بل في إنجاز الواجبات المُتَطلّبة علينا قبل المطالبة بالحُقوق, و الاقتناع بأنَّ استقلال الجميع لا يَتَحقَّقُ إلا عَبر الارتباطات التي يَنسُجها كل أفراد المجتمع مع بعضهم البعض, و الإيمان بأَنَّ لا خَلاصَ للفرد دونًا عَن الجماعة. و الكَرامة تعني أخيرا, الكَفَّ عن تَصدير الإزعاج و المَشاكل و تَسريب عُيوبنا نحو مُختَلَف أصقاع العالم, كما تَقتَضي الامتناع عن مُحاولة فَتح أبواب الخارج الموصدة في وجهنا, بالقوة.

 

إنَّي أُدركُ جَيّدا أن النَّظرةَ التي حَمَلَتها هذه السلسلة في الماضي و الحاضر و المستقبل, تَنقُصُها خاتمة تَقترحُ “الحُلولَ” المُناسبة. قَد يُشكّل ذلك مَوضوعا لسلسلة أُخرى من المقالات في المستقبل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى