اتصالثقافة

الأمير عبد القادر لم يكن يوما ماسونيا

بقلم : البهجة ستيت

ebsteit@outlook.com

لا يحتاج الأمير “عبد القادر” إلى من يدافع عنه بيومنا الحاضر ، فهو عاشا أميرا بطلا ومات كذلك . لقد كان مفهوما حيّا للرجولة الماشية بأقدامها على الأرض و مثالا للنقاّء الإنساني والذي لا نعهده إلاّ قليلا .

تواصل الألسن القذرة في نهش سيرته العظيمة ، لتلصق بها رداء الماسونية . تماما كما أخبرني بها وبوجهي أحد المتملّقين من بلدي باجتماع ثقافي هنا في منتريال . بقيت وهو يؤكّد ذلك لبرهة متسمّرة أنظر إلى هذا الشيء أمامي من تلك الوجوه و التي قد أسميتها سلفا “برؤوس البالونات الفارغة” ، و التي لا تنفك أن تحاول إطفاء جمرة عقد النقص لديها ، بالتحرّش بجهل و تبجّح للنيل من سمعة عظماء المسلمين و الكيد لهم ، من غير أية إثباتات تهدر صحة البصر في جمعها ، أو أسباب لا يمكن لأي منطق أو مفهوم عاقل اعتمادها أو تصديقها .

لقد دافع الأمير و ببساطة كاملة عن من قدم إلى عتبة بيته بدمشق راجيا الأمان عنده …هل كنتم لتفعلون نفس الشيء؟ . هكذا ما جرى مع الأمير ؛ حين دقّ منزله بهلع عارم جموع من الناس ، قد لم يكن يدري هو نفسه بأنهم مسيحيوّ الشام ، كانوا ممن فرّ من مجازر الدروز حيث سنّ “عبد الله الحلبي” و من معه سكّاكينهم و أخذوا في نحر الأعناق من الوريد إلى الوريد …

إكتضّ بعد برهة من الوقت قصر الأمير ، و كما ذكرت المراجع ، لم تتبقى زاوية واحدة ببيته إلاّ و حشرت بهؤلاء الهاربين . كان الأمير يبيت ليلته فوق شبكة عند مدخل الباب متأبطا بندقيته . و عندما أمتلئ منزله بالخائفين ، جنّد ألفين من الجزائريين من العائلات الجزائرية الخمسة و الثلاثين ألفا من رافقته أو تبعته إلى منفاه لاحقا بالشام ، و الذين كان أكثرهم ممن أتّجه إلى الريف ليواصل حياته في الزراعة و الفلاحة بالقرب من الأمير .

بعدما كافح الأمير بطلب السلاح عنوة من “فؤاد باشا” الحاكم العثماني ، لينقض ما يمكن إنقاضه من المهدّدين هو و بعض الشيوخ المسلمين العقلاء حماية لنشوب الفتنة بين أبناء البلد الواحد ، و لمفهوم الدين الإسلامي الحقيقي و الذي يدعو إلى التسامح أيضا . تحمّل الأمير جميع القدح و الردح الذي سمعه من الجناة أنه ترك بلده للمستعمر ليقوم بتمرّد و من معه هناك بالشام ، لكن لم يجرأ نفر واحد يذكر ممّن يدعون أنفسهم بالرجال أن يقف أمامه ؛ كما لم يأبه الأمير بهؤلاء بل واصل حمايته للناس و الضعفاء .

أصطحب الجزائريون من جاءهم من المسيحيين بل و قام الأمير بنفسه و من معه في البحث عن كل من تبقى مختبئا خائفا منهم ، من طفل أو عجوز أو امرأة ، إلى القلعة أين أمكن للمكان من استيعابهم . هناك قاموا بحمايتهم مع من حمل السلاح منهم ، و قيل فيهم من هرّبهم فعلا الأمير في تكلّفه بحمايتهم الى غاية “بيروت” ، حتى هدأت الثورة ضد المسيحيين تلك ، و التي قامت بتحريض كما أكّد هو بنفسه من طرف العثمانيين من جماعة أحمد باشا و تابعيه من الدروز. علم السلطان العثماني بعدها ليشتاط غيضا و يعدم من يعدم و ينفي من أنفاه من هؤلاء. قدّر عدد العائلات المسيحية بأشخاصها التي حماها و أنقضها الأمير بإثنتي عشر ألف مسيحيا شاميا .

عندها قدّره الغرب إمتنانا لمعروفه ، لم يكن له ليتوقّع ذلك منه كما أنه لم يكن قطعا ليرغب بأية دعاية أو تقديرا من أحد فيهم ، فما فعله كان من أجل دين طه المصطفى عليه أفضل الصلوات و التسليم ، كما كان لأي مسلم حقيقي يحترم دينه لبفعل نفس الشيء مكانه .

تدفقّ المبعوثون و الدبلوماسيون و الكتّاب و الصحافيون و غيرهم الى زيارته بالشام و مقابلته و الكتابة عنه ، و إنهالت الأوسمة والقلائد لمعروفه في دعوات سفره ؛ قبلها بمكانته كزعيم و بمستواه القيادي و الدبلوماسي مع باقي الشعوب ، و لربما كانت لقضية شعبهأن ينظر إليها دبلوماسيا بين الدول تلك مثل ما تمنىّ هو. كما قدّر صنيعه الأباطرة و ملوك أوربا و رؤساء الدول الأخرى كالملكة البريطانية “فكتوريا” و “إبراهام لينكلن” ، حتى أنّ الأمر قد ذهب ببعضهم الى إطلاق اسمه على أحد المدن الأمريكية عام 1846 و التي هي باقية لحد اليوم ، حتى قبل تلك الثورة ضد المسيحين عام 1860 بالشام ، إمتنانا لفكر الحريّة و الذي كان يناضل من أجله في الميادين و يؤمن به حتى مماته .

فبإعتقادي و إيماني الخاص به ، أنّ الأمير كان ليفعل نفس الشيء و مع أي شعب كان قد هرول الى بابه طالبا العون و الأمان من القتل و التنكيل . أظنّ أن الأمير قد تذكّر لحظتها فعلا شعبه الذي تركه وراءه ببلده . و أن الشعور بالمسيحيين الذين طرقوا بابه ماكان إلاّ ذلك الإحساس الحيّ الذي إنتابه بحسرة قلبه نحو إنقاذ شعبه . ذلك الشعور الذي قهره بفعلة النفي التي حاصره بها عدوّه . و ها قد جاءته تلك الفرصة ليعيشها بكل جوارحه و يناضل من أجل حريّة الآخرين .

صحيح برأيي أنه نفي قبل تحرير بلده من مخالب العدو ، إلاّ أنه قد هزمه و بالفعل بمواقفه و صموده و أخلاقه و التي جعلت العالم كله و بشهادة العرب و العجم ، يثني عليه غصبا عن أنف الإمبراطور الفرنسي، الإمبراطور الذي هو بنفسه أثنى على الأمير ، ليمنحه أعلى وسام للشرف في الأمبراطورية الفرنسية ، “وسام الصليب العظيم للشرف” .

لم أخفي بدوري بكل مناسبة إنبهاري بمرة كنت فيها متواجدة بمبنى الأرشيف الوطني بالعاصمة الجزائر ، و أنا أشاهد بقربي باحثة يابانية آتت من آخر الدنيا ، كانت السيدة بجانبي تتكلم العربية بطلاقة مهذّبة و هي تسأل عن أي معلومة تخصّ أميرنا الجزائري من أجل بحث رسالتها  كان هو موضوعها .

سأجتهد دائما في جمع ما أقدر على جمعه أكثر ممّا بحوزتي الآن ، ذلك و ممّا كتب من حقائق عنه و عن سيرته العظيمة الرائعة و المبهرة حقّا بكل مرجع أتصفّحه. فالعظماء أمثاله ليسوا بحاجة الى الماسونية ليكونوا ما هم عليه ، و لو كان الأمير كذلك لكان قد عاد وقتها حيّ يرزق الى بلده لينصّب ملكا عليها في خدمة الماسونيين بدل أن عاش منفيا متلهّفا على ترابها و لبقيت الجزائر من بعده كذلك . فذاك البلد قد تحرّر بفضل الملايين من “عبد القادر” هناك حوالي قرنا من الزمان من بعد ثورته ، بفضل أبطال حقيقيون يتنفّسون ، لن يتكرّروا أبدا ، تماما كما كان عليه الأمير “عبد القادر الجزائري”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى