الجزائرالرئيسيةبين الفكر والسياسةسلايدر

الانتخابات الرئاسية الفرنسية : نهاية فكرة

بقلم : نورالدين بوكروح

ترجمة : نورة بوزيدة

 

” كأن الأمم لا يكون لها رجال عظام إلا رغما عنها”. ‘(شارل بودلير)

في سنة 1965، وخلال أول انتخاب رئاسي مباشر بعد ذلك الذي أوصل نابليون الثالث  Napoléon III  إلى الحكم في 1848، أعطى الجنرال ديغول  (Charles De Gaulle) نكهة خاصة للمعركة الانتخابية بمقولته الشهيرة: “الانتخاب الرئاسي هو لقاء بين رجل وشعب“. وهي الكلمة التي رسخت في الأذهان وكررها كل المرشحين للرئاسيات إلى يومنا هذا. لكن قد تكون هذه أخر مرة.

والحقيقة أن تلك الجملة لم تكن صدفة ولا عفوية، لكنها أعمق من ذلك حيث كانت كعصارة فلسفية حول السلطة ووممارستها، قالها رجل اختلط مصيره بمصير بلده وتدخل في أحداث تاريخية كبيرة، وغير مجراه بقوة إرادته فقط، إلى أن اكتسب شرعية فريدة من نوعها، تفوق شرعية الانتخاب السياسي والاختيار الشعبي والكاريزما. ومن كثرة استعمال هذه العبارة بعد ذلك في الخطابات والصحافة وحتى تدريسها في العلوم السياسية والقانون الدستوري، تصلب القول والمعنى في مخيلة الفرنسيين وثقافتهم العامة.

غير أنها بقت في التاريخ بوابل من سوء الفهم وطابور من المضامين المخفية. لقد رأى فيها الجميع تجسيدا رائعا لروح الجمهورية الخامسة والقائم الذي ترتكز عليه، وأصبحت حديثا روحيا تكرره الأجيال وترجع إليه دون أن يفكر أحد في التأكد من صحته في أرض الواقع. والحقيقة أن تلك الجملة كانت شعرية أكثر منها عملية لأنها لم تلزم سوى طرفا واحدا من المعادلة وهو الطرف الذي نطق بها. وعاش ديغول نفسه مرارة عدم صحة قوله كما جرب فرانسوا ميتران François Mitterrand  وجاك شيراك Jacques Chirac نفس الخيبة بعد أن أحالهما شعبهما على البطالة في قصر الإليزيه بعدما فرض عليهما التعايش مع خصومهما السياسيين cohabitation .

ولم ينجح الجنرال ديغول غداة تحرير فرنسا  (1945)في إقناع القوى التي كانت تسيطر على الساحة السياسية والمشهد الانتخابي بتبني تصوره للمؤسسات التي يمكن أن تغير وجه البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، فنفذ صبره وقدم استقالته يوم 21 جانفي 1946، أي شهرين فقط بعد استلامه قيادة الحكومة المؤقتة، صارخا في وجه أعضائها : “أنا راحل”، ثم توجه إلى منزله في Colombey-Les-Deux-Eglises وهو واثق من أنهم سيسرعون وراءه.

 

لكن لم يقصده أحد، ولم يتوسله أحد للعودة كما كان يتوقعه في سريرته. وبعد عدة محاولات لمعارضة مؤسسات الجمهورية الرابعة وسياساتها، اعتكف في بيته يكتب “مذكرات الحرب”، إلى أن أخرجته حرب جديدة من ملجأه، وكانت تلك حرب الجزائر. إنها بالفعل الحرب والثورة التي أجبرت الطبقة السياسية والرأي العام إلى توجيه أنظارهم مرة أخرى إلى “كهف” البطل، إلى مخبأ “أعظم الفرنسيين”، وبالفعل، خرج مرتديا بدلته العسكرية ليواجه القدر ويخلص فرنسا مرة أخرى. لكن، في قرارة نفسه، كان يستجيب لنداء القدر وليس لما كان يعتبره مستنقع السياسية واللغو. وهو ما كتبه في مذكراته “مذكرات الأمل”  (« Mémoires d’espoir »)، متحدثا عن تلك الفترة: “في الوقت الذي تناديني فيه الرداءة من كل جهة، علي أن أعمل من أجل ما هو عظيم”.   

وإذ هو قبل العودة إلى زمام السلطة، كان ذلك في احترام اتفاق كان صعب المنال بسبب شخصيته الفريدة، والوضعية الاستثنائية، والمتطلبات القانونية. فقبل الجنرال، بعد صراع مع ذاته وقابلا بما قد يخدش طبيعته وحتى أناه، الخضوع لانتخاب غير مباشر من قبل 82.000 ناخب يتشكلون من المنتخبين في البلديات والولايات والبرلمان، بينما كان يفضل لو أن الشعب يختاره مباشرة، وهو الانتخاب الوحيد الذي كان يراه لائقا بقامته التاريخية. وتم انتخابه في الدور الأول بنسبة 78.51 بالمائة، الأمر الذي أراحه بعض الشيء.

وبعد استقلال الجزائر ببضعة أشهر، اقترح ديغول على فرنسا إصلاحا دستوريا لكي ينتخب الشعب كله رئيسه مباشرة، وألا يترك هذا الانتخاب يتم من طرف أقلية قليلة تقارب الصفر بالمائة، ومن جديد، وقفت الطبقة السياسية كرجل واحد في وجهه، مشككة في نواياه وكأنه يريد أن يعيد “ضربة” نابليون الثالث قبل قرن من الزمن. فعارض الأمر مجلس الدولة وأعلن المجلس الدستوري أن ذلك خارج عن صلاحياته وتمت الإطاحة بحكومة السيد جورج بومبيدوGeorges Pompidou. لم يبق الخيار أمام شارل ديغول سوى اللجوء إلى الشعب.

وأكد الاستفتاء الشعبي بنسبة 62 بالمائة من الأصوات رغبة الشعب الفرنسي في الدخول في المسار الذي يقترحه الجنرال. فعزز ذلك إيمان ديغول بأنه عليه الآن، وبعد أن وضع حدا لترهات الجمهورية الرابعة وبعد أن أخرج بلاده من براثين عهده الاستعماري، قيادة فرنسا وشعبها الممنون على طريق الحداثة لاستعادة مكانتها التي تستحق ضمن القوى العظمى في العالم. فكان الموعد سنة 1965 عندما سيعطي الدليل القاطع على أن الانتخاب الرئاسي هو “لقاء رجل وشعب“، وسيجهز نهائيا على “نظام الأحزاب” الذي كان، في 1946، عقبة في طريقه وطموحاته في إعادة عظمة فرنسا سريعا، وضيعتهما الاثنان عقدا ثمينا من الزمن.

ومما نعرفه عن الجنرال، من الأكيد أنه بكلمة “رجل” لم يكن يقصد أي رجل يمشي على رجلين، بل كان يقصد به رجل واحد : هو. هو الرجل الذي لم يعش كباقي الرجال العاديين، بل كانت حياته سلسلة من الإنجازات العظيمة، رجل ليس لديه نفس المقومات كالآخرين، معنويا وحتى جسديا، وكأنه خلق من أجل تجسيد معنى “العظمة”، ونيل شهادة الشرعية من التاريخ نفسه، والذي إن وضع في كفة ميزان، وزن قدر الشعب في الكفة الأخرى. وحتى اسمه يحمل علامة الأريستوقراطية،”de”.

كتب ألان بيرفيت Alain Peyrefitte في كتابه “هاذا ديغول”،(« C’était de Gaulle ») عن حادثة تظهر نظرة الجنرال لنفسه : بينما كان الجنرال في زيارة عمل في إحدى المناطق الفرنسية، استفاق أحد المرافقين له أن الوالي كان ذي قامة عالية ويفوق الجنرال المعروف بقامته الطويلة أيضا. فقال للجنرال أنه “أكبر” من الجنرال الذي أجابه بحدة : “بل قل أطول“. وفي مذكراته (“مذكرات الحرب ” « Mémoires de guerre » )، يحدثنا بنفسه عن الشعور الذي انتابه عندما التقى بالسيد ألبير لوبران Albert Lebrun في أكتوبر 1944، الرئيس الذي لم يسعفه  الحظ خلال الجمهورية الثالثة التي تأسست بعد انهزام فرنسا أمام ألمانية في 1870 والتي ماتت أيضا تحت ضربات ألمانيا سنة 1940. فقال الجنرال وكأنه يتأسف لمصير الرجل: “في حقيقة الأمر، كان ينقصه أمران لكي يكون قائد دولة حقيقة : أن يكون قائدا وأن توجد دولة”.  

هذه بعض صفات الرجل الذي كان يحسب أنه يزن نفس الوزن الذي لدى الشعب الفرنسي بأكمله، وإن سقط البنيان الذي يريد إرساؤه، لم يكن ليشك لحظة أن الإثم لن يكون عليه بل على الشعب. إلا أن اللقاء الذي كان يتوقعه بقوة وإيمان راسخ بأن ذلك مكتوب في لوحات التاريخ لن يحدث كما تصوره. فبمجرد أن نطق بجملته الشهيرة، انقسمت أصوات الشعب بينه وبين منافسه فرانسوا ميتران سنة 1965 ولم ينل الفوز من الدور الأول. وبعد أن حاز 44.65 بالمائة من الأصوات وميتران 31.72 بالمائة، لم يفز بأغلبية ساحقة بل تقدم منافسه بقليل (55.20 بالمائة). فكان ذلك شؤم عليه.

وفي بداية سنة 1969، قرر أن يستشير الشعب الفرنسي مرة أخرى حول مسألة لم تكن بالمصيرية، وهي إصلاح الغرفة العليا للبرلمان وتنظيم المناطق. فتم الاستفتاء بتاريخ 27 أفريل 1969، وقوبل بالرفض. في نفس اليوم، بعث باستقالته لرئيس المجلس الدستوري وعاد إلى منزله حيث توفى سنة ونصف بعد ذلك، متحسرا، وبعد أن باح بخيباته لأحد أقربائه، السيد أندريه مالرو André Malraux  بآخر ما جادت به قريحته المجروحة. وجمعها هذا الأخير في كتاب صدر في نوفمبر 1970 تحت عنوان محبط “شجر الفلين التي نقتلعها”.

وصف جان ديلافونتان Jean de la Fontaine في قصته “شجرة الفلين وعود القصب” قبل ثلاثة قرون كيف اقتلعت جذور الشجرة الصلبة لكن العنيدة في العاصفة التي أتت بها رياح الشمال العنيفة. وما زاد من توجع الشجرة، أنها سقطت وعود القصب يتهكم منها ويسخر لأنه عرف كيف يلين ظهره بينما صمد الفلين الذي “تعانق أغصانه السماء وتلامس جذوره المتوغلة في التراب مملكة الأموات “.

إنه ريح الشمال ذاك هو الذي سيصفع وجه الجنرال الذي رسم عليه الزمن والحروب تجاعيدها، وسيقتلعه من جذوره بعد صراع ومقاومة دامت أسابيع. إنه إعصار ماي 1968 الذي أطاح بالجنرال، وهو الإعصار الذي ولده عود قصب يانع هو السيد كوهن بانديتCohn-Bendit ، الذي ما زال ينشط إلى اليوم في السياسة الفرنسية، مساندا إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron إلى جانب العديد ممن ينسبون أنفسهم لميراث شارل ديغول. من اليوم من بين السياسيين الفرنسيين لا يعيد مرجعيته للجنرال ديغول، بكل أطيافها، وحتى مارين لوبانMarine Le Pen؟ لكن، من منهم كان قد قبل بالفكر الديغولي وروحه في وقته، ومن سيقبله إذا عاد غدا؟

ولأنه كان روحيا أكثر منه سياسيا، لم يسفر اللقاء المثالي الذي حلم به ديغول مع شعبه سوى على انتخاب وحيد لصالحه، وانتهى بطلاق مأساوي بينهما. وحقيقة الأمر أن الزواج المثالي لم يكن أبدا واقعا لأنه ولد ونما وعاش في مخيلة الجنرال وحده. لم يعش الشعب الذي ساعده على التخلص من النخب السياسية والثقافية والإعلامية التي حاصرته سنة 1962 إلا لبضعة سنين وتم استبداله بشعب آخر لم يشعر أنه مدين بأي شيء للجنرال، بل وأكثر من ذلك، كاد أن يبعده عن السلطة في 1965 واتبع كوهن بنديت في ماي 1968 وتخلى عنه نهائيا في أفريل  1969. فالجنرال لم “يلتقي” بشعبه  إلى لمدة قصيرة، أي أقل من أربع سنوات من بين إحدى عشر قضاها في الحكم.

وإن لم ينجح ديغول في تحقيق التكامل بينه وبين الشعب للأخذ بفرنسا إلى أبعد حدود التقدم والعظمة، فإن ذلك يعود إلى كون الجزء الآخر لم يشعر أنه بحاجة إلى “عقد” مع رجل للتكفل بشؤون البلاد. إن الشعوب التي تصوت غالبا ما تذهب عكس الرياح عندما تتاح لها الفرصة، في القديم وفي العصر الآني. بل كانت أطول العلاقات بين الشعوب وحاكميها هي تلك العلاقات بين رجال مستبدين وشعوب لديها “قابلية للإستبداد”، بين ديماغوجيين وجماهير مستعدة للإيمان بأي شيء، بين محتالين وساذجين، بين حاملين لروح “جحا” وحاملين روح “الدوار” كما في الجزائر….

خلال الحرب العالمية الثانية، خلص وينستون تشرشل Winston Churchill بلاده، بريطانيا العظمى، إلا أنه أخرج من سدة الحكم بعد شهر وحيد من انتهاء الحرب العالمية. ومثل ديغول، عاد إلى الحكم لمدة أربعة سنوات في 1951 في ظل أزمة أخرى هي أيضا أزمة نهاية العهد الاستعماري في كينيا وماليزيا. وكان الاثنان كاتبين بارزين، حتى أن تشترشل نال جائزة نوبل…. للأدب وليس السلم.

مات الجنرال ديغول وعاشت جملته الشهيرة. وبعد نصف قرن، صار كل مرشح للانتخابات الرئاسيات بحسب أن الجنرال أعدها له خصيصا. لكن روح الجمهورية الخامسة مات مع مؤسسها، بعد استنساخها العديد من المرات، وخياطتها كل حسب مقاسه، فاقتطع منها أجزاء، ولونت واستعملت شمالا وجنوبا، صبيحة وعشية، يمسنا يمينا ويسارا… إلى أن أصبحنا لا نتعرف عليها عندما… نلتقي بها. إن شبح الجنرال ديغول ما زال يسكن حيطان قصر الإليزيه حيث ترك بدلته التي لم يستطع أن يلبسها أحد ممن أتوا بعده. البدلة أكبر من أن يلبسوها، وأصبحوا هم الشخصيات المفضلة للفكاهيين الذين نالوا بفضلهم الشهرة والمال. من اليوم في فرنسا يفكر في أن يسمي باسم هؤلاء “الورثة” بارجة حربية أو أي إنجاز كبير في المستقبل، أو حتى أحد الشوارع الكبرى في البلاد؟

تعيش فرنسا اليوم وضعية تعرف فيه ركودا سياسيا حيث يتكل من يريد الوصول إلى السلطة أكثر على الحسابات واللوبيهات والاتفاقيات بدل الاتكال على المزايا والخصال الشخصية اللائقة بمن يسعى إلى قيادة شعب ودولة. ففي فرنسا اليوم، لا نبحث عن الأحسن، بل عن الأقل سوءا، فلا أحد يبحث عن الفوز بالانتخاب بطريقة مباشرة وصريحة، بل صار الجميع يعلق آماله على استراتيجيات التخويف من الآخر، والتهديد بما قد يكون لو فاز الآخر بدل التأثير إيجابيا وجذب الشعب بتقديم ما هو الأحسن الذي قد يكون…

لم يعد هناك رجل عظيم يمد يده للشعب ولمواطنيه لإنقاذ البلاد من الخطر، لكن الشعب هو من يلوح بأيديه، آملا أن يقبض عليها أحدهم، مثل الغريق الذي يستنجد. نحن نرى شعبا يود أن ينتخب رجلا أو امرأة من حجم الجنرال ديغول (أو جان داركJeanne d’Arc) بأفكار اليوم. وإذ هو لم يجد لا هذا ولا تلك في صفوف التيارين اللذين حكماه منذ عقود وأشبعوه مرارة وخيبة، اضطر إلى البحث عن الجديد في الظلام، آملا إيجاد من سيشبه جنراله المفقود ومن سينقذه من البطالة واختلال الميزانية والتجارة الخارجية، وتقليص مديونية خزينة الدولة وصندوق الضمان الاجتماعي. في سنة 1958، عندما وصل الجنرال ديغول إلى السلطة، وجد المديونية العامة في حدود 41 مليار فرنك فرنسي، وعندما تركها سنة 1969، لم تعد تثقل كاهل الفرنسيين سوى ب 32 مليار فرنك. أما اليوم فإنها تفوق 2000 مليار يورو. أما الباقي، فإن ديغول وحده قادر على التفكير فيه من أجل فرنسا، “لأنه ديغول” وليس غيره، لكن معه ماتت الفكرة التي كان يحملها عن فرنسا ومن من أجل فرنسا.

أما نحن الجزائريون، فحظنا أسوآ من أسوأ حظ قد ينال الفرنسيين أو الأمريكيين أو شعوب أخرى، فلنحاول التعلم من تجارب الآخرين ولنحذر من كبرياء قد ينالنا، ومن التفكير بأننا أشجار زيتون عريقة لا يقتلعها ريح ولا إعصار. بل ذاكرتنا ما زالت مليئة بذكريات ريح الإسلاموية التي حصدت في سنوات 1990 مئات الآلاف من أرواح مواطنينا من أجل لا شيء، لا لسبب سوى جنون نال الطرفان. فكيف سيكون من أمرنا عندما ستهب رياح الانتفاضة بعد نهاية البترول التي ستهدم الفكرة الغامضة والمهلهلة التي يراد لنا أن نحملها اليوم عن الجزائر؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى