أراء وتحاليلالجزائرالرئيسيةبين الفكر والسياسةسلايدر

الجيش الجزائري : صامت ولا يريد السماع

بقلم : نورالدين بوكروح ترجمة : نورة بوزيدة

كنت، سنة 1991، أول جزائري ترفع ضده وزارة الدفاع الوطني دعوى قضائية أمام العدالة بتهمة “المساس بمؤسسة دولة نظامية”، وذلك بعد أن أعلنت، وأنا في حرارة النقاش والمجادلة مع مواطنين في لقاء بالبليدة، حيث سألني أحد الحاضرين عن “شهرية” الجنرالات، فأجبته أن “الجنرالات ليست لديهم أجور، بل هم يأخذون ما يحلو لهم من الأموال”.

أعترف اليوم أنني لم أزن ثقل ما قلته آنذاك، لكن أمام رئيس محكمة بئر مراد رايس، تحملت كلامي ولم أتراجع عنه، وعندما سألني عن الأدلة التي أرتكز عليها  للتفوه بمثل تلك التهم، أجبته أنني أعتزم توجيه نداء للمواطنين من أجل الإدلاء بشهاداتهم. وهو  نفس الجواب  الذي اضطرتني الظروف على الرد به مرة ثانية لضباط الشرطة القضائية في المحافظة المركزية سنة 1998 عندما قاضاني الجنرال بتشين الذي كان آنذاك مستشارا خاصا لدى الرئيس ليامين زروال.

وفي الأخير تكفل الجيش، “الصامت” بأن أتى بنفسه بالشهود حيث لم تمر بضعة أسابيع على قضيتي حتى نشر حوالي 15 جنرالا كانوا في مناصبهم “التقرير” المشهور الذي اتهموا قائد أركان سابق في الجيش بأنه “يغمس” بشراهة في خزينة الجيش (قضية بلوسيف). هل هي حقيقة أم تدبير لتصفية حسابات؟ ليس لدي أي وسيلة لمعرفة حقيقة ما جرى.

وفي تلك القضية الأولى دائما، اختارت وزارة الدفاع محاميا معروفا وكفآ لتمثيلها. ففكرت من جهتي أيضا في محامي مشهور يحسبه الجميع إلى اليوم أكثر ديمقراطية من بريكليس Périclès نفسه (وهو رجل الدولة، أب الديمقراطية اليونانية ومخترعها)، وكم كانت دهشتي وأنا أسمعه يقول لي في سر جدران مكتبي : ” لا أستطيع، سي نورالدين، سامحني…” فاتخذت محاميا لا يعرفه الجمهور وتولى مهمته على أتم وجه.

ومن دهشة إلى أخرى، علمت عشية المثول أمام العدالة أن وزارة الدفاع قد سحبت الدعوى، وتأكد الأمر في الجلسة العامة التي جمعتنا، لكن المحكمة، بما أنها سجلت القضية كانت مجبرة على المواصلة و النطق … بالبراءة ! أما في قضيتي مع بتشين، أو بالأحرى في قضيته معي، جعلت مني الشائعات الموجهة، في قلب للموازين والمفاهيم والمعقول نادر من نوعه، جعلت مني المدبر لإسقاط بتشين وزروال بينما كنت أنا الضحية الذي استدعي من قبل الشرطة…؟؟

أروي لكم هذا فقط للولوج في موضوعي اليوم لأنه قد يؤدي بي إلى نفس التهمة وقد ترفع وزارة الدفاع الوطني قضية أخرى ضدي لأنني هنا سأقول بعض الحقائق حول الجيش، أو لكي أكون أكثر وضوحا حول العسكريين الذين يميلون إلى الخلط والمزج بين أشخاصهم ومصالحهم الخاصة ومصالح الجيش الوطني “سليل جيش التحرير الوطني”.

ومن المهم هنا أن أدقق معنى كلامي حيث عندما أتحدث عن هذه المؤسسة العزيزة على قلوب كل الجزائريين وهو ملكهم وإرثهم المشترك، بما فيهم أنا الذي خدمته بكل فخر واعتزاز مدة 27 شهرا في إطار الخدمة الوطنية، فإنني أقصد قياداتها العليا وليس مجمل قواتها الأرضية والجوية والبحرية بجنودها وضباطها وهياكلها وعتادها وفرق المخابرات التابعة لها. لكن وكما يقول مثل فرنسي قديم “من الأحسن أن نقول الأشياء كلها، حتى تلك التي تبدو واضحة وضوح الشمس”، وأضيف خاصة تلك التي قد تستعمل ضدك.

إذن، أين بيت القصيد؟ هل صحيح أن الجيش الجزائري، ككل الجيوش في البلدان الديمقراطية الحقيقية هو “الصامت الكبير” أم أنه “زي الأطرش في الزفة” كما يقول المثل المصري، لا يسمع الضجيج من حوله، ويا ليته كان عرسا، بل الأصوات والصراخ المتصاعد حوله اليوم هو صوت المنبهات التي بدأت تشغلها كل الأوساط في البلاد وخاصة منذ أن ضرب السيد تبون إلى عنقه وتم الحكم لصالح “أعمدة العقد الاجتماعي- الاقتصادي” الذي قد يتحول إلى تحالف شيطاني.

لكن لا يمكننا القول بأن جيشنا صامت بما أنه يعبر عن رأيه بانتظام عبر افتتاحيات مجلته الرسمية “الجيش”، أو شفويا عندما يتحدث قائد الأركان باسمه في مناسبة أو أخرى، وهو يمثله رسميا، كما فعل مؤخرا اللواء قايد صالح من قسنطينة  للتذكير بأن  الجيش الجزائري “جيش جمهوري”. لكن “هْنا يختلفوا العلماء” جنرال !

عما نتحدث؟ عن الجمهورية؟ تعني هذه الكلمة باللاتينية “شيء الشعب” وعبر العالم توجد جمهوريات شريفة وحقيقية وعريقة، لكن يوجد أيضا جمهوريات ديكتاتورية، جمهوريات وراثية، وجمهوريات مزيفة وجمهوريات تحكمها عصابات (مثل جمهورية بوكاساBokassa و باتيستاBattistaو”بابادوك”« Papadoc » ، لنبقى في أمثلة الماضي فقط). توجد أيضا جمهوريات من غير دولة (ليبيا)، ودول من غير جمهورية (داعش)، وبلدان من غير دولة ولا جمهورية، ودول مارقة، أي خارجة عن القانون…  وأين الاستحقاق في الإدعاء باحترام “الجمهورية” لمن لا خيار له سوى أن يكون كذلك قانونا ولا يمكنه القول بأنه “ملكي” أو “إمبراطوري”؟

لكن، في واقع الأمر، لقد تحول الجيش الجزائري بقيادة اللواء قايد صالح إلى جيش الرئيس ووزير الدفاع الذي غير الدستور عدة مرات خلال عهداته الأربع ليخيطه على مقاسه بل وليلتصق بجلده كما بعض ملابس الرياضيين والفنانين.

لقد أغلق علينا “فكره” السياسي ونزواته كمن يغلق لعبة الدومينو في المقاهي الشعبية، باستعمال حيل قوم “السيو” (وهم قبيلة هنود حمر معروفين بخدعاتهم في الحرب وغير الحرب) ويضرب بالمربعات بقوة على الطاولة يكاد يشطرها شطرين… نعم، نحن أربعين مليون مكعبات الدومينو أغلق علينا في الجزائر التي آلت إلى “دوار كبير” تحت حكمه. نحن في طريق مسدود ومأزق لا يسهل النفوذ منه لأنه أصبح عاجزا على الحكم بالمقاييس المعروفة ونحن مقيدين، ولا يمكننا فعل شيء لحماية بلادنا من الأزمة الاقتصادية المتربصة بنا ومن اقتناصه من قبل النسور التي تريده أن يحتضر لتفتك بجيفته.

ما معنى أن نقر بالولاء للجمهورية حين نعلم أن هذه “البيعة” ليست “للشعب السيد” بل لرجل مخفي، لا ينطق ولا يتحدث ونعلم أنه مريض مقعد، منقوص القدرات الجسدية والفكرية. عندما تحولت أركان الجيش بين الفينة والأخرى، بعد سلسلة من القرارات، الساعد المسلح والمهدِدِ الذي يحتمي وراءه نظام محتضر يحكم البلاد، بل ضيع البلاد بأن أفرغ الدولة من محتواها ودورها، وجعل منها كيانا لا يسير شؤون البلاد ولا يضمن سلامة الشعب والتراب. والكل يرى بأم عينيه أنها دولة هائمة على وجهها في القفار.

وفي هذه الظروف، لا يسعنا إلا الوصول إلى نتيجة وهي أن الجيش الجزائري لم يعد جيشا صامتا فحسب، بل ولا يريد أن يسمع أيضا، أو أطرشا يقول كلاما لا معنى له، والنتيجة نفسها. والشائع أن أكثر الناس طرشا ذاك الذي لا يريد السماع والاستماع لصوت الحق البين والرشاد، وأن أكثر الناس عميا ذاك الذي لا يريد أن يرى الحقيقة في وضح النهار ويدير وجهه تفاديا لرؤية ما يحدث تحت عينيه.

إلى غاية العام الماضي، كان يمكن للعسكريين اللذين شغلوا مناصب عالية في القيادة وتقاعدوا أن يمدوا برأيهم في مشاكل البلاد وأن يضيئوا بعض المراحل من الماضي والحاضر من زاويتهم. لكن هذا الحق انتزع منهم أيضا عندما تقرر قانونا أن يلتزموا الصمت وإلا تمت متابعتهم ومعاقبتهم. ومنذ ذلك الحين، هجروا الساحة العامة للحفاظ على راحة بالهم وأموالهم، وتركوا الجزائر تواجه مصيرها المدمي للعين مع أنهم هم المسؤولين على المأزق الذي نحن فيه اليوم على الأقل منذ 1988.

وأنا أراهن أن ذلك القانون في قرارة أنفسهم قد حرر ضميرهم من كل مسؤولية تجاه الوطن الذي يقولون أنهم ساهموا في تحريره، ولكنهم، في تناقض مريب ورهيب، وفي آخر مطاف، سلموه لجهلة وناهبين، بعد أن كونوا هم أيضا ثرواتهم ومساراتهم المهنية خلال عقود من الحيل وسيلان دم الجزائريين.

أنتم الجبناء، أيها السادة اللذين كنت من قبل كذا وكذا ! أنتم الجبناء وليس المواطنين اللذين جعلتم منهم أناسا “مسلمين مكتفين”، وتأملون منهم اليوم أن يثوروا لينتقموا لكم لسقوطكم، وما أسقطتكم حرب بل سقطتم لأنكم وجدتم جحا أمكر منكم.

عندما نهض الشعب في أكتوبر 1988 وفي بلاد القبائل في 2001، أطلق عليهم النار وصرعوا كحيوانات الغاب الشرسة التي لا نكن لها رحمة. أين الشرف الذي يتحلى به العسكري، وأين شجاعة الجندي ووفاؤكم للوطن؟ أين ضميركم الوطني؟ كلها كلمات كنتم تتشدقون بها كذبا منذ الاستقلال وإلى اليوم والبلاد على شفى حفرة من الهاوية والإعصار الذي سيقصف بها على الأبواب ليعيدها إلى حرمانها الذي تكبدته قبل الاستقلال، إلى عهد الباشاغا والقايد و”الشمبيط” الذين سيتمتعون بأن يسخروه مرة أخرى وأن يستغلوه و”يكددوه” إلى آخر عظم فيه؟

مثلي من الناس لديهم الحق المعنوي بأن ينهروا الشعب ويستنكروا فيه ركونه إلى الرداءة وعدم الطموح للعلا وعدم الامتثال لما سيجعل منهم قوما أفضل لأن هذا ما لم أتأخر في فعله منذ سنوات السبعينيات في كتاباتي. لكنني لو كنت مكانكم، لما اكتفيت بالقول، بل لكنت فعلت. لكن آنذاك، لم أكن سوى مراهقا كان يحلم بتحريك ضمير شعبه بالقول والأفكار، بينما كنتم أنتم تبذلون الجهد الكبير لإبقائه على حاله، حال “الغاشي”. وأما اليوم، فهو حبيس هذيان رجل أتيتم به وفرضتموه وطلبتم من بعض الرجال، ذوي النية الحسنة والرغبة في خدمة بلادهم مثلي بأن “يساعدوه في إعادة بناء الوطن”.

أنتم، أيها السادة الذين فررتم من جيش فرنسا وجعلت منكم الجزائر المستقلة جنرالات، لا تفروا من هذا البلد الذي أمدكم بأكثر مما أعطيتموه. كونوا شجعان وأخرجوا إلى العلن وقولوا كلمتكم، وإذا لزم الحال، ألا تقبلون بالتضحية من أجل الجيش الشعبي الوطني الذي صنعتموه وصقلتموه، لكي لا يكون بعدها وسيلة قمع الشعب بأمر من مستبد أو جهة، أو حتى بأمر مباشر من المافيا والعصابات غدا؟

أطلقتم الرصاص على الشعب يوم الاستقلال وبعده وخلال الانقلاب العسكري في 1965 وفي أكتوبر 1988 وفي2001…! بركات!

إن الجيش فقد آلاف “الجنود” في المعركة ضد الإرهاب و قتل عشرات الآلاف من الجزائريين الذين أخذوا طريق الإرهاب. إلى متى سيواصل الجيش الجزائري في حربه ضد الجزائريين الأبرياء أو “الضالين” ونحن نعرف أن حتى هذا “الضلال” هو نتيجة خياراتكم وعميكم ورداءتكم. إن جيش التحرير الوطني الذي تدعون الانتماء له لم يقم بما فعلتموه، بل حارب مستعمرا غاشما شرسا فأخرجه من أراضينا وأعاده من حيث جاء.

أعلن مؤخرا قائد الأركان وهو يبدي علامات رضا بالنفس ذكرتني بصدام حسين بأن جيشنا من بين أقوى الجيوش في العالم. هنا أيضا “يخْتلفوا العلماء” جنرال!

وأنا أستند في قولي عما يقول به العلم الحربي العالمي، واستند على تجارب آخر الحروب في العالم لكي أقول أن جيشا لا يستند إلى اقتصاد وتكنولوجيا مستقلة وفعالة، ولا ينتج العتاد العصري المستعمل اليوم، بل يشتريه من غيره، وبأن جيشا لا يملك صناعة قادرة على صنع الأسلحة التقليدية والاستراتيجية على غرار الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، دون الحديث عن بلدان الغرب واليابان، إن جيشا كهذا لا ولن يصلح سوى أن يضرب شعبا ضعيفا ومستضعفا لكي ينقسم ظهره أمام مستبد صغير لا يعدو يتجاوز استبداده ساحة دوار صغير أو سمالة ، ولا يمكنه التحدي سوى لإرهاب محلي أو مجابهة أحد جيرانه الأضعف منه سلاحا. وها هو جيشنا إلى اليوم، قد قضى ما يزيد عن ربع قرن يحارب الإرهاب ليلا ونهارا على كامل التراب الوطني ولم يتمكن من القضاء عليه.

إن الجيش القوي هو ذلك الجيش الذي ينبع من صفوف شعب حر، ذكي، مبتكر و منتج، وفخور بمؤسساته الديمقراطية، وليس مجرد هيكل عسكري يسارع في إطلاق النار على شعبه عندما يسعى هذا الأخير أن يكون كل هذا، أي حرا وذكيا ومبتكرا ومنتجا وديمقراطيا وقادرا على خلق صناعة عسكرية يمتلكها وحده دون غيره يحميه حقا.

تم إرساء وتقنين الفوضى والاستبداد عن طريق الدستور وعبر مؤسسات الدولة واحتمى الظلم “بالشرعية” و” الجيش الجمهوري” لمنع الشعب من ممارسة سيادته واكتساب مواطنته. هذه هي المعادلة التي ما زالت تعيش فيها الجزائر منذ 05 جويلية 1962 وما زالت لم تحلها.

كما قلت من قبل، أفضل أن أكرر وأعيد لكي تكون الأمور واضحة لدى الجميع، فأنا لا أطالب بانقلاب عسكري لكنني أؤكد بكل مسؤولية أن تعفن الأوضاع الحالية المفروضة علينا لا يمكن أن يخرج منها خير، بل ستؤدي بنا إلى تحطيم معنويات الأمة وهدم سلطة الدولة واضطرابات اجتماعية، وبأن أمام هذه الأخطار ليس الحل الوحيد هو الانقلاب العسكري.

إن سبيل الحوار لن يكلف البلاد دما وهدرا لوقت شعب فات عليه آلاف السنين من العذاب وينتظر العدل والإنصاف من المسؤولين عليه وباسمه. إن الحوار الذي يحبذه المسؤولين في خطاباتهم الرسمية وأحد أعمدة الدبلوماسية الجزائرية هو ما سيسمح لهم بالسماع إلى صوت الحق والحكمة وتفتح نفوسهم لتدب فيها الروح الوطنية من جديد. إن البلاد تحتاج إلى أصوات قوية ووطنية تطلع “من جبالنا ومن صدورنا” وتنادي بالعدل والأمل في مستقبل يجمعنا ولا يفرقنا، في مستقبل نصنعه بأيدينا وأفئدتنا وعبقريتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى