العهدة الرابعة:الغاز الصّخري: نعمْ أمْ لا ؟
بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان
“يفعل الجاهلُ بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه”. من الحكم العربية.
خطرَتْ ببالي فكرةُ هذا المقال في ختام حصة تابعْتُها في قناة تلفزيونية جزائرية خاصّة حول الغاز الصّخريّ . وقد ختم المتدخلون آراءهم بخلاصات لاستنتاجاتهم. وممّا لفتَ انتباهي هو تلك الكلمة الختامية التي ألقتها المشارِكة الوحيدة في الحصّة، إذ راحت تتكلّم وعيناها مُغرَوْرَقتان بالدموع عندما حيّتْ موقف المواطنين المُقيمين في مناطق الجنوب من هذه القضية التي ستكون سبباً في شقاء شريحة واسعة من المُجتمع الجزائريّ خلال الأشهر القادمة، لأنها ستجد نفسها بين نارين: المصلحة من جهة والضمير من جهة ثانية. وكانت عاطفتها جيّاشة إلى درجة أنّ المُنشّط نفسه أجهش بالبكاء، ولقِيَ صعوبة حتى في إيجاد خاتمة للحصة. لكنه بعد لَأْيٍ تَمَاسَكَ وتوجّه بناظريْه إلى الكاميرا مُوجّهاً كلامه إلى الرئيس مُناشداً إياهُ أن يكون من طينة العربي بن مهيدي وسليمان عميرات، وأن يختار جزائر المليون ونصف شهيد إذا كان لا بدّ أن يختار بينها وبين الغاز الصخريّ.
وقبل البدء في موضوع هذا المقال أستسمح القارىء الكريم بإزالة بعض اللّبس عدْلاً وإنصافاً: إنّ العاطفة، كما ظهر لنا في المشهد السابق، قد تُعمِي العيون وتكسر الصوت. كما قد تُشوّش التفكير. إنّ المرحوم سليمان عميرات، الذي تشرّفتُ بمعرفته، كان يحمل بين جوانحه براءة الشعب الجزائري، وأنا أتذكر الحصة التلفزيونية التي نطق فيها بهذه العبارة: “لوْ خُيِّرْتُ بين الديمقراطية والجزائر لاخترْتُ الجزائر”، وذلك في معرض تعبيره عن رفض الإسلاموية الراديكالية التي كانت تتأهب للتّربّع على عرش السلطة. وقد بقيتْ تلك الكلمات بعد وفاة المرحوم إلى أنْ تبنّت الجزائر النهج الديمقراطيّ.
إنّ هذه العبارة التي تركها سليمان عميرات والتي يستشهد بها الكثير بخشوع تام من أجل إيجاد أعذار للاستبداد هي عبارة مشحونة بالعواطف بقدر ما كانت الذرة البدئية التي خرجت من الانفجار الكوني الأول Big bang مشحونة بالطّاقة، لكن من الناحية العملية والعقليّة لا يمكن الاختيار بين واقع مادّيٍّ ـ أي الجزائر كأرض وكشعب ـ والديمقراطية ـ وهي فكرة، أو مثل أعلى، أو أسلوب تسيير من شأنه أن يضمن الحياة الكريمة للناس والتعايش السلمي بينهم. إنّ الديمقراطية هي “سلطة الشعب” على الأرض بما فيها من ممتلكات وأشخاص. ويمكن القول إنّ الديمقراطية لا تَعْلَمُ بوجود الجزائر، وهي مُزدهرة أينما اختيرت كأسلوب حكم، لكن الجزائر لن تزدهر من دون ديمقراطية ولن يطول عمرها في التاريخ بعيداً عنها.
ولذلك فإنه مِنْ غير المُمْكِنِ أنْ نختار بين الجزائر والديمقراطية، فذلك مِنْ قَبِيل الاختيار بين بلدٍ وشعبِه، أو بين شعبٍ وأحسن نظامٍ تُسيَّرُ به شؤونُه، أو بين أرضٍ وسُكّانها، أو بين أرضٍ بدون سكانٍ وسكّانٍ بدون أرض، أو بين حياة الدّوّار وحياةٍ عصريّة. فلا وجود لأحدهما دون الآخر، اللّهُمّ إلاّ إذا كان القبول بالاستبداد حُكْماً والمهديّ المُنتظر حاكِماً، وكلاهما سينتهي به الأمر ، طال الدّهر أمْ قَصُر، إلى تدمير البلاد على أية حال. كُلّ ما بإمكاننا القيام به هو النجاح أو الإخفاق في إدخال البلاد ومؤسساتها في عهد الديمقراطية. والحال أن الجزائر في زمن ادّا سليمان قد فشلتْ في التحوّل إلى ديمقراطية، وهي لا تزال كذلك.
ومنذ ما يُقارب الأربع سنوات كُنْتُ قد نشرْتُ في هذه الصحيفة مقالاً تحت عنوان: (ضميرُ الشعوب LSA du 5 Mai 2011)، وطرحتُ فيه مشكلة استغلال الغاز الصخريّ. ولم تكن المشكلة مطروحة آنذاك في بلدنا، بل كانت مطروحة في فرنسا حيثُ ظهر الخلاف بين إرادتين كاد الصدام أن يحدث بينهما عندما اكتُشفت أولى مناجم هذا الغاز. فالحكومة الفرنسية كانت شديدة الاهتمام باستغلال هذه الثروة التي جاءت في وقتها، بينما كانت أقلّية من المواطنين مُعارضةً لهذه الفكرة لأسباب تتعلق بالحفاظ على البيئة. وقد اضطُرّ الرئيس فرانسوا هولند الذي انتُخِبَ عاماً بعد هذا إلى منع استغلال الغاز الصّخريّ واضعاً بذلك حداًّ لهموم الشعب الفرنسي، ثُمّ طُوِيَ المِلف ونُسِيَ الموضوع. وممّا جاء في المقال الذي كتبته آنذاك:
بداية النّص: ” إنّ الدولة التي كانت مُنشغلة بمشكلة مديونتها الدّاخليّة وعجز ميزانيتها وتقهقر صادراتها، كانت تنظر نظرة تفاؤلٍ إلى تلك الثروة، لكنّ تحمّسها ما فتىء أنْ خمد بسبب ردّ فعل الضمير الفرنسيّ… هذا رغم أن الفرنسيين كأفرادٍ كانوا سيجْنُون فوائد مُعتبرة باستغلال المناجم المُكتشفة لأنّ الأمر يتعلّق بمصدر طاقة غالي الثمن في فرنسا… وهُمْ على علمٍ بالامتيازات التي استفاد منها الأمريكيون بفضل هذا الغاز… إنّ الفرنسيين لم يُفكّروا إلاّ في التوازنات الطبيعية ومصادر المياه في بلدهم، كانوا يُفكّرون في مستقبل كوكب الأرض أكثر من تفكيرهم في المصالح الفردية التي سيستفيدون منها.
وبنفس الأسلوب كان ردّ فعل الكنديين رغم أن بلدهم يتمتع بوفرة المياه بما يزيد عن الحاجة. لقد نظر هذان الشعبان بعيداً، وكان تفكيرهما في المستقبل البعيد الممتد إلى قرنٍ أو أكثر، فرفضا الريع وحياة الترف التي يتبعها الندم… لم يفكر الفرنسيون والكنديون كما نفكر نحن. فلو أنّ نفس الوضع طرأ علينا لكان لسان حالنا يقول للسلطات: ” أحيِني اليوم واقتلني غداً !”. ومهما يكن فإنّ السلطات الجزائرية أمْضتْ مؤخّراً عقداً مع شركة ENI بغرض تثمين إمكاناتنا في الغاز، ودون أن تستشير أحداً…
أمّا نحن، فإننا نفعل العكس لأنّنا نشتغل في اتّجاه مُعاكس للاتجاه الذي يشتغل فيه الآخرون، نحن كالصراصير: ما نقوم به في الصيف (أي التعويل على البترول والغاز، ودعم الأسعار، وإسعاف اقتصاد مُنهك) لا شيء يضمن لنا أننا سنكون قادرين على القيام به في الشتاء. فنحن نُعَوِّل على عبارة ذات نبرة خطابية، وهي “ربّي يفرّج !”. ذلك هو العَتَه التاريخيّ، وذلك هو الموقف المقلوب، وذلك هو الاستعداد لحصر التفكير في اللحظة الراهنة، ذلك كله يقود إلى الاستعمار، وإلى الاستقلال الذي يكلّف مليونا من الضحايا ويليه تدمير البيئة كلّها… وإذا كانت الأمور على ما يُرام في الوقت الراهن فذلك يُعزى إلى أنّ الأموال التي نملكها تزيد عن حاجتنا. فماذا سيحدث في اليوم الذي يقلّ فيه مالنا عن حاجاتنا؟ “ربّي يفرّج !”، ذلك ما تقوله السلطة في هدوء ملائكيّ. أمّا الضمير الشعبي فيُدمدم مُهدِّداً: ” أحييني اليوم و…”… “. نهاية النصّ.
وها نحن أولاءِ قد وصلْنا إلى هذا الوضع أربع سنوات بعد نشر هذا المقال ! فالأموال بدأت فعلاً بالتناقص، والخوف آخذ في الانتشار بين أفراد الأمّة، ويقول المثل: ” يمكن للكذبة أن تجري طيلة عام كامل، لكن الحقيقة تقبض عليها في يومٍ واحد”. وإذا كان يبدو أن الله، الذي لا يعلم تدبيره للأمور إلاّ هو، قد استجاب لتضرّعات الدولة الجزائرية، إذْ أغدق عليها بمخزون هائل من الغاز يقول المختصون أنه ثاني أو ثالث مخزون في العالم، فإنّ هناك شيئا ما في الأجواء قد يكون فيه مشكل. ذلك أنه بدلاً من عبارة “أحيِنِي اليوم واقتلني غداً”، والتي كانت الحكومة تتوقّع سماعها من أفواه المُواطنين، فقد أُتيح لها سماع نغمة جديدة كلّ الجِدّة ، وهي مُنطلقة من عين صالح ومُوجّهة إلى شعبٍ جزائريّ محتار. وعند ذلك وجدنا في أنفسنا شيئا غير معروف يصعد من أعماقنا، وذلك تحت تأثير ردود أفعال إخواننا في الجنوب، وكذا الأسلوب الذي تبنّوه في إيصال رسالتهم عندما اعتمدوا على العامل الروحي بدلاً من نهج المُطالبة، وهو نهج يلقى عند الجزائريين قبولاً كبيرا كما أثبتت التجارب السابقة ذلك.
وبالفعل فإنّ إخواننا في الجنوب، وخاصة منهم سكان عين صالح، راحوا يتضرّعون إلى الله الذي وهب الغاز الصخريّ للجزائر طيلة أسابيع، لكنهم كانوا يدعون بأنْ يُجنّبها استغلال هذا الغاز، إذ راحوا يُرتِّلون طيلة أيامٍ: ” يا لطيف، يا لطيف، انصُرْ عبدك الضّعيف” على طريقة “الطُّلبة” المفجوعين، وأيديهم مرفوعة إلى السّماء وأعينهم مُغرَوْرقة بالدموع. إننا لم نرَ أبداً جماهير تدعو الخالق أنْ يحرمها أو يُخلِّصها من ثروة طبيعية لأنّ كلّ ما رأيناه منذ قرون عديدة في الجزائر أدعية تُقرأ في المساجد لتطلب الرزق من الله، مثلما هو الشأن في صلاة الاستسقاء في حالة الجفاف.
هل يمكن اعتبار كلّ هذا تخريفاً أو سذاجة؟ كلاّ. إنها بداهة الذكاء السياسيّ والتكتيكي عند أهل الجنوب المعروفين بزهدهم واستقامتهم. فماذا عسى قوات الأمن أن تفعل أمام هذا الموقف الذي جلب إليه تعاطف الأمّة، وأمام هذه الالتماسات المُوجهة في حقيقتها إلى رئيس الجمهورية أكثر من كونها موجهة إلى الله، وأمام أسلوب احتجاج غير مسبوق كهذا؟ ذلك أنّ إخواننا وأخواتنا في الجنوب لم يلجؤوا إلى “العنف” الذي ألفناه في الشمال بعدة أشكال ( شعارات مُعادية للسلطة، اتخاذ شرائح من المجتمع كرهائن، تظاهرات، تهديد بالانفصال…)، وعوّضوا العنف بالقدرة على الإقناع بواسطة المُقدّسات، لأنهم فضّلوا الحِجاج بخشية الله على إخضاع السلطة. إنها حقاًّ مبادرة تستحقّ أن توضع لها علامة مُميّزة ونبدأ بالتفكير في تصديرها إلى بلدان العالم الإسلاميّ.
لم تكن هذه الطريقة ذكيّةً فحسب، بل كانت فعّالةً بدليل أن مواطني الجنوب قد حقّقوا نتيجة أولى، وهي إزعاج الحكومة وإرغامها على تعديل برنامج عملها وعلى الحوار والتواصل، كما حققوا جذب تعاطف الأمة معهم… لكن هل يكفي هذا لإرغام السلطة على التّراجع، وهي السلطة التي وصفها الوزير الأول مؤخرا بأنها سلطة تنظر إلى الجزائر على أنها طبقتان: حاكم ومحكوم. وهو في هذا يكشف عن جهله بأنّ الجزائريين لم يعودوا يحسّون بأنهم (محكومون) من طرف أيٍّ كان منذ أمدٍ بعيد.
قد يذهبُ البعض إلى تفسير ما حدث بأنّ إخواننا في الجنوب مدفوعون بفكرة أنهم لن يستفيدوا شيئا من الغاز الصخريّ كما لم يستفيدوا من البترول طيلة خمسين سنة. وفي هذا التفسير إهانة لهم لأنهم يُطالبون بمنع استغلال الغاز الصخريّ في التراب الوطنيّ كُلِّه. بل إنّ الأمر قد يصل إلى المساس بكرامة إخواننا وذكائهم وروحهم الوطنيّة عندما تُفسّر حركتهم بأنها بفعل تدخلات وتلاعبات من أطراف داخليةّ وأجنبيّة. إنّ في ذلك تشويهاً لبراءتهم الملائكية وتقديمها في صورة مُخزية وشيطانية، وهي الصورة التي تتناقض مع طبيعتهم تناقضاً تاماًّ. فلو أنهم قبلوا بإغراءات دوغول لكانوا اليوم هم سادة الجنوب والمتحكّمين في ثرواته، ولكُنّا نحن جيرانهم الفقراء.
ومع ذلك ينبغي عدم الاستسلام للأوهام. فصَفاء سريرتهم وإيمانهم الراسخ لن يكون لهما تأثير على المتحكمين في السلطة التي لن تتعاطف مع هذه القضية. إنّ هذه الفطرة السليمة التي أثرت في وقت ما في كلّ من إيزابيل إبرهارت Isabelle Eberhardt، وإرنست بسيشاري Ernest Psichari وإيتيان ديني Etienne Dinet لن تؤثر في سلطاتنا إطلاقاً. فحُكّامُنا لن يتردّدوا في قمع أهل الجنوب، وهُم مُستعدّون لدسّهم تحت الرمال مثل النفايات المُشِعّة إذا أصرّوا على سدّ الطريق أمام السلطة التي تتذرّع بأنها تعمل من أجل “المصلحة الوطنية” و “مستقبل أبنائنا”. فمن الخطإ الاعتقاد بأن الحكومة ستتراجع عن مشروعها في هذه المسألة وستصرف تفكيرها عن هذه الثروة التي لم تكن تحلم بها.
إنّ ما ينبغي أن نعرفه تمام المعرفة هو أنّ تحقيق 60 مليار دولار من المداخيل سنوياًّ بمجرد استغلال المحروقات أسْهل بكثير من إعداد مجتمع عامل ومُنتِج مثل خلايا النحل، وقادر على إنتاج احتياجاته وتصدير الفائض من أجل تحقيق مداخيل بالعملة الصعبة. فهل يمكن تصوّر أنّ الجزائر الحالية قادرة على تصدير ما يعادل 60 مليار دولار سنوياًّ خارج المحروقات من أجل تغطية كلفة الواردات الضرورية للحياة اليومية؟
وهذه الإمكانية تستلزم تغييراً فورياًّ لجميع مُعطياتنا الجسمية والنفسية والذهنية والأخلاقية والاقتصادية، وبروزا مُفاجئا لضمير وطنيّ لدى الأغلبية الساحقة من السّكان، وهذا يقتضي تحوّلاً فجائيا لتنظيمنا الاجتماعيّ والسياسي الحالي إلى إطار دستوريّ ديمقراطيّ، وسلطة شرعيّة، ونظام تعليميّ فعّال وشديد الاتّصال بعالم الاقتصاد، وإلى نخبة سياسية حاملة لأفكار بدلاً من السّذاجة التي حبستها بين جدران الفنادق في انتظار أنْ تُهدى إليها السلطة إهداءً لمُجرّد أنها راغبةٌ فيها… وبما أنّنا لم نُحقِّق واحداً بالمائة من كلّ هذا على مدى ثلاثة آلاف سنة من تاريخنا ( والأحرى أن أقول: من تواريخنا)، فكيف نطمع أن نحققه في بضع سنوات ونحن نرزح تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والأخطار المُحدقة بنا؟ بصراحة، أحرى بنا أن نقول إننا “محكومين”، مثل الموتى بين أيدي غسّاليهم، أو مثل الغاز الصّخريّ المحصور في ثنايا الصخور. وبعبارة أدق: فات الأوان يا ناس !
ولو طُلِب منّي التعبير عن رأيي بخصوص استغلال الغاز الصّخريّ أو عدم استغلاله فإنّ إجابتي ستكون واضحة بيّنة وصريحة لأنّ مِنْ واجب كلّ فردٍ أن يتخذ موقفه تُجاه هذا النقاش الذي فتحه إخْوانُنا في الجنوب. وأبدأ إجابتي بطرح ثلاثة أسئلة: هل نحْنُ مُخيَّرون في هذه المسألة حقاًّ؟ هل هناك بديل عن الرّيع الذي نعتمد عليه، ونحن مُتميّزون في تسيير شؤوننا بالرّداءة وما يتبعها من فسادٍ وتبذير، اعتماداً على ما تدرّه علينا شركة سوناطراك وحدها؟ وهل من الروح الوطنيّة اليوم أن نستغلّ الغاز الصّخري أم إنها في تفادي استغلاله؟
صحيح أنه كان يجب علينا منذ البدء بناء اقتصاد عقلانيّ، مُسيّر ذاتياًّ، متنوّع وقادر على التّصدير، مُعتمد على العمل والإنتاجية والنوعية، لكن الأمور لم تسِرْ على هذا المنوال. كان يجب أنْ نبدأ بتأسيس مجتمعنا منذ القرن 19 بالمشاركة في الثورة الصّناعية. ونحن لم نفعل ذلك لأنّنا كُنّا تحت وطأة الاستعمار الفرنسيّ. فقد استولت القوات الفرنسية على الجزائر العاصمة في ظرف ثلاثة أسابيع. وقبل الاستعمار الفرنسيّ كُنّا تحت نير الاستعمار التركي الذي لا يُميّزه عن الفرنسيين غير كون الأتراك مسلمين مثلنا. أمّا الرومان الذين استعمروا بلادنا فترة تُعادل أربعة أضعاف فترة الاستعمار الفرنسيّ فقد نسيناهم تماماً لأن عهدهم ضارب في أغوار تاريخنا القديم.
وما السّبب في احتلال الأتراك لبلادنا؟ لأنّنا كُنّا تحت تهديد الإسبان وكُنّا عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا، فاستنجدنا بقراصنة الأتراك وانكشارييهم الأشاوس. وما العِلّةُ في عجزنا عن الدفاع؟ لأنه لم يكن لدينا جيشٌ وطنيٌّ وكُنّا مُنقسمين إلى قبائل وعروش ، ولأننا كُنّا مُشتّتين أفراداً لا يربط بينهم أيّ انسجام وأيّ علاقة عمل، ولا تصوّر فلسفيّ ولا “حس مشترك”، ولأننا لم نكن نعيش في كنف عقد اجتماعيّ واحد أو طموح لتأسيس دولة وطنية، ولا أساليب عمل وعيش موحدة. وحتى في أيامنا نحن بصدد محاولة التّخلّص مما تبقّى من القواسم المشتركة التي لا زالت تجمع بيننا. فبعضنا يسعى إلى الاستحواذ على قيم ثورة نوفمبر، والبعض الآخر يريد أن يهيمن على الإسلام، وآخرون يصرّحون بأن الأمازيغية ملكهم وحدهم.
وبعد 132 سنة من الاستعمار الفرنسي أخذنا مكاننا في مركبة نزع الاستعمار التي مرّت بمنطقتنا لنُحقق استقلالنا مُقابل تضحيات جسام بالأرواح تأتي مباشرة بعد التضحيات التي قدّمها الفيتناميون من حيث العدد. غير أننا، ومباشرة بعد استقلالنا وجدنا أنفسنا تحت سيطرة جهل ممزوج بالتعنت، إلى جانب روح الدّوار وعقلية “المعزة الطائرة التي تطير”، وهي كلّها وصمات ناتجة عن عبقريتنا الوطنية. مات بومدين في ديسمبر 1978 تاركاً لنا مديونية تُقدّرُ بـ 14 مليار دولار في وقت كان فيه عدد سكاننا 14 مليون نسمة تقريباً. وفي نهاية عهد الشاذلي بن جديد في جانفي 1992 ارتفعت مديونيتنا إلى 26 مليار دولار على عاتق حوالى 26 مليون نسمة من الجزائريين. ولم تُمسح تلك الدّيون إلاّ بفضل استمرار أسعار البترول في الارتفاع خلال سنوات 2000.
وفي نفس هذه الحقبة استطاعتْ بلدان من جنوب أوروبا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى من المغرب، كانت كلّها في نفس وضعيتنا الابتدائية، ورغم أنها لم تكن تتمتع بنفس ثرواتنا الطبيعية، استطاعتْ أن تتحول إلى بلدان في طريق النمو أو إلى قوى اقتصادية وتجارية عالمية. وكأنّ الفشل الاقتصادي لم يكن كافيا لإثبات تأخرنا، فرُحنا نُفرّجُ العالم على مشهد فظائع الإرهاب التي لم تعرف لها البشرية مثيلاً منذ جنكيز خان، وهو المسلسل الذي انتهى بـ 200.000 من القتلى. وما إنْ خرجنا من الإفلاس الاقتصادي ومن مرحلة الإرهاب خلال التسعينيات حتى سارعنا، لا شعورياًّ أو بدافع نوازع شيطانية، بإعادة خلق الأسباب التي أدت إليهما.
وما هي الحظوظ المُتاحة لنا اليوم لبناء اقتصاد عقلانيّ، متنوّع ومندمج وقادر على التصدير؟ فإذا ما استنفدنا احتياطي الصرف المتوفر لدينا (وسيكون ذلك في ظرف ثلاث سنوات على الأكثر)، فإننا سنلجأ إلى الاستدانة مُجدّداً لأننا سنكون بحاجة إلى ستين وثمانين مليار دولار سنويا (إذ يجب ألاّ نُهمِل النفقات العسكريّة) من أجل الحفاظ على قدرتنا الشرائية، والإبقاء على نسبة البطالة ونسبة التضخم في المستوى الذي توجد فيه حالياًّ. ولا مجال للأمل في رفع مستوانا، هذا إنْ لم نَقُلْ إنّ كثيرا من مواطنينا يتخبطون في عتبة الفقر. وبعد سنوات قليلة سترتفع مديونيتنا إلى مئات الملايير من الدولارات، إنْ وجدْنا مُموِّلين معتوهين يقبلون بمُسايرتنا في هذا الهروب إلى الأمام. وسيكون علينا أن نبيع بلادنا، بأرضها وباطن أرضها، وبأثاثها، كي نُسدد ديوننا.
إخواني أخواتي الأعزاء. أجد نفسي مُضطراًّ بإزاء هذه الأسباب غير الكافية، أن أُعبّر بامتعاض عن قبولي باستغلال الغاز الصّخري في أقرب وقت ممكن لأنّ البيئة لا تهمّنا، بل إنّنا لا نعرف حتى معنى كلمة البيئة لأنّنا عشنا طيلة ألفيات من الزمن دون أن نهتمّ بها. وأرجوكم إذن أن تبتعدوا عن الرّياء ! إذْ ما قيمة الاهتمام بالوسط الطبيعي وطبقة الأوزون في الوقت الذي نُدمّر فيه الإنسان بذاته؟ إن هذا البلد الذي لم نُحسِنْ تشييده، والذي بقي أرضاً بورا باستثناء الفترات التي أشرف على استغلاله فيها مُحتلّ أجنبيّ، هو أكبر وأعظم من أن يشغله قوم ذوو خشونة وذوو طبع مُتوحّش مثلنا، وهو أعظم من عصبياتنا الحقودة والمجرمة، ومن حُكّامه الأراذل الذي اعتلوا عرش سلطته منذ ظهور الحركة الوطنية سنة 1926، ومن ميولنا التخريبية الفردية.
لا شكّ في أنّنا لو نظمنا استفتاءً حول مسألة استغلال الغاز الصخري لكانت الأصوات الفائزة هي الأصوات الموافقة على استغلاله، وبدون أي تزوير. فسيحصُلُ أوسع إجماع عرفته البلاد منذ ظهور إنسان ما قبل التاريخ في مشتة العربي، ويلتفّ حوله أهل الريع والتّحايل، وكلّ المتعوّدين على رعاية الدولة، وكلّ الكُسالى واللصوص والقدَريين والمُشعوذين والديماغوجيين. فالسلطة ليست مُضطرة للتزوير لأنّ لديها هامشاً كبيراً للمناورة بفضل الشرائح السابقة.
لو أنّنا أعرضنا عن استغلال الغاز الصخري، وربّما حتى السيانور والنيتروجليسيرين إذا صارت مواد أولية، فإنّنا بذلك نكون قد حكمنا على أنفسنا بالإفلاس على المدى القريب، وبالشقاء العام، والحرب الأهلية، بل إننا نُعرّض بلادنا إلى التقسيم والتدخل الأجنبي، والوقوع بين براثن الدولة الإسلامية على شاكلة دولة طالبان أو دعش أو بوكو حرام، وما إلى ذلك من الخيارات الكثيرة التي ستتاح لنا والتي تنتظرنا في نهاية الطريق التي اخترناها، فذلك هو مصيرنا المحتوم ونهايتنا المأساوية. إنّ إطارات الدولة الإسلامية وخلفاءها وفقهاءها وكوموندوساتها على أتمّ الاستعداد لتحمّل مسؤوليتها التاريخية المُقدّسة. فهم يعيشون بيننا، في كلّ البيوت، وهُم ينشطون في وضح النهار، ويفرضون على المجتمع أسلوب الحياة الذي يريدونه، فيُشرفون على تزويج أبنائنا وبناتنا، ويُفسّرون لنا أحلامنا على شاشة التلفاز. فهل نُريد أكثر من هذا كُلّه؟… هل نريد أن يتدخلوا حتى في تحليل أو تحريم استغلال الغاز الصخريّ؟
لوسوار دالجيري 28 جانفي 2015