بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة:شعب المُعجزات

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

” إنّ الجسم الحيّ هو تعاونية من الخلايا التي عليها أنْ تتفق كي يواصل البقاء. والمجتمع هو تعاونية من الأفراد الذين عليهم أن يكونوا مثل تلك الخلايا”. ريشارد داوكينس (Richard Dawkins).

لو كُنّا حقاًّ في مرتبة “شعب المعجزات” التي أراد عباسي مدني أنْ يُقنعنا بها في خضمّ استعداداته لاعتلاء منصب أول خليفة في أول دولة إسلامية جزائرية، لو كُنّا كذلك فعلاً لما كان هو نفسه اليوم في قطر  منكمشاً حول نفسه. فلطالما ادّعى ضمنياًّ أنه صاحب حظوة عند المولى عزّ وجلّ، ومن هذا المقام راح يَعِدُ الناخبين بالجنّة مُقابل منح أصواتهم لجبهة الإنقاذ. والدّرس الذي يمكن أخذه من التاريخ أنّ الله أذاقه جحيم السجن طيلة عشر سنوات وويلات المنفى لنفس المُدّة، أمّا ” شعب المُعجزات” فكان مِن نصيبه فترة من الإرهاب التي لا يزال يُكابد من أجل الخروج منها، والدليل على ذلك هذا العدد المُعتبر من جنودنا الذين سقطوا كضحايا في غضون هذا الأسبوع. وذلك هو شأن كلّ الوعود التي لا تُلْزِمُ إلاّ مَنْ يؤمن بها.

واليوم، ها هو بن فليس لا يذكر “الشعب الجزائريّ” إلاّ وألحق به صفة “العظيم”. لو كان ذلك صحيحاً فلماذا لم يُساندْ هذا الشعب العظيم “قضيته العادلة” عندما أعرض عن الانتخاب أو صوّتَ لصالح بوتفليقة؟ فحتى لو لم تتجاوز نسبة المشاركة الـ 10%، وأن بن فليس كان هو الفائز بدون تزوير، فلماذا قبِلَ بعهدة رابعة مُغتصبة؟ ولماذا قبل برئيس رديم بدلاً من رئيس جديد؟

وأخيراً فإنّ بوتفليقة الذي كان يُتحف هذا الشعب بعبارة “وما أدراك ما الشعب الجزائري!” عندما كان يتمتع بالقدرة على الكلام، بوتفليقة وحده هو الذي تمكّن من التسلل بين القطرات والوصول إلى سدّة الحكم. ومن يدري؟ قد يكون انتصاره عليهم بفضل عبارة “ما أدراك” التي استقاها من القرآن.

إنّنا نعرف تاريخ ظهور هذه الصيغة الديماغوجية، فقد ظهرت خلال الأيام الأولى التي تلت الاستقلال، حيث ظهر شعار: “بطل واحد، هو الشعب !” ليُصبّ فضلُ الثورة التحريرية بكامله لحساب مجتمع بدون اسم، وذلك تفاديا للاضطرار إلى اقتسامه بين الشركاء المُنضوين فيما يمكن أن نسميه بـ (شركات باسم جماعي) والذين كانوا يتكالبون على السلطة. كان لا بُدّ ألاّ يبقى أيّ بطلٍ حياًّ لأنه سيكون صاحب الحق الشرعي في تلك السلطة. وبما أنّ الشعب ليس فرداً قد يُطالب بقيادة البلاد، فقد حدث الإجماع على هذه الحيلة: تتويج الشهداء الذين لا يمثلون عائقاً أمام أحد، وتكريم الأبطال الافتراضيين المرموز لهم بـ “الجندي المجهول”. وهذا الوضع كان مُواتياً لأصحاب المصالح وللطَّموحين الذين كانوا حقاًّ جنوداً مجهولين، أحياء وعاقدين العزم على البقاء…في السلطة.

وبمرور الوقت، ونظراً للإفراط في استعمال هذا الشعار صار تعبيراً مجازيا يحتلّ مكانة عظيمة في الخطاب، ذلك الخطاب الذي يشعر فيه الشعب الطّروب ومعه عقلية الدوار الخرافية بأنهما ارتفعا إلى العلياء مثل النبي في معجزة الإسراء والمعراج. هذه هي اللغة الشعرية، السهلة وغير العقلانية التي يُعرف بها الديماغوجيون الذين يمتدحون الشعب مثل الثعلب في قصة لافونتين عندما راح يمتدح الغراب من أجل الاستيلاء على جبنته.

ولا بُدّ من الإقلاع عن هذه الأساليب التي أكل عليها الدهر وشرب وعن هذه اللغة المستغبية  للأنديجانا الأميين، لأنّ”الشعب العظيم” ليس بحاجة لخُطب مادحة ولا لزعماء مهديين منتظرين، فهو شعب مقتنع بنفسه ومتحمل لواقعه. وعظمة الشعب تشهد عليها قوته المُشِعّة في العالم وتشهد عليها رتبته المُشرّفة في الاستحقاق الدوليّ، كما تشهد عليها متاحفه وضرائحه التي ينام فيها مئات المفكرين والمخترعين وكبار الرؤساء والجنرالات منذ أقدم العصور. وقادته يُختارون كي يُحققوا نتائج تفوق التوقّعات، ولا ينطقون بخطاب إلاّ لكي يُقدموا حصيلة عملهم.

سيكون لنا أن نهنىء الشعب ونُمجده ونُبالغ في الإطراء عليه عندما يستحق ذلك، عندما سيخرج من مؤخرة الترتيب بين أمم العالم، ويحتل مكانة في المقدمة، وعندما سيكف عن كونه أضحوكة العالم ويصير من بين الشعوب التي تحظى بالإعجاب بما يفعله في كل يوم ومنذ الأزل، بدون انقطاع، ولا يكتفي بما فعله آباؤه وأجداده منذ أكثر من نصف قرن كي يخرجوا من 132 سنة من الأنديجانا. إننا لم ننس ذلك من جهتنا لأننا بقينا مُنتشين بنرجسيتنا، أمّا هُم فلا يزالون يعتبروننا بمثابة مُستعمَرين وفقراء في الماضي، أغنياء مُزوّرين، أما بلدنا فيرون أنه سائر في طريق التأخر الاقتصادي والذهنيّ.

وهل تعتقدون بجدٍّ أنّ العالم سينبهر بآخر اختراعاتنا، وهي العهدة الرابعة، وأننا سنحظى في المحافل الدولية باحترام أكثر؟ إنّ تلك الدول التي هنّأتْ بوتفليقة على “انتصاره” والشعب على “حكمته” بحاجة إلى احتياطات صرفنا لكي تتيح فرص عمل لبعض مؤسساتها، وبحاجة إلى تعاوننا الأمنيّ لكي نُبْقي على “حرّاقينا” عندنا، وكي لا نُصدِّر لها إرهابيين جدداً ونُزوّدها بمعلومات حول الإرهابيين الذين يبحثون عنهم.

وكانت العهدة الرابعة بالنسبة لي فرصة لجسّ نبض أعماق أُمّتنا من خلال تبادل الرأي مع القُرّاء الذين يُراسلونني ويتيحون لي إمكانية إجراء بعض التعديلات على المواضيع التي أعالجها. ومن القُرّاء مَنْ استولى عليهم نوع من التشاؤم، بل الإحباط، بسبب عودتي المتكررة إلى الماضي وأحكامي التي ولّدتْ عندهم انطباعاً بأننا واقعون في شباك حتمية تاريخية لا فِكاك منها، وأنه لا مجال لرفع مستوى أفكارنا وسلوكنا من أجل تغيير مسارنا التاريخي. إنّ كوني لا أملّ من العودة إلى الماضي ليس سببُه الهيام به لكنني أجد في ذلك ضرورة بيداغوجية. وإنّ قصدي من الربط بين حاضرنا وماضينا هو تبيين أن الأسباب التي تقف وراء وقوعنا في الاستعمار هي نفسها التي تقف وراء تأخرنا اليوم، وهي المسؤولة عن الاستبداد، وهي سرّ “توَغيدنا” على يد النظام الذي يحكمنا.

إنّ الماضي ليس فترة زمنية منفصلة عن حاضرنا، وهو ليس مرحلة بائدة مثل العصرالحجريّ. وإنّ عقلية الدّوّار لا تحتل مكانا مُعيّناً من الزمن، إذ لم يتمّ وضع تلك الروح في رفّ بين تراثنا الفولكلوري وتراثنا الأنثروبولوجي جنباً لجنبٍ مع أثر “إنسان مشتة العربي” أو مع سنّ “إنسان تيزي غنيف”. فعقلية الدوار باقية في أفق رؤيتنا، وهي باقية في طريقنا كإمكانية مستقبلية وكمصدر للإلهام وكقيمة أخيرة نلوذ بها. وليس الدّوار والدشرة مضغة في قرى متناثرة في أماكن منسية من تاريخ الحضارة. إنهما يُمثّلان عالمنا الثقافيّ والاجتماعيّ أينما كُنّا وحيثما توجّهنا، حتى ولو كان ذلك في الخارج. إنهما ليسا مكانين ثابتين لكنهما مُعسكران، أو تمثيلان ذهنيان يظهران أينما التقى جزائريان أو أكثر.

إنّ الجزائريين الذين كانت أفكارهم في الماضي محدودةً بحدود “الدشرة” لم يكونوا يرون أيّ قاسم مشترك يجمع بينهم أو يمكن أنْ يجمع بينهم وبين مداشر بعيدة ومنتشرة في جميع الأصقاع والاتجاهات. لقد مات هؤلاء الجزائريون وتحوّلت عظامُهم إلى غبار، لكن تصوّراتهم الذهنية وأسلوب تفكيرهم وعملهم بقيت سارية في ميراثنا الجيني السوسيوثقافيّ والسياسيّ. نحن لسنا إلاّ خلفاً لهم، ونحن ورثتهم الذين يواصلون سيرتهم. إنّنا بمثابة كلونات لهم بغثّهم وسمينهم وبصحيحهم وخطإهم. وبالمِثْلِ فإنّ المستقبل سيكون انعكاساً للماضي وللأفكار التي نعتنقها ونوصلها إلى أبنائنا بلعبة الآلية الوراثية والسوسيو-ثقافية. إنّنا نرى اليوم غرداية تحترق وبلاد القبائل تلتهب دون أن تحسّ المناطق الأخرى بأنها مَعْنيّة بـ “مشاكلهم”. فتلك المناطق ترى أنّ هذه الأحداث التي تصلها أخبارها من بعيد واقعة عند شعوبٍ أخرى، وهي لا تعني إلاّ تلك الشعوب. ولن ينتبه سكان تلك المناطق إلى خطإهم حتى يأتي صباح يومٍ تأكل فيه ألسنة النيران أقدامهم.

إنّ شعبنا ساذج إلى أبعد حدّ، وهو عاطفي المزاج وذو وجدان رهيف، كما أنه مُتجرّد من النزعة العقلية. والشاهد على ذلك ما نراه من عودةٍ إلى الطبّ الديني مثل الحِجامة والرقية، وما نراه مِن كثرة “الدّعاة” و”الشيوخ” و”العلماء” لأوّل مرّة منذ الاستقلال، وانتشار مظاهر التّديّن الخارجي التي تظهر في الزيّ والكلام والملبس وسيطرة الأحزاب الإسلاموية على الساحة السياسية، وكذا الزوايا في جمعيات المجتمع المدنيّ… إنّ هذا الشعب في أغلبيته يريد أنْ يؤمن لا أنْ يُشغِّل عقله وحسّه النّقديّ. والأدهى من ذلك أنه يبحث عمّن يُخلّصه من سلطان العقل، وهذا ما يُفسِّرُ الشعبية التي يحظى بها الشيخ “شمسو” وقرناؤه الذين يبثّون خطابهم الديني على بلاطوهات القنوات التلفزيونية الخاصة والعمومية، حيث يحظون بكثرة المُتتبّعين لتدخّلاتهم حسب ما صرّح لي به مدير إحدى تلك القنوات. إنّ شعباً كهذا لا تنطبق حالته على التصور الذي يمكن أنْ نُعطيه لـ “شعب المُعجزات”، فهو ليس بـشعب معجزات بل هو أشبه شيء بساحة المُعجزات.

لكنّ المدير الذي ذكرتُه  يقف في صفّ الديماغوجيين السياسيين الذين لا يهتمّون إلاّ بالجوانب التي يمكن استغلالها في هذا الشعب من الناحية التجارية أو الانتخابية، ولا يُفكرون أبداً في ضرورة تبنّي خطاب واقعيّ مع المواطنين بغية التأثير فيهم وتوجيههم إلى طريق التّقدّم والمُواطنة. وهذا ما كان يفعله جُحا في الماضي في تنقلاته بين الدواوير والمداشر. إنّ النخبة لا تحتل مُقدمة الرتل لكي تُضيء الطريق للشعب وتقوده في الاتجاه الصحيح، بل تأخذ مكانها وراء ذلك الشعب وتُطري عليه بامتداح “فضائله”.

إنّ مُواطنينا بمختلف شرائحهم الاجتماعية عندما يُشاهدون فيلما مثل “كارنفال في دشرة” أو “الطاكسي المخفي” (Le clandestin) يُقهقهون لظنّهم أنّهم يضحكون من صور خيالية تكتنفها نُكتٌ من إبداع مُخْرِجٍ موهوب، والحقيقة أنهم يضحكون من واقعنا الذهنيّ والثقافيّ والاجتماعي والسياسي المنعكس على شاشة السينما. إنهم يعرفون هذا الواقع حق المعرفة لكنهم لا يضحكون منه إلاّ إذا عُرِضت على الشاشة وشاهده الجميع معاً. كُنْتُ دوماً أعتقد أنّ بعض مُمثّلينا السّينمائيين ليسوا ممثلين، وأنهم ليسوا بحاجةٍ إلى تكوين في المعاهد، إذ يكفي تصويرهم كما هم في الواقع والحقيقة. فهل بإمكاننا ان نتصوّر عثمان عريوات بصورة أخرى غير تلك التي رأيناه بها على الشاشة؟ فها هو ذا يُعطينا الدليل في فيلم بوعمامة، إذ ظهر وكأنه يُمثل دورا مُناقضاً لطبيعته، فكان أداؤه فيه دون أدائه في الأدوار الأخرى التي كانت تناسبه تماماً. وبإمكاننا ذكر ممثلين آخرين مثل رويشد. إنّ كلّ ما يُميِّزهم عن باقي الجزائريين هو أنهم يتقاضون مُقابلاً على تصويرهم على عكس بقية الشعب. وماذا عن الشخصيات التي قامت بتنشيط الحملة الانتخابية من أجل العهدة الرابعة؟ أليسوا جديرين بأن يحظوا بأماكن بجوار عريوات وصالح والآخرين؟

وهذه طُرفة من الطرائف الكثيرة التي يمكن لي أن أسوقها: كُنت في يوم من الأيام مُسافراً من مدينة إلى مدينة أخرى في سويسرا، وهذا في إطار مهمة كُلّفتُ بها، وكان سائق السيارة التي كنتُ فيها من عمال السفارة الجزائرية، وهو جزائريّ يبدو بمظهر ظرفاء (جنتلمانات) مدينة جنيف، وكان شديد العناية بمظهره كما كان بشوشا إلى أبعد حدّ. ونظراً لطول مسافة السفر كُنّا نتحدث في العموميات بطريقة أخوية. وفي لحظة من لحظات حديثه معي انتابته حشرجة في صوته، وبدا كأنه يوشك أن يُجهش بالبكاء، فاستغربت الأمر مع أني كُنتُ مُتأثراً لحاله. كان معنا شخص ثالث هو المسؤول عن بروتوكولي الشخصيّ، وكان جالساً في المقعد الخلفيّ، وهو الذي بادر بمساءلة لسائق عن سبب نوبته العاطفية. فأجابنا بأن غيابه عن أهله امتدّ لعدّة أشهر، وأنّ تأثّره كان بسبب الحنين إلى الوطن. كُنتُ في دخيلتي أظنّ أن حنينه كان إلى عائلته. لكنني اكتشفتُ أني كنتُ على خطإٍ لأنّ ما كان ينقص صاحبنا هو ـ وحسب تعبيره ـ “الهول” و”الفوضى”، وروائح الحي الذي كان يسكن فيه، وعفوية المواطنين… لقد ملّ من جنيف ومن سويسرا والسويسريين، سئم من التنظيم الهادىء والدقيق الذي يسيرون عليه، ومن هذه الوتيرة المُنتظمة التي تسير بها حياتهم بحيث يستحيل أن يحدث شيء غير مُتوقّع، وجميع الناس يتكلمون بصوت خافت، وكلّ شيء نقيّ وبراق مثل النيكل، وأنّ الإنسان يجب أن يلتزم بذلك باستمرار وفي كلّ مكان. وبينما انهمك رفيقاي في حديثهما المُفعم بالحنين والحزن انفجرْتُ أنا ضاحكاً ضحكةً هوميرية، فاندهشا لحالي. لم يكن بإمكاني أن أُوافقهما على شكواهما، ولم يكن بإمكانهما أن يستسيغا ضحكي المتواصل.

إنّنا، بناءً على بعض الاعتبارات، نشبه ذلك الجسم الذي يحمل فيروساً في حالة خمود. وفيروسنا هو فيروس “كرنافال في دشرة ” والذي لا ينشط إلاّ إذا كُنّا معاً على انفراد، في الداخل أو في الخارج. إنّ هذا الفيروس ينام بأعجوبة، لكنه سرعان ما يعود إلى نشاطه إذا ما حدث لقاء “حنا في حنا”. ولا شك أن المتعودين على السفر إلى الخارج على متن الطائرة يذكرون رحلة عودتهم: فها هم في مطار دولي يعجّ بمختلف الجنسيات والألوان. الجزائري إذا كان مُنفرداً يمرّ دون أن يجلب انتباه أحد من تلك الجمهرة المنتظمة الهادئة والمؤدّبة. لكن كُلّما اقتربت ساعة الركوب وبدؤوا يلتحقون بقاعة انتظار الإقلاع بدأ الضجيج يعلو وراح الناس يُطلقون العنان لتحفظهم، وبدأت الفوضى حتى أنّ الركوب غالبا ما يجري في فوضى عارمة. وإذا ما وصلوا إلى متن الطائرة فنادراً ما تمرّ الرحلة دون أن يحدث شيء ما، أو أن يظهر شخص يجلب الانتباه بسلوكات غريبة. ومِنْ بين مُواطنينا مَنّ قضى عشريات من عمره مُغترباً في أوروبا دون أن يُحدِث ذلك أيّ تغيير في مظهره أو في طريقة كلامه. وفي آخر الرحلة ينزل المُسافرون. وفي أرضية المطار يتساوى الجميع في تنسّم هواء الموطن الأصلي، وعند ذلك يعود كلٌّ إلى طبيعته الحقيقية: فكُلّ واحد يرغب في المرور قبل غيره، ولا يتردد في مزاحمة الآخرين بكتفيه، ويصيح بأعلى صوته، وإذا ما عبّأ عربته بأمتعته الضخمة راح يدوس على الأقدام، ثُمّ تندلع أولى المُناوشات أمام مكاتب شرطة الحدود.

منذ أقلّ من عشر سنوات، لم تكن لدينا أدوات عمل تسمح بجس نبض المجتمع على المباشر أو الاستماع إليه ورؤيته وقراءة ردود أفعاله حين وقوعها، وذلك من خلال التعليقات التي تأتي بعد مقال من المقالات أو خبر من الأخبار. أمّا اليوم، فبفضل “شعب معجزات حقيقي”، أي الأمريكيين الذين فتحوا لنا باب الإعلام على مصراعيه، والشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي، صار بإمكاننا أن نفعل كل ما كان مُستعصياً علينا في الماضي. وإنّني أذكر خطاب بيل كلينتن بمناسبة تقديمه هذه التكنولوجيا كهدية للبشرية. فما هي الهدايا التي قدّمناها، نحن “شعب المُعجزات” المُزوّر، للبشرية غير الهجرة الهمجية والإرهاب؟

ولا بُدّ أنْ نُضيف إلى وسائل الإعلام والسبر والقياس تلك القنوات الإعلامية الجزائرية الخاصة التي وصلتْ مُتأخرةً، وهي توفّر لنا فرصة التأمّل في حركات مجتمعنا، وقياس مستواه الفكري وقياس درجة الوعي، والاستماع إلى انتقاداته واكتشاف عيوبه. وصارت تلك القنوات منذ إنشائها مَعِيناً لا ينضب من المعلومات في خدمة المُحلِّل والباحث الاجتماعي والمتخصص في علم النفس، إلخ. صار بإمكاننا أن نُتابع المواطنين يُعبّرون عن آرائهم في مختلف الشؤون، أو يشتكون أو يُندّدون أو يُهدّدون… كما صار الواقع يُطرحُ على عِلاّته، ويُدعى الجامعيون ورجال السياسة إلى البلاطوهات، ونحن نُتابع دون أنْ يغيب عن أذهاننا أنّ بعض المُتدخلين صادق ومُخلص، وبعضهم الآخر مُتكلِّف، وآخر مُبالِغ، وآخر ممّن يهوى السباحة في المياه العكرة.

وتُفاجئنا أحياناً تدخّلات بعض الشباب الذين لم يُدرِكوا عهد الحزب الواحد، لكنهم يُفكّرون تماماً مثلما كان يُفكّر صُناعُهُ والمُروِّجون له. ويُفسح مجال التعبير في تونس ومصر للشارع كذلك من أجل الاستماع إلى رجالٍ ونساءٍ مِنْ مُختلف الأعمار، وهُمْ يُعبّرون عن آرائهم بشكلٍ جيّد ويبدو عليهم حبّهم الشديد لوطنهم، لكن يبدو أنّ تلك القنوات التي تعمل بهذا الأسلوب تسعى إلى تحقيق غايةٍ ما بإعطاء الكلمة لكل من هبّ ودبّ ممّن يجهل كلّ شيء عن الحياة الوطنية والسياسة، وممّن لديهم استعداد لإشعال النار في البلاد، وممّن يعتزّون بأنهم غير معنيين بما يحدث. و يقولون لنا هذا هو “الشعب” الحقيقي. لا يا سيداتي الصحافيات ويا سادتي الصحافيين ومن سار على دربكم من الديماغوجيين، ليس هذا هو الشعب، بل إنكم تعرضون علينا صوراً للجهل في صورته القُصوى، وهي المادة التي يُفترض أن تهتمّ بها الأحزاب والجمعيات لكي يُعيدوا هذه النماذج المتطرّفة إلى الحياة الجماعية، وإلى التمتع بحقوقها في المدينة.

وإلى جانب هذه التّحفّظات يمكن لي أن أعبّر عن سعادتي لرؤية بعض المؤشرات الدالة على أن هناك بعض الأشياء والأفكار بدأت تتحرّك في المجتمع والناس بدؤوا يُحسون بضرورة فرض حضورهم. إننا نحسّ بأن هناك إرادة لتغيير الأشياء وللمُضيّ إلى الأمام وأخذ العبرة من ماضينا القريب ومن تجارب الشعوب الأخرى، وتجارب جيراننا على الخصوص. وهذا ما يسمح لنا باعتبار أنّ العلاج الذي لم يأت من فوق والذي انتظرناه منذ عشرات السنين، آتٍ من القاعدة ومن المجتمع نفسه. فالعهدة الرابعة يبدو أنّها أحدثت زلزالاً لم يسبق له مثيل في الضمائر. أمّا تزوير الانتخاب فأقصى ما كان بإمكانه أنْ يُحقّقه هو إخفاء حقيقة أنّ عدد الذين قبلوا بالعهدة الرابعة لا يتعدى الثمانية ملايين. أمّا من الناحية المعنوية فيمكن تشبيه العهدة الرابعة بحاجزالسّدّ الذي انهدّ وأطلق العنان لسيل غامر من الأحاسيس والعواطف وردود الأفعال والمبادرات غير المسبوقة التي ستُؤتي ثمارها في النهاية، كتلك المبادرة التي قامت بها نقابات حُرّة وجمعيات مُحاولة منها لإنشاء “اتحاد” لمنظمات المجتمع المدنيّ. وهذه الفكرة جيدة جداًّ.

و”عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”، فلنشرع في العمل على تحويل هذه العهدة الرابعة إلى مُصيبة خصبة تتولّد عنها أشياء إيجابية، وتحويل هذا العار إلى فرصة للتوبة والخلاص، وهذا الامتحان إلى موعد للقيام بانطلاقة جديدة قد تكون بداية لالتحاقنا بركب الأمم الآخذة بأسباب التطور في المعرفة والعلم والقوة والرّخاء. لِنمْسح من رؤوسنا هذا الكليشي الذي نُسمّيه “شعب المُعجزات” ولنصنع من أفراد هذا الشعب رجالاً عاديين، عاملين، مُبدعين ونزهاء مُتسامحين. لنُحرّر هذا الشعب “العظيم” من الخرافة والوهم ومن حكايات الدّوّار كي يتحوّل إلى مجموعة مُواطنين مُتواضعين، واقعيين ومُوفّقين، ونجعلهم ممّن يحترمون الحياة بأفكارهم وأعمالهم، ويحترمون حرية التعبير وحرية الرأي والعقيدة، كما يحترمون الطبيعة والقوانين والسّننات الاجتماعية، وقوانين المرور… ولنبتعد عن اقحام الله في كل تفاصيلنا بدون داع، و نترك شهداءنا يرتاحون بسلام، ولنُمكّن جيشنا من التفرّغ لمهامّه كي لا تمتد إلينا يد الأجنبي.

وأغلب الظّنّ أنّنا إنْ لم نعمل بوصية عالم البيولوجيا البريطاني، الواردة في مطلع هذا المقال، وإن استمررنا في العمل الفوضوي مثلما فعل رجال السياسة إلى حدّ الآن، فلن يكون لدينا أبداً لا كيان مدنيّ، و لامجتمع، و لا اقتصاد ولا “مستقبل زاهر”، بل ولن يكون لنا بلد على الإطلاق، لأنه قد ينقسم على نفسه إلى عدّة بلدان. وإذا ما نَفَدَ مخزونُنا من المحروقات فسيكون ذلك عاملاً يزيد من سرعة عودتنا إلى الجبال والصحارى وإلى الحياة الريفية والبدوية التي وصفها ابن خلدون في تاريخه “حول البربر”، أو التي وصفها علي الحمامي، ذلك العقل النيّر، في روايته التاريخية التي عنوانُها “إدريس”.

 

(لوسوار دالجيري ، 24 أفريل 2014).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى