بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة:فاز رجلٌ و خسرت أمّة

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

” إنّ كلّ الأمم قد مرّت على مراحل كان فيها أراذلُها يطمحون إلى قيادتها. لكنّها، وبردّ فعلٍ غريزيّ قويّ، ركّزت كلّ مجهوداتها لتستبعد هذا الطموح غير المشروع. وبذلك تكون قد كفلت لنفسها سَنناً أخلاقياًّ جمْعياًّ وخرجتْ من ظلمات المغامرة. لكن هناك أمماً كان شأنها عكس ذلك، فبدلاً مِنْ رفض الاستسلام لِحُكم مَنْ تمقتُهُ في قرارة نفسها، راحت تُزوّر كل شيء في ذاتها وقبِلَتْ بهذا التّدليس الذي وقع منذ البدء”.

خوسي أورتيجا اي جاسيت (José Ortega y Gasset)، ثورة الجماهير (La révolte des masses).

طرحْتُ على الوزير الأول الإسباني خوزي ماريا أزنار (José Maria Aznar)  سؤالاً حول الفيلسوف الإسباني صاحب الفقرة السابقة، وكان ذلك على مائدة عشاء في فلنسيا جمعته بالرئيس بوتفليقة والوفد المرافق له، إذ كنت ضمن ذلك الوفد. وقد أجابني الوزير الأول مُفرّكاً عينيه بتعجُّب وهو يقول: ” إنه سيّدنا في التفكير !”. حدث ذلك في أفريل 2002 على ما أذكر. ولم يكن أعضاء الوفد أقلّ اندهاشاً لهذه المُحاورة المُقتضبة بيني وبين أزنار.

ذلك أنّنا، نحن الجزائريين، لم يكن فينا “مرجع فكرّي” في أيّ وقت من الأوقات لأنّنا نخاف حتى من فكرة ظهوره. وإذا حدث أن ظهر مُفكّر كبير مثل مالك بن نبيّ، فإنّنا، وفي مقدّمتنا نُخبُنا المزعومة، نُعْمِل كلّ وسيلة من أجل دفنه تحت وابلٍ من التُّهمِ والأفكار المُسبقة. فذهنيتنا كانت منذ أقدم العصور ذهنية تُبجِّلُ الشيوخ العميان، بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازيّ، وتُحبّ “الزّعماء” الجهلة و”رجال الثورة التاريخيين”، والمستبدّين أنصاف الأمّيين، وكذا القُبّعة العسكريّة.

نشرتُ في أفريل 1993، في جريدة ليبرتي (Liberté) مقالاً تحت عنوان: ” تَوَغُّد الشعب الجزائريّ (« L’encanaillement du peuple algérien ») استشْهدْتُ فيه بعبارةٍ لهذا الكاتب الإسباني من أجل تصوير حالتنا. كان مُعاصراً لمالك بن نبي، وكان يُمثّل في إسبانيا ما يُمثله بن نبي في العالم الإسلاميّ، وما كان يُسمّيه الكاتب الإسباني بـ “التوغّد” كان بن نبي يُسمّيه “القابليّة للاستعمار”. وكُنْتُ قد انتبهتُ إلى هذا التوازي بينهما منذ السبعينيات، وأشرتُ إلى ذلك في كتاباتي. لم يكن بوتفليقة على رأس السلطة سنة 1993، بل كان فرداً بسيطاً في وسط الجماهير، بيد أنه، حسب ما جاء في قول جامبيتا Gambetta بخصوص الألزاس واللورين اللتين احتلتهما ألمانيا سنة 1870: “كان يُفكّر في ذلك باستمرار، ولا يذكر ذلك أبداً”.

ويقول أورتيجا في كتابه حول “التوغّد”: ” التوغّد ليس إلاّ القبول بأمر مُعوجّ أو شيء يظهر غير عادي باستمرار، واعتباره حالة طبيعية، والاستمرار في هذا الموقف. والحال أنه ما دام مِنْ غير المُمكن تحويل الأمر ذي الطبيعة الإجرامية وغير العادية إلى أمْرٍ عادي ولا غبار عليه، ما دام الحال كذلك فإنّ الفرد يقرّر أن يتكيّف بنفسه مع الخطيئة، ويتحوّل بالتالي إلى طرف في الجريمة والاعوجاج الذي ينجرّ عنها”.

إنّ مضمون هذا التعريف ينطبق علينا تمام الانطباق، وهو يُبيّنُ أنّ أولئك الذين يعتقدون أنّ بمقدورهم تفسير الأوضاع الاجتماعية والسّياسيّة دون إسقاطها على منحنى الحياة التّاريخية لأمّةٍ ما، وعلى مكنونها الذهني وذهنيتها الثقافية (أو “اللاوعي الجماعي” حسب تعبير يونغ  Jung)، لا يمكن أن تكون نظرتهم صحيحة ولا يمكن أن يصلوا إلاّ إلى نتائج خاطئة.

إنّ مُجرّد كون الرئيس يستحوذ على 100% من الصلاحيات التي يُخوِّلُها له الدستور وهو لا يتمتّع إلاّ بنسبة ضئيلة من قدراته الجسمية والفكرية، مُجرّد هذا الوضع يُعتبر مأزقاً قانونياًّ، وخطراُ مُحدقاً بالدولة، وعبثاً ذهنياًّ، واستحالة منطقية، وحالة تشبه حالة “المعزة التي تطير”. وهي حالة لا يمكن مشاهدتها إلاّ في الجزائر. هذا هو الرّجُل الذي قُدِّمَ يوم الخميس الماضي ليراه العالم بأسره، بعد الإعلان عن ” تحسّنٍ كبيرٍ في حالته الصِّحِّيّة” وهو يؤدّي واجبه الانتخابيّ، وكان عاجزاً حتى عن إدخال ورقة انتخاب تزن غراماً واحداً في غلافها. وسواء أكان نجاحُهُ في الانتخاب نتيجة التزوير أو بشفافية فالنتيجة واحدة: فالديمقراطية لم تكن منتصرة، بل إنّ “توغّد” جزء من شعبنا و “نُخبِه” المدنية والعسكريّة هي التي يستعصي تقديرها.

لم يكن بالإمكان أنْ يفوز الرجل و تخسر الأمة إلاّ إذا كانا مُتّفقيْن بواسطة نوع من توارد الخواطر على التّخلّي عن ” الحس المشترك” واتّباع العبث و “البزنسة”. إنّنا نعرف مسيرة هذا الرّجل: فهو من أولئك الذين تحكّموا في مصائرنا بين سنة 1962 و 1979 بفضل الدور الذي لعبه في إزاحة الحكومة المؤقتة من الطريق وكذا الانقلاب الذي جرى على بن بلّة، ثُمّ كان دوره البارز في المشهد السّياسيّ أيام بومدين. وبومدين هو الذي أتى به ثُمّ أورثنا إياه، وذلك كان من أكبر ألغاز فترة حكمه. ولم يُكتَبْ لنا أن نُفْلِتَ من تعطشه اللاّمحدود للسلطة سنة 1979 إلاّ بضربة حظ وبفضل يقظة (أو حسابات) المرحوم قاصدي مرباح الذي وقف ضدّه آنذاك. ثُمّ جاء آخرون ليُنصِّبوه على رأس السلطة سنة 1999، وهو الآن لا ينوي مُغادرتها إلاّ ميِّتاً.

هذا إذاً نصفُ قرن من الزمان قد مرّ من عمر حياتنا الوطنية، وهي الفترة الوحيدة التي عاشت فيها الجزائر كدولة ـ أُمّة طيلة تاريخها الممتد على مدى ثلاث أَلفيات. مرّ نصف قرنٍ كانت البلاد خلالَه في الغالب تحت إمْرةِ رجُلٍ واحد يحدوه سحرُ عقلية الدّوّار التي كانت في الماضي ركيزة النظام الاستعماريّ، وفي عهد الحزب الواحد كانت هي ركيزة الاستبداد، وكادت تكون ركيزة لقيام “الدولة الإسلامية” بين 1989 و1992. أمّا اليوم فعقلية الدّوّار أصبحت ركيزة العهدة الرابعة لرجلٍ وقع أسيراً بين يدي محيطه العائليّ والمماليك الذين يخدمونه والذين سيُفسح لهم المجال للتآمر من أجل الفوز بخلافته. والمماليك هم أولئك العبيد الذين كانوا خدماً للخليفة في مصر ثُمّ اعتلوا عرش السلطة في القرن 13م، ولم يتخلوا عن الحكم إلاّ بالقوّة في القرن 16م.

إنّ الأمّة الخاسرة ليست هؤلاء الذين صوّتوا وزُوِّرَتْ أصواتُهُمْ، وليست أولئك الذين أعرضوا عن التصويت أو قاطعوا الانتخابات لكنّهم وجدوا أنهم”انتخبوا” زوراً، وهي لا تتمثّل في هؤلاء الجزائريين الأحياء وحدهم، بل هي فكرة الأُمّة في ذاتها، إنّها الأُمّة الجزائرية في عهد الثورة وفي الحاضر وفي المستقبل. إنّ مُجرّد ترشُّحِه للانتخابات في حالته  الصِّحِّيّة المتردّية، وفي هذه السّنّ المُتقدّمة، وبعد ثلاث عُهدات قضاها في الرّئاسة، كلُّ هذا يُعَدّ أمراً منكرا، لأنّ الدّستور الذي وجده عندما اعتلى سدّة الحكم لم يكن يسمح له إلاّ بعهدتيْن. إنّ الأمة القوية لا تقبل بحدوث هذا العدد الهائل من الأمور الشاذة في آنٍ واحد. أمّا أُمّتنا فقد قبلت بذلك في أجواء البهجة والحُبُور.

إنّ مِنْ بين الـ 1825 يوماً التي تُمثّل مُدّة العُهدة الانتخابية  لا يوجَدُ إلاّ يومٌ واحدٌ يحتاجُ فيه بوتفليقة إلى الشعب، وهو يوم الاقتراع، مِنْ أجل الإيهام بأنّ الأمور تسير بشكلٍ طبيعيٍّ، وهو، أي بوتفليقة، يعرف تماماً أنّ الحقيقة غير ذلك. أمّا خلال الـ 1824 يوماً الباقية فهو ليس بحاجة إلى الشعب، إذ سينأى عنه بوجهه ويتفرّغ لشؤونه الخاصة. فهل ستُحسّ أُمّتُنا بالصّدمة تُجاه نتائج الانتخابات وبما سيتمخض عن استسلامها ورضاها من نتائج إنْ عاجلاً أمْ آجلاً ؟ وهل هناك أمل في حدوث تغيير جذريّ في أسلوب تفكير “نُخَبِها” وفي خطاب أحزابها ؟

إنّ تلك النّخب وتلك الأحزاب لم تكن إلى حدّ الآن إلاّ وجهاً واحداً وصفحة واحدة في سجلّ الانحلال الشامل. ذلك أنّ تحت هذه الملابس والأزياء التي توحي بالحداثة تقبع بقايا نفسيةٍ أَكَلَ الدهرُ عليها وشرب، نفسية تُسيطر عليها الأحكام التقريبية، ولا يُهمّها إلاّ ما يتماشى مع مصالحها الشخصية أو الحزبيّة. إنهم يتلاعبون بالمفاهيم التي لا أثر لها على الذهنيات، ولا علاقة لها مع المرحلة الراهنة التي يمرّ بها تطور مجتمعنا. فبعد ظهور التعددية الحزبية بربع قرن لم يظهر أيّ بديلٍ عن النظام القائم باستثناء تلك المحاولة الشعبوية التي قامت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية بين 1989 و 1991، وهي المحاولة التي ينبغي ألاّ نعتبرها ظاهرة سياسية، لأنها ظاهرة ثقافية على غرار ما جرى في بعض بلدان العالم العربي الإسلاميّ التي جرتْ فيها انتخابات.

إنّ المُعارضة بالمعنى السياسي والحديث والعقلانيّ لا وجود لها لحدّ الآن، وعلينا إيجادُها. ومن الخطإ اعتبار أخطاء السلطة دليلاً على أنّ المُعارضة في الطريق الصحيح. وإذا كانت هذه المُعارضة على حق في انتقادها للنظام القائم فإنها لم تفعل شيئا ملموساً فيما يتعلّق بالإعداد لاستبداله. والثابت أنّ مستقبل بلادنا يمرّ على تغيير النظام، لكن ذلك لن يتحقق دون تغيير الأفكار الخاصة بقواعد وتنظيم وأهداف المعارضة. فلقد سبق أنْ جرّبنا الانتفاضة الجماهيرية في أكتوبر 1988، وكذا مسيرات الفيس التهديدية، والإرهاب بمختلف تشكيلاته (AIS, GIA, AQMI )، وجرّبنا مسيرات “العروش”، وانتفاضة جانفي 2011، ومُقاطعة الانتخابات، والانسحاب من الانتخابات، وكذا محاولة التغيير “مِن الداخل” التي آمن بها كل من حزب القوى الاشتراكية وعضوان من جبهة الإنقاذ المُحلّة، وحزب حماس، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية  RCD، والنهضة، والـ ANR، وأنا شخصيا (كشخص وليس باسم الـ PRA الذي كُنْتُ قد غادرتُه)، عندما انضممنا إلى الحكومة.

يبقى علينا إذاً تجريب شيءٍ آخر هو إعادة النظر الجذرية في حياتنا السياسية بإحداث قطيعة مع كلّ التجارب السابقة والتشبّث بالتجربة الجديدة. ما يجب أن نُفكّر في إيجاده هو حياة سياسية بعيدة عن عبادة الأشخاص وعن الحبّ الجنوني للتّسلّط، حياة سياسية تجعل من أهدافها محاربة عقليّة الدوار، إشراك الشعب في النضال، وإلزام المجتمع بإنتاج الأفكار التمدينية والسلوكات الحضاريّة. بهذا، وبهذا فقط سيكون بإمكان الأمّة أنْ تحلم بالتغلّب على أيّ مملوك تُسوِّلُ له نفسه فرض عيوبه وأسرته وخدَمِه علينا.

إنّنا لن نعرف ربيعاً ديمقراطياًّ لأنه بعيد المنال علينا في الوقت الراهن، ولأننا لم نصل إلى درجة استحقاق ذلك بعدُ. وبدلاً من الربيع سيأتي علينا شتاء بارد ليقضي على كثير من أهلنا، سيأتي في يوم ليس من السّهل تحديد موعده في ظلّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية، لكنّه آتٍ لا محالة. إنّ هذا اليوم لن يُصادف اليوم الذي نعقد فيه العزم على تغيير النِّظام السِّياسي والدخول في نظام أحسن من النظام الحالي، لكنه سيُصادف اليوم الذي تصير فيه مداخيل المحروقات غير كافية لتغطية احتياجات الخدمات العموميّة وتحمّل عبء المواد التي نستوردها، وتصير بالتالي عاجزة عن شراء السِّلْم الاجتماعيّ. هذا اليوم آتٍ لا محالة لأنّ 98% من استهلاكنا للمواد والخدمات الخارجية يتمّ تمويلها من مداخيل المحروقات. وبوتفليقة يعرف ذلك أكثر من أيّ شخص آخر، لكنه لا يُبدي أي اهتمام للأمر، فهو لا يهتمّ إلاّ بـ “الاستقرار” ما دام في سدّة الحكم. وبعده، فليأتِ الطّوفان.

لقد تقدّمتْ عدة وجوه سياسيّة خلال الأشهر الأخيرة بمبادرات، لكن دون شرح التدابير التطبيقيّة، وأصحاب هذه المبادرات يتوهّمون أنّه بمجرّد ظهورها في وسائل الإعلام سيتسابق الجزائريون جماعياًّ ليفوز كل واحدٍ منهم بمكان تحت راية هذا الحزب أو ذاك. فعليّ بن فليس الذي وجّهَ هو كذلك نداءً للالتفاف حول مشروعه المتعلّق بـ “التجديد الوطنيّ” قد يؤول أمرُهُ إلى نفس الخطإ وتتكلّل مبادرته بنفس الفشل. إذا كان نداؤه مُوَجّهاً إلى ناخبيه فقد أحسن فعلاً. أمّا إذا وجّهه إلى الساحة السياسية، فهو على خطإٍ، لكن بإمكانه أن يتدارك خطأهُ. فأولئك الذين لم يلتفّوا حوله في عزّ حملته لن يعودوا إليه بعد أن خسر اللعبة، ولو بالتزوير.

إنّ “الديمقراطيين” و “الإسلاميين” الذين دعوا إلى مُقاطعة الانتخاب كانوا يظنون، كلٌّ حسب نواياه السيئة أو الحسنة، أنهم سيُفشلون العهدة الرابعة. وكُلّ ما جنوْه هو أنهم تبرّؤوا منها. فبعضهم وقع في شباك “العصبية”، وبعضهم الآخر سقط في هوة الزّهْوِ بالإشهار الإعلامي المُدغدغ للوجدان والخالي من أية فائدة انتخابية، فاتّفقوا ضمنياًّ على أنّ العهدة الرابعة لبوتفليقة أفضل من فوز طرفٍ آخر يعرفون جيّداً أنّهم عاجزون عن الاتفاق حوله لأنّ كُلاّ منهم يُريدُها لنفسه. وهكذا تحطّمت كلّ محاولات العمل الجماعيّ عند “المُعارضة” على جدار الأنانية المُفرطة منذ 1989. وبما أنّني كُنتُ طرفاً في الحياة السّياسيّة الحزبيّة، فقد يسألني سائلٌّ عمّا فعلتُهُ أنا كي تتّخذ الأمورُ مجرى آخر. وهذه بعض الجوانب من الإجابة عن هذا السُّؤال:

1 ـ عبّرْتُ عن هذا التّخوّف في الخطاب الافتتاحي الذي ألقيته في المؤتمر التأسيسيّ لحزب التّجديد الجزائريّ، في ماي 1990 ، والذي دُعيتْ لحضوره كلّ الأحزاب السّياسيّة المتواجدة آنذاك، وقلت في بداية حديثي: ” إنّ وطننا في خطر. وأوّل خطر يهدّدها هو أنّ هذا النظام المُتعنّت والمُصِرّ على خلق أسباب الإستياء الشعبي بمجرّد تشبّثه بالسلطة التي لا يعترف له بها الشعب بمختلف الطرق، هذا النّظام مُهدّد بفقدان الأهليّة… وهنا أتوجّه إليكم أيّها الضيوف الكِرام الذين نعتبرهم إخوةً لنا ولا نرى فيهم خصوماً منافسين لأقول إنّ أُمّتنا مُهدّدة كذلك بخلافاتنا وجهودنا المُتنافرة وتخوّف بعضنا من البعض الآخر، ومن بُعْدنا عن المنهج العقلانيّ… وها نحن أولاء نُثْبِتُ من جهتنا تجذّر روح الفُرقة بين صفوفنا ونحن نلوم شعبنا على ذلك. وها نحن أولاء نُثْبِتُ للعالم الذي يرقبنا أنّنا عاجزون عن الارتقاء إلى رؤية موحّدةٍ إلى مصالحنا العليا في مُنعرجٍ خطير على مستقبل أمّتنا. ونحن نعرف جميعاً أنّ هذا بالذات هو سبب ضياع الأجيال التي سبقتْنا على هذه الأرض، وهو سبب وقوعها لُقْمَةً سائغة في فم الاستعمار وضحية سهلة للتأخر. إنّنا نشعر جميعاً شعوراً غامضاً بأنّ كلّ هذا سيؤدّي بنا حتماً إلى الحرب الأهلية…

وإذا كان من غير الممكن تقديم مشروع موحد للمجتمع إلى الشعب ـ وقد نتمكّن من ذلك يوماً ـ يبقى باستطاعتنا أن نقدّم له في الحين أملاً في الإجماع على حلول يُصدرها (مجلس للمُصالحة الوطنية) يمكن لنا أن نُشكّله بغرض استشارته حول قضايا الأمّة، وهذا في انتظار حلّ المجلس الشعبيّ الوطنيّ. ويمكن اعتبار ضرورة تغيير النظام القائم أوّل نقطة اتّفاق بيننا. وليكن التغيير في جوّ السلم الاجتماعيّ واستقرار المؤسسات هو النقطة الثانية التي يجب الإتفاق حولها. وإذا ما حصل لنا الاتفاق على خطاب موحّد للخلاص العام، وتمّ تسطير برنامج اقتصادي متكيّف مع المشاكل العاجلة، فإنّ في ذلك برهاناً ساطعاً على أنّ المُعارضة قادرة على ضمان الانتقال السلمي إلى التغيير الذي سترسمه الانتخابات التشريعية المُقبلة بطريقة ديمقراطية… 

إنّ الحلول التي يمكن أن نُقدّمها يجب ألاّ تكون بأيّ حالٍ ناجمة عن إبراز اختلافاتنا، بل تكون مُبرزةً لقدرتنا على إيلاء الأولوية لنقاط التقاطع بيننا بصفتنا جزائريين من مشارب سياسية مختلفة، ومُكوّنين في مدارس فكريّة مختلفة، لكنّهم مع ذلك يصْبون جميعاً إلى الوصول بالأمة إلى مخرج سلميّ من أزمتها الحالية… إنّ الأجيال التي سبقتنا فقدت التحكم في مصيرها، وخسرتْ بذلك سيادتها الفكرية والاقتصادية والسياسية لأنها كانت عاجزة عن إنشاء مجتمع جزائريّ مستقلّ بأفكاره، مُحقِّق لوجوده بوسائله الذاتية، ويلج عتبة باب التاريخ انطلاقاً من مفاهيمه الخاصة. ومن نتائج غياب الكفاءة إلى هذا الحدّ ما تعرّضت له بلادنا من استعمار، والتّأخّر الاقتصادي الذي ترونه، والانهيار الذهني الذي تعرفونه. وما نحن إلاّ نتيجة لكل هذا التّردّي، أفيُعقل أن نكون سبباً للاستمرار في ذلك بتعنُّت؟” . وهذا هو الخطاب الذي استعملْتُ فيه لأوّل مرّةٍ عبارة ” بناء جزائر جديدة ” والتي سيُرددها جميع الناس تقريباً فيما بعد”.

2 ـ كانت المحاولة الوحيدة لتوحيد قوى المعارضة تلك التجربة التي سُمِّيَتْ “7+1″ في أفريل 1991 والتي جاءت من أجل الوقوف في وجه قانون الانتخابات الذي حبكه حمروش لصالح جبهة التحرير. وكان مكتبي هو المكان الذي اجتمعتُ فيه بصفتي رئيس حزب التجديد (PRA) مع كل من حزب المرحوم بن بلّة (MDA)، وحزب المرحوم نحناح (HAMAS)، والمرحوم قاصدي مرباح (MAJD)، وحزب جاب الله (NAHDA)، وحزب سعيد سعدي (RCD)، وحزب رابح بن شريف (PNSD)، وحزب حميدي خوجة (PSD)، و كان حزب المرحوم سليمان عميرات (MDRA) سيلتحق بالمجموعة. أمّا حزب لويزة حنون فلم ينضم إلينا لأنها لم تتجاوز عتبة باب مكتبي لأسباب بروتوكولية وهي إصرار لويزة حنون على حضور شخص آخر معها رغم أن الاجتماعات خاصة برؤساء الأحزاب وحدهم، وقد رُفِض لها هذا الطّلب من طرف الجميع.

تمّ إجهاض هذه التّجربة بسبب الفكرة التي عبّر عنها بن بلّة، ووافقه عليها سعيد سعدي، لكنّي عارضتُها، وهي تنظيم إضرابٍ وطنيٍّ. وجاءت الجبهة الإسلامية للإنقاذ لتتلقّف الفكرة وتُنفّذها بعد ذلك ببضعة أسابيع لينجرّ عن ذلك سقوط حكومة حمروش، وإقرار حالة الحصار، وسقطت ضحايا، وأصيبت أعداد هائلة، وأُجِّلت الانتخابات التشريعيّة المقررة في جوان إلى ديسمبر، وما نتج عن ذلك من نتائج يعرفها الجميع.

3 ـ اقترحْتُ على سعيد سعدي وعلى المرحوم نحناح سنة 1995 أن ننسحب من الانتخابات الرِّئاسيّة عندما ترشّح اليمين زروال، لكنّهما رفضا ذلك.

4 ـ اقترحتُ سنة 1999 على سعيد سعدي ورضا مالك بعد جولة طويلة من الاجتماعات، أن نُشكّل ” القطب الديمقراطي” نواجه بها ترشُّح بوتفليقة، على أن تدخل هذه الكتلة إلى الانتخابات ببرنامج موحّد وبمترشّحٍ واحد باتّباع الإجراءات والتدابير الآتية: صياغة برنامج موحّد، وعرضه على مؤتمر يضمّ الأحزاب الثلاثة يُشارك فيه ألف مندوب عن كلّ حزب، والمُصادقة على البرنامج التوافقي، وأخيرا يكون انتخاب المترشح من طرف كل المؤتمرين بطريقة سرّية، وهذا بحضور مُحضرين قضائيين وكذا وسائل الإعلام. وقد فشلتِ الفكرة لأنّ أحد هذين الزّعيميْن كان قد التزم مع بوتفليقة سرّياً.

إنّني بصفةٍ شخصيّة لا أُغالط نفسي ولا أطمح إلى إحداث ثورة أخلاقية، لأنّ عقلية الدّوار لن تستمع إليّ ولن تفهم منّي شيئاً. لكن عزائي في عشرات الآلاف من الجزائريين الذين يقرؤون مقالاتي في الصحف أو في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي تلك المئات ممّن يُراسلني ليُشجعني أو ينقدني. إنني لا أكتب إلاّ لهؤلاء لأنهم هم الذين يعطونني دفعاً وطول نفس. وأهمّ شيء عندي هو أنّ الأفكار التي أدافع عنها تلقى بعض الاهتمام لدى الأجيال الصّاعدة: فتلك الأفكار ليست ملكي الخاص، إنها عامّة، بل إنّ فيها “الحس المشترك”.

ما أريده كذلك هو أن أشهد على ما عشتُه كي يُسجّل الأجانب ـ وعلى الأقل من خلال تمثيلياتهم الديبلوماسية ـ أننا، ورغم ما يرونه من مظاهر التّردّي، لسنا أمّة ميتة مدنياًّ وسياسياًّ، وأنّ أقصى ما تستطيع أن ترقى إليه في التعبير عن رأيها هو التظاهر عند الجوع والرقصات الديوانية والعنف.

(لوسوار دالجيري 20 أفريل 2014)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى