بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة:هل سنكون مُجَـرّد جُبَنَـاء؟

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان

لو أنّ قايد صالح لمْ يَكُنْ إلاّ حدّاداً يشتغل بتوظيب حوافر البغال في دوّاره لَمَا اهتمّ أحدٌ برسالة المُبايعة والولاء التي أرسل بها إلى عمّار سعداني والذي هو آخر “بني آدم” جزائريّ يستحق موقع قيادة جبهة التحرير مهما تعرّضت له هذه الأخيرة من تدنيس وتعفير على مدى عشريات من العبودية، ذلك أنّ هذا الرمز سقط تحت رايته مليون ونصف من الشهداء.

 

لكن الذي يجب أن يوضع في الحسبان أنّ قايد صالح برتبة فريق، وهو قائد أركان الجيش الوطني الشعبي، وهو نائب وزير الدّفاع الوطنيّ. وبذلك كلّه فلا يحقّ له أن يوجّه هذه الرسالة للأمين العام المفروض قسراً، سواء أتعلّق الأمر بجبهة التحرير أمْ بأيّ حزبٍ آخر. وبما أنّ القانون ليس في صالحه في هذه المسألة، فلمْ يبق لنا مِنْ تفسير لهذه الفعلة التي لم تحدث منذ 1989، وهي السنة التي انسحب فيها الجيش رسمياًّ من الحياة الحزبية، إلاّ كون قايد صالح مستهترا بالقوانين.

 

وإلى منْ نشتكي من هذا الاغتيال المقترف في حق الأخلاق العامّة والقانون والديمقراطية ومصلحة البلاد؟ أنشكو أمرنا إلى الله؟ في هذه الحالة لا بدّ من انتظار قيام الساعة حتى نعرف حكمَه. أنُقدّمُ شكوانا إلى الجيش؟ ألا نعرف أنّ قايد صالح هو نفسه الجيش؟ ثُمّ إنه جيش منضبط جداًّ، حسب ما يؤكده قائده. بقي أن نشكو أمرنا إلى القاضي الأول في البلاد، لكنْ… أنسينا أنه، ومنذ خرقه للدستور سنة 2008، الصانع الأوّل لكلّ المؤامرات التي حيكت ضدّ الأخلاق العامة، ضدّ القانون، ضدّ الديمقراطية وضدّ مصلحة البلاد، هذا دون أنْ نذكر أن الجنرال قايد صالح هو نائبه المُكلّف بالقمع.

 

إذا كنّا لا ننتظر شيئا من الله في القريب العاجل، ولو بقي الجيش بلا حراك أمام الخروقات المرتكبة في حق الأخلاق العامة والقانون والديمقراطية وفي حق مصلحة البلاد، وما دام القاضي الأول لا يُمثّل ملاذا، بل هو مصدر كلّ المشاكل، يبقى حلٌّ أخير، وهو الشعب الذي هو، وبمقتضى منصوص الدستور المعمول به، صاحب السيادة الوطنية وصاحب حق التأسيس. فالمادة 6 تنصّ على أنّ : ” الشعب هو مصدر كل سلطة. السيادة الوطنية ملك حصريّ للشعب”. أمّا المادة 7 فتنصّ على أنّ: ” السلطة التأسيسية هي ملك للشعب. الشعب يمارس سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها…”.

 

الشعب هو مجموع الجزائريين ذكوراً وإناثاً، من كلّ الأعمار، باختلاف آرائهم وانتماءاتهم المهنية، بما في ذلك العسكريون وأعضاء مصالح الأمن. وعندما تظهر علامات التّردّي على أولئك الذين خُوِّلتْ لهم أهمّ المسؤوليات الدستورية في بلدٍ ما، وإذا تمّ القضاء على نفوذهم أو توريطهم في الفساد، يصبح من حق الشعب صاحب السيادة والشرعية التأسيسية أنْ يعزلهم ويأتي بغيرهم. لكنْ، إذا ثبتَ أنّ هذا الملاذ الأخير لا أمل في تحرّكه، وإذا ثبت أنّنا لم نَعُدْ إلاّ جُبناء فلنفعل ما فعله الأمير أبي عبد الله عندما سقطت غرناطة، آخر معقل للمسلمين في الأندلس سنة 1492م: ” البكاء مثل النساء على ما لم يُدافع عنه كالرّجال”. وكان هذا التّقريع صادراً من امرأة، وهي أمّه.

وبعد ذلك سيستحيل علينا أنْ نجد ما نتأسّى به، لكنّ الدّموع التي ستنهمر من أعيُننا انهماراً لن تنفع الأجيال القادمة في شيء، ولنْ تُعيد لهم ذلك المقام من الجنة الذي حوّلْناه إلى رُكام من التفاهات في ظرف نصف قرن من “الاستقلال” على الأكثر، وتحت قيادة قادة جهلةٍ أبالسة. هذا دون ذكر العنجهية و الأثارة القائلة: ” عيش نهار كي السّردوك خير ما تعيش عشر قرون كي الجاجة !”. وقد كنّا على نقيض ذلك تماماً، إذ لم نَقُمْ إلاّ بالعكس في كل حقب تاريخنا: فتاريخنا لم يكن إلاّ ألف سنة من الاستعمار بمختلف أنواعه، وخاتمتُها عشريات من المذلّة تحت حكم ” إخوة لنا”، لم يكونوا إلاّ وبالاً على المصلحة الوطنية وعلى الأخلاق الإنسانية أكثر من أيّ احتلال أجنبي سابق لهم.

 

كتب المورخ الروماني سالوست (Salluste) الذي كان حاكماً لنوميديا في عصر الاحتلال الروماني لبلادنا، وهذا منذ ألفي سنة: ” إنّه يستحيل التحكم في النوميديين لا بالترهيب ولا بالترغيب”. فهل بقي هناك مجال للاعتزاز بهذا الإطراء في أيامنا وقد فعل بنا الجبن (أو الترهيب)، و التدجين (أو الترغيب) ما فعله الطوفان بالسومريين قوم نوح؟

 

لقد عاودتني هذه الأفكار القاتمة والمُحْبِطة في غضون هذا الأسبوع أثناء قراءتي لـ ” مذكرات” محمد السعيد معزوزي التي صدرت مؤخراً في كتاب. ولم أكن أعرف عن هذ الشخص إلاّ الاسم والصورة التي تركها وهو يغادر الساحة السياسية في منتصف الثمانينيات، وهي صورة المسؤول السياسي الكتوم. إنّ ما اكتشفته عن هذه الشخصية أثّر في نفسي بالغ الأثر. فإذا كُنّا اليوم لا نملك فكرة عن صورة الجزائري التي قدّمها سالوست، إذا كُنّا في هذه الأيام القذرة لا نعرف عن الإنسان الجزائري شيئا، فإنني أظنّ أن الإجابة موجودة بين صفحات، ذكريات و روح هذا الوطنيّ المُخلص.

 

وُلِد معزوزي سنة 1926، وسرعان ما صار مناضلاً في حزب الشعب الجزائري في الأربعينيات، اعتقلته الشرطة الاستعمارية سنة 1945 لتورّطه في اغتيال قايد في ناحية دلّس. ولم يُطلَق سراحه إلاّ عند الاستقلال. ويعني هذا أنّ سي محمد لم يُقبِل على الثورة، بل الثورة هي التي أقبلتْ عليه وناشدَتْه وهو في سجنه بين 1945 و 1962. و قد تمّ نقله من سجنٍ إلى آخر مراراً، وأقام حتى في سجون فرنسا.

 

وهو يروي في “مذكراته” حياته في السّجن، ويُدْلي بشهادته انطلاقا من سجنه الذي كان بمثابة مرصدٍ يتتبع منه أحداث الثورة، أو على الأقل روحها، كما يشهد على مكانة هذه الثورة في نفوس الجزائريين الذين ماتوا وعُذِّبوا أو سُجِنوا كي تُشرق شمس الحرية على الجزائر. وهي اليوم لا تزال حُرّة في الظاهر على الأقلّ، ولوقتٍ غير معلوم، لكنّها قد فقدتْ كرامتها وإباءها.

 

كانت الأنباء تصل إليه حول زعماء الثورة، وتعرّف عليهم في السجن، وهو يروي الأحداث التي شاركهم فيها، كما يروي أقوال بعضهم، ويُقدّم لنا شخصيات مشهورة بأسمائها لكنّها لم تَحْظ بالإشهار، ويذكر أشياء لم يذكرها المؤرخون أو كتّاب السِّيَر. وكثيراً ما ينسى القارىء مؤلّف الكتاب وينجرّ وراء أحداث ومشاهد كتلك التي يُقدمها مُخرج الفيلم السينمائي عندما يبثّ صوت بطريرك أو يروي أحداث التاريخ مرفوقاً ببعض المقاطع. وهكذا فإنّ القارىء يحسّ أنّ المتكلّم ليس برجلٍ فرد، بل هو كيان فوق الطبيعة، إنّها الروح الجزائرية.

 

إنّ هذا الكتاب، وخاصة الجزء الأول منه، يطفح بالمواقف الدالة على السّذاجة الطيبة والنوايا المثالية، ومثال ذلك هذا العهد الذي التزم به السيد معزوزي مع شخصٍ آخر، والذي مفاده أنّ: عندما سيصير الجزائريون مُستقلّين فإنّهم لن يُشيِّدوا أيّ سجن ! إنّ هذه الفكرة وحدها كافية للإقرار بأنّ الجزائريين شعبٌ بريء، وهو في آن واحدٍ بعيد عن الواقعية. و بالفعل فإنّ كثيراً منهم كانوا يعتقدون أنّ الجزائر ستصير جنّةً على الأرض بعد استقلالها، وأنّ حُكّامها سيكونون ملائكةً، وبالتالي فماذا يدعوها إلى تشييد السّجون؟ لكن، وللأسف الشديد، فقد انهالت عليها الشياطين والحمير، بعضها من أبنائها، والبعض الآخر من بلدان مجاورة، وجعلوا من الجزائر محتشداً، ثمّ حوّلوها إلى ساحة معجزات، حتى صارت في الأخير ملكية خالصة لمافيا قِوَامُها الجَهَلَةُ وعديمو الحياء.

 

الجزائريون كلّهم يعرفون تلك الأمنية المشهورة منذ زمن بعيد، القائلة: “أه ! لو أنّ الشهداء يعودون !”، وهي من التهليلات التي تتردد غالبا للتعبير عن حالة القرف إزاء الصورة الفظيعة التي آلت إليها حالة البلاد بفعل حُكّام لا أخلاق لهم. إنّ ما فعله السيد معزوزي هو إعادة الشهداء إلى الحياة وجعلهم يُفكّرون ويتكلّمون. والحقيقة أنه هو بنفسه يُجسّد هؤلاء الشهداء بشكلٍ من الأشكال، لأنه يُحيل عليهم بخصوصيتين، وهما: كونه مات قبلهم، وكونه قد عاد إلى الحياة بعد الاستقلال كي يشهد باسمهم.

 

لقد وُفِّقَ محمد السعيد معزوزي فيما أدلى به من شهادة على ما رآه في السجن، وعلى ما لم يره لأنه كان في السجن، وعلى ما رآه بعد خروجه من السّجن. وهو ينقل لنا في أحد فصول كتابه تفاصيل خروجه من سجن الحراش. لقد كان في انتظاره مُجاهدون من جبهة التحرير، جاؤوا لِيُرافقوه إلى بيت يقع في “المدنية” (Clos-Salembier).

 

وهو يقول عن ذلك: “إنني لن أتمكن أبداً من وصف ما رأيته وما عشته في هذا اليوم المشهود في الجزائر العاصمة. إنّ الموقف أعظم من أن تحتويه كلّ الكلمات من كلّ لغات العالم. إنه شيء لا يمكن أنْ نتصوّره اليوم في هذه الجزائر المُفكّكة وفي حالتها المُتردية… إنها الفرحة العامّة والسعادة المشتركة، والأخوّة العفوية والطبيعية لشعبٍ بكامله. لقد انفتحتْ عيون كلّ الجزائريين على شمس الحُرّية لينتهي كابوس العهد الاستعماريّ، وهذا رغم إرهاب جماعات الـ OAS، ورغم الموت الذي لا يزال يحوم فوق رؤوسهم. إنّ تلك السعادة لا يمكن أنْ يتصوّرها أو يفهمها أيّ جزائريّ في أيامنا هذه، في جزائر الخداع والسّرقة”. ص231.

 

إنّ هذا الكتاب لم يأتِ بأيّ جديد فيما يتعلّق بتاريخ الثورة والحركة الوطنية، وقد أشار الكاتب نفسه منذ البداية أنّ ذلك لم يكن مقصده. فلقد أُلِّفَتْ مئات الكتب حول هذا الموضوع، ويبدو لي أنني قد قرأْتُها جميعاً، لكنني وجدت في صفحات كتاب السيد معزوزي ما لمْ أجدْهُ في غيره من الكتب، وأقصد: زاوية النظر الواحدة والنّبرة البسيطة والصادقة والحقيقيّة على لسان وطنيٍّ يُخاطبنا بقوله: ” كلّ ما أدّعي القيام به هو الإدلاء بشهادتي في استحياءٍ حول حياتي، وحول الجزائر إلى حدٍّ ما ” ص 370. فالرّجُلُ نفسه هو الذي لفت انتباهي وانجذبْتُ إليه، بما نقله عن مشاعره إزاء الأشياء، وبطريقته في التفكير، وباستقامته، وهي الصّفات التي طالما تخيّلتُ أنها صفات الإنسان الجزائريّ.

 

كنتُ أؤمن بهذه الأشياء مثل السيد معزوزي، وهو ذات الحكم الذي جاء على لسان المؤرخ الروماني سالوست في الجملة المفعمة بالوطنية المفرطة والتي ذكرناها سالفاً. لكنني سرعان ما طلّقتُ هذه الأوهام والجزائر المستقلّة لم تبلغ من عمرها عشر سنوات، كما تشهد على ذلك الكتابات التي ألّفْتُها في بداية السّبْعينيات. وقد كنتُ سابقا للسيد معزوزي في هذه اليقظة مع أنه من جيل سابق لجيلي، وهو قد بقي يؤمن بأنّ السياسة الجزائرية كانت رشيدة حتى بداية عهد الشاذلي بن جديد.

 

وإنني إذ أُحيّي هنا روح هذا الوطنيّ الكبير، إنّما أريد أنْ أحيي جزائريّ الأمس الذي كان يمثّله أحسن تمثيل، كما أُحيي جزائريّ الغد الذي ساهم السيد معزوزي في إلهامه، لأنني أتمنّى صادقاً أنْ تقرأ الأجيال الجديدة هذه “المذكرات” وتأخذ منها العبرة، وتستفيد من القيم التي جسّدها هذا الرجل وحملها على عاتقه ودافع عنها دون أن يهتمّ بمصلحته الشخصية، كي تبقى في منأى من التأثر بالحثالة التي قادت البلاد في معظم الفترات.

 

لكن، بقي هناك شيء يؤسفني. فليت هذه المذكرات جاءت شاملة لما بعد التسعينيات، وليت الكاتب كلّمنا عمّا رآه وما فكّر فيه، وما شعر به في عهد بوتفليقة. صحيح أنّه وجّه بعض اللّسعات للنظام، لكننا نُحسّ وكأنّه لا يريد حتى رؤية أي شيء أو التعليق على أيّ شيء، أو كأنّه، وبعد أنْ كان شاهداً على ما لم يره، أصبح يريد أن يصير كـ “شاهد ما شافش حاجة ” حسب ما جاء في فيلم مصري شهير. إنّ هذه الجزائر ليست هي تلك التي ضحّى من أجلها، والتي استُشهد من أجلها إخوانه وزملاؤه في المعركة، بل إنه لا يريد أن يذكرها حتى كنقيض لكل ذلك.

 

وماذا يمكن أن نستنبط من هذه “المذكرات”؟ لقد تأثّرْتُ لقراءتها بالغ التّأثر، لكن هذه القراءة كانت سببا في تنشيط تفكيري في حالنا، وهو الموضوع الذي نال اهتمامي دوماً. إنها قراءة تدفع بي إلى الأمام في رحلة بحثي عن التفسير الذي أسعى إليه منذ أربعين سنة دون أن أتمكّن من الإحاطة به بالكامل، ودون أن أتمكن من النظر فيه بتمعّن لأنه يتسلّل من أفق نظري كلّما صادفني طيلة هذه المدة، وذلك كي لا أنظر فيه وأقرأ في ملامح وجهه تلك الحقيقة التي انتبهتُ إليها. كان يكفيني أن أطرح فرضية دأبْتُ دوما على استبعادها. فبدلاً من أن أتساءل: لماذا يقبل الشعب الجزائري بأن يُدجّن بعد أن قام بأعظم ثورة في القرن العشرين؟ كان عليّ أنْ أتساءل: ما الذي دعاه إلى الثورة في وجه الاستعمار رغم جسامة التضحيات؟

 

وبعبارة أخرى، هل يمكن تفسير تحرُّرِنا من الاستعمار اعتماداً على قاعدة عامة أم اعتمادا على الاستثناء: أي كوننا مُسيّرين بأيدي أجانب أو مُغامرين خرجوا مِنْ صُلبِنا؟ هل كان ذاك التّحرر حاجةً مُلِحّةً فرضتْها النّفس الجزائرية أمْ كان نتيجة تطوّرات التاريخ العالمي؟ إنّ مدة 53 سنة من الاستقلال هي أقلّ من نصف العهد الاستعماري الفرنسيّ، وهي سبعة أضعاف مدة الثورة التحريرية، والحاصل هو: 132+53= 185 سنةً من الإذلال و التدجين مُقابل سبع سنوات ونصف من البطولة. فما موقع حقيقتنا: أهو في القاعدة التي يمثلها العدد 185 أمْ في الاستثناء الذي يمثله العدد 7 ؟ أهو في السلوك الذي دأبْنا عليه على مدى ألْفياتٍ من الزمن أمْ في سلوكنا خلال فترات انتفاضاتنا القصيرة؟ إنّ الفارق في هذه المسألة قد يكون من أشدّ الأمور لفتاً للانتباه.

 

ولو أمْعنّا النّظر أكثر لأثيرت تساؤلات أخرى لم يسبق أن طُرحت لاعتقادنا أنّنا نعرف الإجابة عنها منذ أمدٍ بعيد، في حين أنّ التجربة تدلّ على العكس. فلو تساءلنا: هل فجّر الجزائريون ثورتهم ضد الاستعمار دفاعاً عن الإسلام أمْ دفاعاً عن وطنهم ـ لأنّ الحالتين مختلفتين أشدّ الاختلاف؟ نجد أنّهم أطلقوا مصطلح “جهاد” على ثورتهم التحريرية، ومصطلح “المجاهدين” على المقاتلين، واعتبروا موتاهم “شهداء في سبيل الله”. أمّا “الوطن” فلا يُذكرُ إلاّ كإضافة زائدة عن الحاجة. فهل كانت هذه الثورة من أجل الجزائر أمْ في سبيل الله لأنّ هناك فرق؟ وهل كان أولئك الذين ماتوا من أجل البلاد والعَلَم والنشيد الوطنييْن والدولة الوطنية أغلبيّةً أمْ أقلّيّة؟

 

ألمْ تكن الانتفاضات التي وقعت خلال القرن 19 بقيادة الأمير عبد القادر والشيخ المقراني وأحدّاد و بوعمامة تحت نفس الشعار؟ ونظرا لأنّ الماضي يُفسّر الحاضر يمكن أن نفهم السّرّ في تلك الحرب التي نشبت بين الجزائريين بعد الاستقلال بثلاثين سنة، ليس من أجل جزائر أفضل، بل من أجل إقامة دولة إسلاميّة. لقد حان الأوان لإعادة فتح ملفّ التحقيق الذي سارعنا بغلقه، كي نتساءل مُجدّداً حول ماضينا، ونُعايِن موقع الجريمة بحثاً عن مؤشرات أخرى وسعياً وراء إعادة تأويل المؤشرات التي بين أيدينا.

 

لقد تجذّرتْ في تكويننا فكرة أنّ الاستعمار هو أفظع شيء في الوجود، وأنّه يجب أن نسعد بالاستقلال حتى ولو اضطُررْنا لأكل الحشائش مثل البهائم. والواقع أن الهدف من غرس هذه الفكرة فينا هو إعدادنا لقبول الاستبداد، وبثّ وهم الأبطال المُنقذين في أنفسنا كي نرضخ لرغبات ولوبيات الأيدي الخفية من المجاهدين المُزيّفين والمستحوذين والمجرمين، والمتعطّشين للسلطة والثروة، والذين لا يزالون يحكموننا إلى اليوم حتى يستنزفوا أحسن ما تملكه بلادنا.

 

إنّ الاستعمار لم يتمكّن من تدجين الإنسان الجزائري. صحيحٌ أنه قهره واستغلّه واستحوذ عليه، وزجّ به في خانة المنبوذين، لكنّه لم يُعلّمْهُ فعل الشر والأعمال الشّيطانية، ولم يُردّد على مسمعه قصة المعزة الطائرة. وإذا كان الاستعمار قد روّج للشعوذة فإنه ليس هو الذي ابتكرها، بل وجدها في واقعنا. و كلّ ما فعله هو ترسيخ هذه النزعة، والضرب على المسمار كي يزداد دخولاً، والإبقاء على الجزائريين في هذه الحالة كي يصيروا “مسلْمين ومكتْفين”، ومستسلمين لـ “المكتوب” والقدر المحتوم.

 

كانت الجزائر في العهد الاستعماري تحت سلطة قوة استعمارية. وهي اليوم ترزح تحت نير قوة شيطانية تمارس أعمالها بالرشوة والفساد والصعلكة من أجل إفراغ البلاد من قيمها الأخلاقية وطاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعية. إن النزعة الشيطانية قد فعلتْ بالجزائر ما لم يفعله الاستعمار لأنّ هذا الأخير لم يُحطّم الإنسان الجزائريّ معنوياًّ، وهو على أية حال محكوم عليه بالرحيل في يومٍ من الأيام. إنّ ما قام به الاستعمار هو تجريد الشعب الجزائريّ من ثرواته الاقتصادية، لكنه لم يُجرّده من مَعِين القيم الأخلاقيّة التي جاء أمثال ابن باديس وفرحات عباس وعلي الحمامي ومفدي زكرياء وبن نبي ليُجسّدوها وينشروها ويُدافعوا عنها. أمّا اليوم فلا يوجد أحد للدفاع عن بلادنا ضدّ النّاهبين ومُرْتَكِبِي الأفعال الشنيعة وأمثلة السّوء وأصحاب السوابق الإجرامية. إنها حالة التّدجين والرضوخ والجبن في كلّ الطبقات وعلى كل مستويات حياتنا الوطنية.

 

إنّ حالة التّدجين هي وضعية ذلك الإنسان الذي لا يؤمن في قرارة نفسه بشيء ما، لكنه يتظاهر بالإيمان خوفاً وجبناً، هي حالته عندما يكون على علم بأن أمراً ما فيه عوج، لكنه لا يُبالي لأنّ مصلحته مرتبطة بذلك العوج. حالة التدجين هي أن تكون كل الشؤون سائرة رأساً على عقب لكننا نُصِرّ على التأكيد بأن الأمور على ما يُرام لأنّ مصلحتنا لا تقوم إلاّ إذا بقي ذلك الوضع كما هو، وهي أنْ نُخفي الحقيقة تحت الإغراء أو التهديد، وهي أن ندوس القوانين بأرجلنا دون أن نخشى العقاب، إنها تزوير الانتخابات من أجل مساعدة الأتباع، وتنصيب أشخاص في مناصب لا يستحقونها، وتفضيل المُدنّسين على الشرفاء، وشراء ذّمم العسكريين والمدنيين وكذا المُدمجين بأبخس الأثمان.

 

إنّ التّدجين قد أدّى بالأمم التي استسلمت له إلى الهاوية. فالشعب الذي تنزل مرتبته إلى هذا المستوى لا يُرْجى أن يصير شعباً عظيماً، والدولة التي تغُضّ الطّرْف عن الاعوجاجات، والتي تكون العدالة فيها منحازة، والتي يغتنم فيها ممثّلوها مناصبهم لجمع الثروة، هذه الدولة فاقدة لشرفها. أمّا الإدارة التي تتخلّى عن وظيفتها كخدمةٍ عمومية لتصير أداة بين أيدي أرباب المصالح الاقتصادية والسياسية فهي إدارة فاقدة لعلّة وجودها.

ولم تكن الجزائر في يوم من الأيام فقيرة من حيث الوسائل ولا اليد العاملة ولا العقول المفكّرة. بل إنّ الذي كان ينقصها دوما هم القادة الأكفاء، وهي الأخلاق العامّة. أيُعقلُ أن يصل عدد الضحايا منذ أكتوبر 1988 إلى هذا الحدّ لغير سبب؟ أمِن المنطقيّ أن يموت هذا العدد الهائل كي يتسلّل بعض الأفراد إلى دواليب الحكم ويشرعوا في نهب ثروات الدولة؟ أيمكن أن تكون كلّ هذه المأساة كي تتمكن شرذمة أشرار من الاستيلاء على رموز الثورة وتستغلّها لصالحها؟ وكي تُسلّط على الشعب قوانين جائرة وتدوس بأرجلها على القوانين العادلة؟ أيُعقل أن كلّ الذي وقع كان من أجل التضحية بشعب كامل والحفاظ على سلامة مجموعة من الأفراد المنحرفين؟

 

إنّ بلادنا واقعة في خيوط متشابكة من بيت عنكبوت واسع الأرجاء، بيتٌ حاكَت خيوطه أيدي التشرذم والمصالح الشخصية. ولا بدّ من فكّ خيوط هذا البيت الملعون، والتحرر منها، والإعلان عن رفض التدجين ونبذه وإدانته إدانة مُطلقة، ثمّ التحرّر من الخوف والجبن كما فعل أسلافنا الذين حرروا البلاد بين 1954 و 1962، أولئك الأسلاف الذين لا يمكن بأية حال من الأحوال أنْ ينتسب إليهم هؤلاء المتسببين في غرق السفينة والذين هم بصدد إعداد البلاد لمرحلة استعمار جديدة.

 

لماذا ترزحُ أغلبيتنا السّاحقة تحت وطأة الفقر مع أنّ البلاد تزخر بالثروات الطبيعيّة؟ ما سبب سكوتنا عن الحصانة التي يتمتع بها هؤلاء الذين نهبوا العملة الوطنية والعملة الصعبة، وهم مُستمرّون في ذلك جهاراً نهاراً ومِنْ مواقع مسؤولية رسمية؟ لماذا يقودنا رجلٌ قابع في كرسيّ متحرّك وهو يحاول أنْ يُقنعنا بانّه يتمتّع بقدرات إلهية لا يتمتع بها غيره من الأحياء؟ لماذا يُسمحُ له ولمحيطه بأن يخرقوا كلّ القوانين بدءاً بالدّستور، في حين يُفْرضُ علينا أن نحترم كلّ ما يصدر عنهم باسم احترام القانون؟ إنه قانون التحايل، و قانون المصلحة الشخصيّة، وقانون الإذلال وفقدان الكرامة وتحطيم الأخلاق السياسية منها والاقتصادية في هذا الوطن.

 

لماذا نسكت عن دوس رمز جبهة التحرير الذي سارت تحت لوائه ثورة المليون ونصف مليون شهيد، بأرجل أشخاصٍ لا يستحقّون حتى اعتبارهم جزائريين، لماذا نقبل بأن يكون فوق رؤوسنا جهلاء ومرتشون وعبيد متملّقون، ونحن نخشاهم أكثر من خشيتنا لله؟ و الجواب هو: لأنّنا لمْ نَعُدْ إلاّ جُبناء، نحن جميعا وبدون استثناء ! اللّهُمّ إلاّ إذا كان كلّ ما أقوله مجرّد افتراء من عندي.

 

لوسوار دالجيري 10 جوان 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى