بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة: النموذج التونسيّ

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

عندما يفقد شعبٌ ما شعوره بضرورة الدستور في حياته، وعندما يكون جاهلاً بفائدته التي ترجع على الأشخاص والممتلكات، وعندما يعتقد أنّ بإمكانه أنْ يستغني عن الدّستور لأنه يعيش في رعاية الله، فلا فائدة من ذكره له أو من محاولة فرض دستور عليه لأنّ الأوان لم يحنْ بعْدُ لذلك. فطالما أن الجماعة البشرية لم ترْقَ إلى مرتبة الكيان المدني والمجتمع المدني، فهي ليست بحاجة إلى دستور، سواء أكان دستورا جيداً أم دستوراً رديئاً.

كان لقرطاج على أرض جارتنا تونس دستورٌ منذ خمسة إلى ستة قرون قبل الميلاد، وكان أرسطو Aristote يُدرّسه للمتعلّمين في اليونان باعتباره نموذجاً، وذلك من خلال كتابه “السياسة” ( La Politique ) ، حيث يقول:”إن القرطاجيين يملكون مؤسّسات ممتازة، وإنّ ما يدلّ على الحكمة البالغة في دستورهم هو أنه مع ما يعطيه هذا الدستور من سلطة للشعب فإننا لم نشْهدْ أبداً أيّ تغيير في حكومتهم. وما يُلْفِتُ الانتباه أكثر هو أنّ قرطاج لم تعرف أية ثورة ولا أيّ مُستبد”.

أمّا نحن ـ الجزائريين ـ فقد مرّتْ علينا ألفيات من الزمن دون أن نعرف طعماً للدّستور أيّ دستور، ودون أن يكون لذلك ـ على ما يبدو ـ أيّ تأثير سلبيّ علينا. فها نحن هنا، بكامل عددنا، ننعم بخيرات القرن الواحد والعشرين، ونحن بكامل قوانا واستعداداتنا، ولا نختلف في ذلك بشيء عن كثير من الأمم التي واكبت مسيرتَها دساتيرُ سالتْ من أجلها الدّماء في حقبة من حقب تاريخها. ولسانُ حال هذه الأمم يقول إنها لا زالت على استعداد لمزيدٍ من التضحيات في سبيل ضمان أسلوب حياةٍ تختاره دون غيره من الأساليب.

كانت كلٌّ من الجزائر وتونس في القرن 19 تُسمّيان بـ : إيالة الجزائر وإيالة تونس. وكانت بلادنا سنة 1830 وحدها هي أول بلدٍ عربيّ مسلم يتعرّض للاستعمار، وصارت مُلْحقةً بفرنسا، أمّا تونس فلم تُفرض عليها الحماية إلاّ سنة 1881 مع المحافظة على نظامها الحكوميّ الموسوم بنظام البايلك الذي لم يُلْغَ إلاَّ بعد الاستقلال سنة 1956، وقام بهذا الإلغاء مجلس تأسيسيّ عوّض نظام البايلك بالنظام الجمهوريّ. وهذا المجلس نفسه هو الذي قام بصياغة دستور سنة 1959 حتى تمّ إلغاؤه بعد ثورة 2011.

كانت سنة 1963 أوّل موعد لنا بدستورٍ جزائريّ. لكنّه، ومباشرة بعد تحريره في ظروف استثنائية، داسه الرئيس بن بلّة بقدميه، ثمّ جاء بعده بومدين ليمحو من ذاكرتنا شيئا يُسمّى الدستور. فكِلا هذين الرّئيسيْن كان يرى أنّ الدّستور يُنغِّصُ عليه رغبته في ممارسة ذلك الفنّ السماويّ الذي يتمثل في فرض سلطته المُطلقة على الأمة. وكانا يدّعيان أنهما يُحبّان وطنهما وأنهما حريصان على حمايته ضدّ “الأعداء” الذين لم يكونوا إلاّ من صنعهما من أجل ترهيبنا، نحن القرويين. ومن أمثلة أولئك الأعداء المُصطنعين: غيرة الشعوب الأخرى، والبورجوازية الجشعة، والاستعمار الفرنسيّ الجديد القابع مثل الشيطان في ثنايا اتفاقيات إيفيان، والامبريالية الأمريكية مصّاصة دماء الشعوب المقهورة.

والواقع أنّ عدواًّ، ولو واحداً، من هؤلاء الأعداء، أو من غير أولئك الأعداء، لم تمتدّ إلينا يده بسوءٍ. فكلّ مآسينا و الإهانات المسلّطة علينا، ومن بينها كوننا في آخر الرّتل في كل المجالات عالمياًّ، كلّها آتيةٌ من الجهل والأمراض العقلية التي لازمت أولئك الذين حكمونا بالقوة والتزوير والتّدليس. إنّ أغلبيتهم الساحقة ممّنْ أنتجتهم ثقافة الحكواتيّ وثقافة الأساطير، ومسيراتهم مما يدعو إلى الشك والريبة لأنّ سِيَرَهُمْ مليئة بالزوايا المُظلمة. ويمكن الجزم بأنّ الحصيلة الكارثية التي تركوها وراءهم هي العنصر الوحيد الذي يتّسم بالوضوح وضوح الشمس.

وإنّ لظهور الحركة الوطنية في تونس سنة 1920 تحت عنوان “الدستور” ثمّ “الدستور الجديد” منذ  1934 تحت حكم بورقيبة، دلالة كبيرة، بينما لم تظهر هذه الكلمة في أي شعار ولا وثيقة من وثائق أحزاب الحركة الوطنية الجزائرية أو الأحزاب التي جاءت بعدها ابتداءً من سنة 1989. لم يُفكّر أيّ جزائريّ في ذلك على الإطلاق لأنّ هذه الكلمة لا تستند إلى أية مرجعية في ثقافتنا العدمية. ولا يوجد جزائريّ لديه أدنى استعداد ليتعرّض للسجن أو يستشهد أو يُحرق نفسه من أجل هذا “اللاَّشيء”. إنه مستعدّ لذلك من أجل مقابلة في كرة القدم أو بسبب مشاجرة مع الجيران أو للحصول على سكن اجتماعي  أو حتى للتنديد بغلاء سعر مادة من المواد الاستهلاكية، كما أنه أثبت استعداده للتضحية من أجل الإسلاموية والشعوذة على أوسع نطاق، بل والغالب أنّ المشهد سيتكرر أحيانا مستقبلاً من أجل الأمازيغية، وهو على أتمّ الاستعداد لذلك خلال السنوات القادمة من أجل الحكم الذاتي لناحية من نواحي الجنوب أو الشمال. أمّا التّضحية من أجل الدستور فلن تكون حتى “ينوّر الملح” كما تردده المقولة الشعبية.

بعد أن جرت أحداث أكتوبر 1988، وعندما كان الوضع يقتضي إعداد دستور ديمقراطيّ جزائريّ من أجل وضع الجزائر في سكّة الدّول الحديثة، ظهرت الإسلاموية التي هيمنت على الساحة السياسية وكأنها جانّ خارج من قاع الزجاجة، وراحت حناجر الجماهير الهائجة تهتف قائلة: ” لا نريد ميثاقاً ولا دستوراً، لكننا نريد كلام الله والرسول !“. وكان الإسلاميون على حقّ: فأغلبية شعبنا ليس بحاجة إلى ميثاق ولا إلى دستور، لكنه بحاجة إمّا إلى قادة مهيمنين على العِلْمِ الثوريّ المُلْهَم، وإمّا إلى مُرْشدين دينيين ( Gourous ) مُهيمنين على العلم الإلهيّ المُلْهَم. وقد تناوب علينا هذان النوعان عبر حقب التاريخ كما تناوب حزب الحمار وحزب الفيل على الولايات المُتّحدة الأمريكية. وكان الرومان يستعملون هذا المثل: “صوت الشعب هو صوت الله”، وهو يصلح للخطاب الديماغوجي، كما يصلح “للتمربيط”.

وها نحن أولاء نشهد مِن جديد إعداد دستور دون أن يعرف الشعب السبب ودون أن يعرف فائدة ذلك. إنه لا يجد لذلك علاقة بوضعيته وبقدرته الشرائية المتدهورة باستمرار. كلّ ما يعرفه معرفة تقريبية هو أنّ الدستور صار ضرورة من الضرورات في عالمنا، وهو أشبه شيءٍ برخصة السياقة من أجل قيادة سيارة، أمّا هيئة الأمم والمنظّمات غير الحكومية فهي عبارة عن دركيين بإمكانهم التوجّه إلى بلد ومطالبته باستظهار وثائقه للتّأكد من أنّ وضعيته عادية. فالدستور بهذا المنطق لا يهمّ إلاّ السائقين الذين يسوقون أوطانهم، وهذه الأخيرة مطالبة بالالتزام بقانون المرور. وبطبيعة الحال فإنّ المُراقبة لا تمتدّ بالضرورة لتُلقي نظرةً على حالة السيارة وعلى مدى راحة الرُّكّاب ولا إلى اتّجاههم. وما دام هذا البلد لا يُمثّل خطرا على البلدان الأخرى فبإمكانه أنْ يمضي في سبيله حيث يشاء.

إنّ إخواننا التونسيين يمرّون حاليا بظروفٍ عصيبة فرضها انتقالهم من نظام استبداديّ إلى نظام ديمقراطيّ حديث. وبما أنّ مسألة الاقتصاد عندهم تمّ تأجيلها بسبب الثورة ثُمّ بسبب المرحلة الانتقالية التي لم تنتهِ بعدُ، فهُمْ بحاجة إلى مساعدة، وأنا أعتقد أنهم وجدوها عندنا. لكن مشهد النملة المحتاجة وهي تطلب مساعدة الصرصور المُتبجّح، هذا المشهد الذي نراه لأول مرّة ليس مُسوِّغاً كافيا للتشكيك في حكمة لا فونتين الذي أنطق هاتين الحشرتين في حكايته المعروفة.

 

إنّ “المتسوّلين المعتزين بأنفسهم” الذين كانوا يُفكّرون في بيع حاسي مسعود بداية التسعينيات، قبل أن يمدّ لهم صندوق النقد الدولي يد العون (وسينهالون عليه بشتائمهم بعد ذلك)، هؤلاء المتسوّلون هم الجزائريون. وذلك “الصعلوك الذي بحوزته 200 مليار دولار” ـ حسب ما جاء في عنوان لإحدى الجرائد الإلكترونية ـ ليس إلاّ الجزائريين أيضا. إنه ليس التونسيين الذين لم يصلوا إلى حالة الإفلاس، بل هم في حالة عطب ظرفيّ. فهم في طريق استرجاع بنية وطنهم واقتصادهم لأنهم، وهم في كامل وعيهم، فضّلوا التراجع قليلاً لكي يحققوا قفزة نوعية نحو المستقبل. كانوا قبل الثورة يستوردون المواد المُصنّعة بقيمة 15 مليار دولار سنوياًّ (أي ثلاثين مرة ما نستورده نحن)، ومع ذلك فليسوا هم الذين يأتون إلى بلادنا كلّ عام للاستجمام، بل نحن الذين نذهب إليهم بمئات الآلاف لنُخفّف عن أنفسنا ما نُعانيه من أنفسنا.

يمكن لنا أن نعتبر أنفسنا أحسن منهم حالاً لأننا لم نبلغ درجة العجز رغم أننا لا نملك اقتصاداً، وكل ما بحوزتنا آبار بترول وغاز. لكننا إذا قسنا الأمور بمقياس التاريخ، أو بعملة التاريخ، وهي تعني القيم الاجتماعية والوعي السياسي، فإنهم يفوقوننا بكثير. وإذا كان كل هذا غير كافٍ للاقتناع، فبإمكاننا العودة إلى مرحلة قريبة من تاريخ قرطاج، عندما كاد حنبعل Hannibal أن يمحو روما من خريطة العالم في الوقت الذي كان فيه ماسنيساMassinissa  يُحاربه بشراسة لا تقل عن شراسة شيبيون الإفريقي Scipion ، وذلك ما أدى بعد بضعة عشرات من السنين إلى وقوعنا جميعا تحت وطأة الاستعمار الروماني.  

وبإمكاننا أن نتذكر كذلك، إذا كنا قد نسينا، أنّ أول مطالبة باستقلال الجزائر كانت سنة 1919 عندما التفّ ثلاثة جزائريين وثلاثة تونسيين حول ما يسمّى بـ “اللجنة الجزائرية التونسية” ليُرسلوا إلى مؤتمر السلم في فرساي، وإلى الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن  Woodrow Wilson، صاحب وثيقة “النقاط الأربع عشرة” الشهيرة، “مذكرة” يُطالبون فيها بـ “الاستقلال التام” للبلدين. ويمكن اعتبار حياة المرحوم توفيق المدني وحدها شهادة مؤثرة على هذا التقاطع بين مصيري بلدينا خلال القرن الماضي.

ويكفينا كذلك أن نعود إلى مرحلة التحرير لكلا بلديْنا خلال الخمسينيات. وهنا أفسح المجال لوثيقة بيان أول نوفمبر 1954 لتُعبِّر عن الوضع: ” إنّ الأحداث الجارية في كلٍّ من المغرب وتونس… لها دلالتها، وهي تُشيرُ إلى تعمّق مسار معركة تحرير شمال إفريقيا… واليوم نرى أنّ كُلاًّ من التونسيين والمغاربة قد سلكوا هذه السبيل بعزم، أمّا نحن فقد تأخّرنا عن الرّكب، وكان نصيبنا هو نصيب مَنْ تجاوزتْهُ الأحداث. وهكذا فإنّ حركتنا الوطنيّة التي طمستها سنوات طوال من الجمود، ووُجّهت وجهةً خاطئة، وحُرِمَتْ من دعم رأي الجماهير الذي لا غنى عنه، وتجاوزتْها الأحداث، هذه الحركة تتعرض اليوم للتفكك التدريجيّ، وهذا ما يُرْضي الاستعمار إلى أبعد حدّ.

وبالفعل، فلقد انتقل التونسيون إلى الكفاح المُسلّح ضدّ الحماية الفرنسيّة قبل قيامنا بالثورة المسلّحة ضدّ الاستعمار بفترةٍ طويلة، وقد أُطْلِقَ عليهم اسم “الفلاّقة” قبل إطلاقه على مُجاهدينا. هذا فيما يتعلّق بالماضي القريب. ولْنَعْمَدِ الآن إلى تعويض عبارة “حركتنا الوطنية” بـ “أحزابنا السياسية ومجتمعنا المدني”، وعبارة “استعمار” بـ (استبداد)، لنكتشف أنّ التونسيين قد سبقونا كما كان الحال في العصور القديمة، وخلال القرن 19م، وخلال الخمسينيات، وفي سنة 2011 لمّا قضوا على بن علي في ظرف ثلاثة أسابيع. إنهم تمكّنوا من وضع حدّ لهيمنة أسرة مفترسة و” سلكوا سبيل التحرّر بعزم”، أمّا نحن، “فقد تأخّرنا عن الرّكب، وكان نصيبنا هو نصيب مَنْ تجاوزتْهُ الأحداث”، كان نصيبنا هو نصيب منْ رضوا بعهدة رابعة لرجلٍ حالته الصّحّيّة أسوإ مما كان عليه بورقيبة عندما أُبْعِدَ عن السلطة ومُكِّنَ من الخلود إلى فترة نقاهة كان يستحقّها على أيّة حال.

وعلى التونسيين أن يثقوا بأننا مُتضامنون معهم تضامناً يَلفّه الاحترام المُطلق لأنهم يستحقّون ذلك لأكثر من سببٍ واحدٍ بالنظر إلى الماضي وإلى الحاضر وإلى المستقبل. فقد وضعوا بلادهم بكاملها تحت

تصرّفنا أيام حرب التّحرير، وفتحوا حدودهم لمئات الآلاف من اللاّجئين، وقدّموا على محراب حريتنا مئات الضّحايا في ساقية سيدي يوسف التي أصبحتْ رمزاً. وهنا تحضرني ذكرى من الذكريات: 

ففي سنة 2002 كان الرئيس بن علي في زيارة للجزائر، وقد كلّفني الرئيس بوتفليقة بمرافقته أثناء مُقامه بالجزائر، وهذا طبقا للأعراف الديبلوماسية المعمول بها. كان عليّ أنْ أكون بجنبه باستمرار، وكان عليّ أن أكون معه حتى في سيارته. وهكذا أُتيح لي أن أحادثه بدون قيود وأن ألاحظه، وأنْ ” أُحلِّلَهُ”، إذا جاز لي أن أقول ذلك. وهذه هي المناسبة التي حدّثني فيها حول أحداث ساقية سيدي يوسف التي كان حاضراً فيها على رأس فصيلة عسكريّة، ومكّنني من رؤية الإصابة التي تعرّض لها بسبب القصف الجوّيّ الذي قضى على فصيلته، وكاد هو أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة هناك. ويبدو أنّ تلك الإصابة كانت هي السبب في ترنّحه وهو يمشي. وروى لي وهو مُتأثّر كيف أنّ الفضل في نجاته من الموت يعود إلى فتاة قرويّة بادرت بإخراجه من تحت الأنقاض، كما أكّد لي أنّه لم يتعرّف على تلك المرأة الشّجاعة إلاّ بعد أن صار رئيساً، بمناسبة إحدى زياراته للمنطقة. 

ويقَال أنّ كلّ إنسان مُزوّدٌ بالقدرة على إدراك ما في أعماق غيره من خلال “الموجات” الصادرة منه والتي تكشف بالحدس عن طبيعته الحقيقيّة، بمنأى عمَّا يمكن أنْ يصدُر عنه من أقوال أو أفعال. ومن الواجب عليّ أن أعترف بما كان يُشِعُّ من شخصية هذا الرجل من أمواج “إيجابيّة” تتناقض مع ما نعرفه عن فترة حكمه. وعلى أيّة حال فإنّ ما علق بذاكرتي حوله هو صورة ذلك الرجل البشوش، البسيط، وصاحب الروح الخفيفة.  

ولقد أُتيح للمهتمّين باللغز الذي يُحيط بميلاد المجتمعات وحدوث التّحوّلات الديمقراطية أنْ يُشاهدوا عبر وسائل الإعلام ذلك النموذج التونسيّ وأن يُلاحظوا الكيفية التي تُحقّق بها الأمة دستوراً ديمقراطياًّ، وكيف أنّ الشعب يُمارس السلطة التّأسيسية ممارسة فعليّة من خلال مُمَثِّليه المُنتَخبين، وكيف أنّ القوى السياسية المتناقضة في أفكارها ومصالحها تتمكن في النهاية من الوصول إلى اتّفاق من أجل إنقاذ بلادها.

لقد عرف التونسيون أربعة دساتير على مدى ثلاث ألفيات من تاريخهم: دستور قرطاج، ودستور سنة 1861، ودستور 1959، ودستور 2014. إنني لم آخذ بعين الاعتبار”الميثاق الأساسيّ” الذي ظهر سنة 1857 لأنه لم يكن إلاّ ضرباً من “الإعلان عن حقوق رعايا الباي وكل الأجانب الموجودين في أراضيه”، كما لم آخذ بعين الاعتبار “قانون التنظيم المؤقت للسلطات العموميّة” والذي ظهر سنة 2011 تحت اسم آخر هو “الدستور المُصغّر”ّ، وهو وثيقة أعدّها المجلس التّأسيسيّ من أجل تسيير المرحلة الانتقالية. أمّا فيما يخصّنا، نحن الجزائريين، فقد عرفنا أربعة دساتير في ظرف ثلاثة وثلاثين سنة “1963، 1976، 1989 و 1996″، لكننا كُنّا دوْما دولة بدون دستور لأنّ أياًّ من تلك الدساتير لم يحصل أن طُبِّق فعلاً.

وكان الدستور الذي أصدره المجلس التأسيسيّ التونسي في 26 جانفي الأخير والذي تمّ الإعلان عنه في 10 فيفريّ تُحفةً من التّحف بواقعيته وإبداعه وحداثته. لقد تمّ تحرير الـ 147 مادة التي تُشكّله (إضافة إلى التدابير الانتقالية الموجودة في المواد 148 و 149) ومناقشتها بِنَفَسٍ طويل من 2011 إلى 2013، وتمّ التصويت العلنيّ على تلك الموادّ تباعاً من 3 إلى 26 جانفي، وهو اليوم الذي صادق فيه المجلس على النص لنهائي بأغلبية 200 صوت موافق، و12 صوتا مُعارضاً، و4 أصوات مُقاطِعة.

جاء هذا الدستور خالياً من بصمات الأشخاص أو رائحة الإيديولوجيات ، حاملاً لتوقيع بأحرف من ذهب بيد المجتمع التونسيّ مُمثّلاً بنخبته، وعليه لمسة عبقرية بيد الشعب التونسي الذي يحمل في أعماقه فكرة “الدستور” من عهد تأسيس قرطاج ومنذ ثمانٍ وعشرين قرناً خلتْ. لقد وُلِد هذا الدستور في الشفافية المُطلقة، فكرةً بفكرة، ومادة بمادة، وجملةً بجملة، ومقطوعة بمقطوعة، و كلمة بكلمة. كانت الأشغال تتوقف أحياناً، وكانت الخلافات تبلغ حداًّ يستحيل تجاوزه، وكان الخوف من الفشل يُخيِّمُ أحياناً، بل وقد بلغ الأمر حدّ التهديد بحلّ المجلس.

هكذا كان ميلاد كلّ الدّساتير التي طالت أعمارها في التاريخ وكانت وراء التطور المادي والمعنويّ لدى الشعوب التي كتبتها بفضل تضحياتها. إنّها لم تصدُر كما صدرتْ عندنا منذ 1963 جاهزة وهي خارجة من الظلمة ومن خارج الشرعية، مُثْخنة بالنوايا الخفية والأفخاخ، وصياغتها كانت أشبه شيء بمؤامرة محبوكة في أقبيةٍ لم يرها أحد، وبأيدي أشخاصٍ لا يعرفهم أحد. و بديهيّ أنّ تلك الدساتير لم تُجْدِ نفعاً ولمْ تُحْتَرَمْ لأنها لم تكنْ صادقةً، بل كانت مُصطنعةً، ولا علاقة لها بروح الشعب وتطلّعاته. بإمكانهم أنْ يُصدروا ما شاؤوا من دساتير على هذه الشاكلة، فإنها لن تُنقِذ البلاد من الانسداد، ولن تحقن الدماء، وسيبقى تاريخنا نسيجاً من الأكاذيب. أمّا الدستور التونسي فسيدوم مثلما دام دستور قرطاج ودستور 1959 لأنه صادر عن مجتمع واعٍ وحُرّ، ولم يصدر عن دسائس شخص أو جناح من الأجنحة.

 

                                  لوسوار دالجيري 22 ماي 2014

                                     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى