الرئيسيةثقافةسلايدر

   انطباعات عائد من طهران

الدكتور محمد أرزقي فراد*       

                

   تشرفت بالمشاركة في الأسبوع الثقافي الجزائري بإيران(من 10 إلى 17 ديسمبر 2016م)، لإلقاء محاضرة حول المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي 1830-1962م، بمعية أستاذي الدكتور ناصر الدين سعيدوني. وكان أسبوعا ثقافيا ثريّا عُرضت فيه عيّنات عن مظاهر الثقافة الجزائرية المتنوّعة(تاريخ/ شعر/ أفلام/ فنون جميلة/ ملابس تقليدية/ حليّ/ موسيقى).شاركت شخصيات عديدة في هذا الأسبوع الثقافي جسّدت التنوع الثقافي الجزائري، كالسيدة بخوشة ملولي(حرفية في الحليّ) من تلمسان، والسيد عدّاد يحي( حرفيّ في الحليّ القبائلي) من بلدة آث يني، والسيّد عيسى عبد الله (حرفيّ في الحليّ الترڤي)، والسيّدة أنيسة بركان المتخصصة في الفن التشكيلي، والسيد عبد العزيز باشا المتخصص في فن السيراميك، والمخرج السينمائي الكبير أحمد راشدي. وفي الميدان الموسيقى شارك في هذا الأسبوع الثقافي الفنان نوري الكوفي، وفرقة العامة(الفردة سابقا) من قنادسة المتخصصة في الإنشاد الصوفي. كما حضر أيضا المنشد عبد الرحمن بوحبيلة المعروف بصوته المتميّز. وحضر الشعر بقوّة في هذه التظاهرة الثقافية (إبراهيم صديقي/ مي غول/ اليزيد ديب). أما المقرئ خالد غريسي( من وداي سوف) فقد كان خير سفير للجزائر في تلاوة القرآن. وشمل المعرض أيضا كتبا نادرة ذات أهمية علمية كبيرة منها مصحف الرودوسي، وكتاب “التحفة السنية في النوادر العربية” لبلقاسم بن سديرة المطبوع سنة 1891م. وتجدر الإشارة إلى غياب الموسيقار الشهير محمد رُوان المعروف بموسيقاه الدافئة ذات البعد الرومانسي.

رحلة نهايتها فندق الاستقلال

قُدّرت مدّة الطيران من مطار الجزائر إلى مطار طهران بثمان ساعات(الجزائر/ دوحة6 ساعات- ثم دوحة/ طهران ساعتان)، وبدا لي – بعد طول الرحلة وأتعابها-  أن مطار طهران بعيد عن المدينة. كان الانطلاق من مطار الجزائر الدولي يوم الخميس 9 ديسمبر2016م مساء(15.30) وصلنا إلى فندق الاستقلال(خمسة نجوم) على الساعة السادسة من صباح يوم الجمعة 10 ديسمبر 2016م. خُصّصت غرفة لكل شخصين، وكان من حظي أن كنت في غرفة واحدة مع أستاذي الدكتور سعيدوني ناصر الدين، الذي لم ألتق به  منذ ثلاثة عقود، فكانت فرصة سانحة لتجديد التواصل المباشر والحديث عن رحلتي عمرينا بعد أن بلغ كلانا من الكبر عِتِيّا، حدّثني عن مجمل أعماله العلمية وعن مشاريعه المستقبلية المعبّرة عن فنائه في البحث العلمي إلى النخاع، وكان مسرورا أيّما سرور بهذا التلاقي لأن السفر- في رأيه- وسيلة هامة لمعرفة الإنسان معرفة دقيقة.

الحفل الافتتاحي

في مساء يوم السبت11 ديسمبر تم تدشين الحفل الافتتاحي للأسبوع الثقافي الجزائري بإيران في إحدى قاعات المكتبة الوطنية الإيرانية، من طرف وزيري ثقافة البلدين، فكان حفلا رائعا تضمن تبادل كلمات الترحيب، وتقديم عروض ثقافية(تلاوة القرآن/ إنشاد ديني/ فرقة نوري كوفي/ فرقة “العامة” لمدينة قنادسة). وكانت مفاجأة الإخوة الإيرانيين السارة تتمثل في تقديم ترجمة لديوان السيد وزير الثقافة عز الدين ميهوبي الشعري (أوارس) إلى اللغة الإيرانية. هذا وقد أسندت مهمة تنشيط الحفل إلى شاب إيرانيّ يملك ناصية اللغة العربية، وإلى الأخ الشاعر إبراهيم صديقي الذي كان في مستوى الحدث بأناقته المعهودة.

حرارة الاستقبال

حظي الوفد الجزائري باستقبال يليق بمقام الجزائر، ولعل ما لفت انتباهي في الفندق هو تخصيص جناح للشخصيات العالمية التي نزلت به، وكم كان سروري عظيما حينما لمحت اسم المجاهدة البطلة جميلة بوباشة يرصّع الجناح إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان وغيرهما من الشخصيات العالمية التي استضافها الفندق، وإن دلّ ذلك على شيء إنما يدلّ على إعجاب الإيرانيين بالثورة الجزائرية التي ساهمت المرأة الجزائرية في صنع ملاحمها. هذا والجدير بالذكر أن السفارة الجزائرية بطهران قد بذلت كلّ ما في وسعها من أجل إنجاح هذه التظاهرة الثقافية، وقد نجحت فعلا.

إسهامات الفرس في بناء الحضارة الإسلامية

كنت أتمنى زيارة إيران منذ زمن بعيد، تقديرا لعلمائه الكثيرين الذين ساهموا بقوّة  في بناء الحضارة العربية الإسلامية. وبفضل دورها الحضاري صارت إيران مكوّنا هاما في التاريخ الإسلامي والأدب العربيّ والعلوم العقلية لا يمكن تجاوزه، ومن علماء الفرس الذين تركوا بصماتهم بارزة في أدبنا وتاريخنا العربيّ، ابن المقفع(كليلة ودمنة)، وأبو الفرج الأصفهاني(كتاب الأغاني)، وأبو حامد الغزالي( إحياء علوم الدين)، والشاعر بشار بن برد، وسيبويه(نحويّ)، والجرجاني(كتاب التعريفات)، والإمام أبو حنيفة( صاحب مذهب فقهي)، والطبيب أبو بكر الرازي( الحاوي في الطب)، والمتصوّف جلال الدين الرومي، والصحابي سلمان الفارسي، والشاعر العظيم عمر الخيام (صاحب الرباعيات) وكتاب “ألف ليلة وليلة”، وغيرها من الأسماء. ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا الواقع التاريخ الغنيّ تداخل واضح بين اللغتين الفارسية والعربية يتجلى في الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر والمثاقفة.

معالم النهضة الحضارية

  إن ما لفت انتباهي في سلوك الإيرانيين هو الانضباط والعمل والتعلق بلغتهم الفارسية، وبعَلمهم الوطني الذي رأيته يرفرف عاليا في أكثر من مكان، وكذا تمجيد شهداء الوطن. ومكّنتهم هذه الوطنية  المدعّمة بمنظومة تعليمية قوية تتحكم في نواصي لغات أجنبية عديدة، من تحقيق تنمية شاملة تجلت في انجازات عمرانية وصناعية كثيرة بادية للعيان، أنجزت بعقول وسواعد إيرانية. أذكر منها “ميترو” مدينة طهران، و”برج ميلاد” الذي يعدّ تحفة معمارية عجيبة، يبلغ ارتفاعه 435 مترا، تحتوي قاعدته الأرضية عدّة مرافق تجارية، ويتم الصعود إلى البرج العالي بواسطة مصعد ذي واجهة زجاجية تمكّن الزوار من التمتع بمناظر خلابة، وفي قمّة البرج عدّة طوابق بها مخطوطات وتماثيل شمعية خلّدت بعض النوابغ والشخصيات التاريخية التي صنعت أمجاد إيران، وفيها عيّنة عن الحضارة الإيرانية العريقة التي يقدّر عمرها بحوالي9000 سنة حسب ما جاء في شرح مرشد البرج، الذي كان يتحدّث بلغات أجنبية عديدة منها اللغة العربية. وجلب انتباهي أيضا أن معظم السيارات مصنوعة في إيران بأحجام مختلفة(صغيرة ومتوسطة وفارهة) تناسب طبقات المجتمع المختلفة، كما لاحظت أن الحافلة المخصّصة لوفدنا – وهي من نوع فولفوvolvo  –  مصنوعة أيضا في إيران. ومن المؤشرات الدالة على دخول إيران في الاقتصاد الرقمي، استعمال آلات الدفع الإلكتروني حتى من قبل التجار الصغار في الأسواق الشعبية.

زحام الطرقات وثقافة البيئة                      

    تتميّز مدينة طهران بارتفاع كثافة سكانها الذين يزيد عددهم عن 15 مليون نسمة، لذا تعاني شوارعها من ازدحام شديد، ولحلّ هذه المعضلة خصّصت سلطات المدينة ممرّات خاصة لحافلات النقل العموميّ لتشجيع المواطنين على التخلي عن سياراتهم، بالإضافة إلى تكثيف الأنوار المنظّمة لحركة المرور. وأخبرني أحد المرافقين أن تلوّث الهواء قد يصل أحيانا في طهران إلى درجة قصوى، تُواجَه أحيانا بإجراءات استثنائية كتعطيل الدراسة مثلا حفاظا على سلامة الأطفال. وهناك اهتمام بارز بالتشجير للتخفيف من خطر التلوّث، وقد تزامنت رحلتنا مع موسم زبر الأشجار، والملفت للانتباه أن عمال البلدية يلفّون الشجيرات الصغيرة  بلفائف البلاستيك لحمايتها من الصقيع والبرد القارس، لأن طهران تقع في سفح جبل البروز الذي يزيد علوّه عن 5000م، وقد اثّرت قساوة المناخ على الغطاء النباتي إلى درجة أنه قلما يرى المرء عشبا مخضرّا أو شجرا مورقا في فصل الشتاء، علما أن شجر الزان هو الغالب في طهران لقدرته الكبيرة على تحمل قساوة المناخ، خاصة وأن  تراكم الثلوج هي ميزة طهران، لذا فهناك على امتداد الطرق أكياس من الملح تستعمل لإذابة الجليد الذي يشكل خطرا على السيارات، كما رأيتُ كاسحات الثلوج مركونة على حافات بعض الطرقات.

الهوية العمرانية

   إن ما شدّ انتباهي في البناء هو استعمال الحديد في رفع هياكل العمارات، خلافا لما هو عليه الأمر عندنا في الجزائر حيث الاستعمال القويّ للاسمنت المسلح. كما أن القرميد غير موجود رغم أهميته في تسقيف البناءات حيث تكثر الثلوج كما هو الأمر في حوض البحر الأبيض المتوسط. وبُنيت معظم البناءات على النمط الغربي الحديث هنا وهناك، ولم تقع في مجال مشاهدتي شوارع منسّقة في مخطط عمراني واضح المعالم، كما أنني لم أر “الهوية العمرانية” الإيرانية المتميّزة، اللهمّ إلاّ في المساجد ذات المنارات الدائرية والمزخرفة بالموزاييك وباللون الأزرق الفاتح الجذّاب المخضب بأشكال هندسية ذات لون ذهبيّ. وعادة ما يتوسّط المسجدَ قبرُ وليّ صالح أو قبر مرجعية دينية، يزوره الناس زرافات ووحدانا ويتبرّكون به. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد ذكّرتني هذه المساجد بظاهرة مقامات أولياء الله الصالحين عندنا في الجزائر والمغرب الإسلامي عامة، وإن كانت تختلف عنها من حيث الحجم والهندسة العمرانية.

جلبت انتباهي ظاهرة تجميل مدينة طهران بتزيين طرقاتها وحدائقها العامة برسومات جدارية وتماثيل مختلفة وصور الشهداء، بالإضافة إلى توظيف جريان الماء في تجميل المحيط. كل ذلك يؤكد سموّ مكانة الفنون الجميلة في المجتمع الإيراني، فالماء الزلال يجري في سواقي مدينة طهران جراء ذوبان ثلوج جبل البروز، وشاهدت انكباب عمال البلدية على تطهيرها من أوراق الأشجار المتساقطة، كما شاهدت أيضا  نوافير الماء في أماكن عديدة، في برج ميلاد  والحدائق العامة وفي المكتبة الوطنية، ويُرفق أحيانا تدفق مياه النوافير بالموسيقى الجميلة والأضواء الخلابة تضفي على المكان جوّا شاعريا، يذكّر بأجواء حياة عمر الخيام الخالدة.

مكانة المرأة

    بدا لي من خلال المشاهدة العينية طيلة الأسبوع الثقافي الجزائري أن المرأة الإيرانية تتمتع بقدر كبير من الحرية والحقوق، خلافا للصّورة النمطية المرسومة في ذهني قبل الزيارة. شاهدت ميدانيا وجودها القويّ في كل مجالات الحياة، فهي تقود السيارة بكل أريحية وبكثافة، وتمتهن كل الوظائف مناصفة لأخيها الرجل، ويظهر “التمدن” في سلوكها وهيئتها الأنيقة المحتشمة. هذا وقد ذكر أحد المرافقين الإيرانيين باعتزاز أثناء تجوّلنا، أن الجسر الرابط بين ربوتين في الحديقة العامة من إنجاز مهندسة إيرانية، وهو إنجاز عمراني رائع يسرّ الناظر والمتجوّل وينمّ عن مدى الإحاطة بأسرار الهندسة المعمارية الحديثة. ويمكن أن أضيف إلى ذلك مؤشرا آخر يؤكد سموّ مكانة المرأة في المجتمع الإيراني، وهو دأب العائلات على تناول الغذاء والعشاء في المطاعم في جوّ أسريّ بهيج، تشكل فيها أكلة “الكباب” وجبة تقليدية رئيسية في إيران، مشكّلة من الأرز والفتيل المشويّ.

جامعتا الزهراء والطباطبائي  بطهران

بُرمجت محاضرتنا التاريخية أنا وأستاذي الدكتور ناصر الدين سعيدوني في جامعة الزهراء يوم 13ديسمبر 2016م وهي الجامعة الوحيدة الخاصة بالإناث في إيران، متطوّرة جدا تدرّس العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة ولها مكتبة ثرية. وقدّمنا محاضرة في جامعة الطباطبائي يوم 14ديسمبر بمدينة طهران. ويفسّر اختيار هاتين الجامعتين بوجود أقسام خاصة للغة العربية، الأمر الذي ساعدنا على التواصل بأريحية، وحظينا باستقبال حار يليق بالوفد الجزائري الرسميّ. قدّم لنا المسؤولون فكرة عامة عن جامعاتهم، مع الإشارة إلى مكانة اللغة العربية في إيران التي نصّ دستورها على تعليمها، لذا بلغ عدد أقسامها 70 قسما للغة العربية في الجامعات الإيرانية، وهو رقم يبشّر بالخير ويهدف إلى استعادة العربية لمكانتها في المجتمع الإيراني التي كانت تحظى بها أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. وشاهدنا كمّا هائلا من الرسائل الجامعية أنجزت باللغة العربية حول الأدب العربي. وفي ختام الزيارة أهديت لأعضاء الوفد الجزائري مجموعة من المؤلفات العربية كان حظي منها العناوين التالية:

  • تلمسان مقاومة وعرفان، أ.د.محمّد علي آذرشب، جامعة طهران،2011م.
  • شذرات من النثر والشعر منذ صدر الإسلام حتى سقوط بغداد، د.نادر نظام طهراني/ د. سعيد واعظ، 2014م.
  • مجلة “شيراز” نافذة على الأدب الإيراني، العدد18 صيف 2014م/ العدد 19، ربيع 2015م.

محاضرة حول المقاومة الجزائرية

قدمتُ أنا وأستاذي الدكتور ناصر الدين سعيدوني مناصفة نبذة تاريخية مركّزة حول المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسي التي استمرت طيلة 132سنة. وفضلنا تقديم عرضنا باختصار من أجل توفير الوقت للطلبة لتمكينهم من طرح أسئلتهم وإجراء المناقشة، لكننا فوجئنا باختزالها في دقائق معدودة رغم وجود متّسع من الوقت يسمح بطرح كلّ ما يجول في أذهان الطلبة من تساؤلات. هذا وقد لاحظت في عيون الطلبة والطالبات رغبة ملحّة في الحوار والمناقشة بيد أن منطق البروتوكول كان حادّا. وتعلّق بنا الطلبة والطالبات في الأروقة، أبانوا رغبة ملحة في زيارة الجزائر والالتحاق بجامعاتها، فأشرتُ عليهم بعرض انشغالهم على الملحق الثقافي بسفارة الجزائر بطهران، وفي هذا السياق أخبرني أحد الطلبة أنه بصدد إعداد رسالة جامعية حول تاريخ الجزائر المعاصرة، وألمحت في يده كتابا من كتب المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجيرون، سألني عن مدى مصداقية هذا المؤرخ، فأوضحت له أنه مؤرخ محترم في الجامعة الجزائرية. وفي سياق المناقشة في جامعة الزهراء أخبرنا أحد الأساتذة الإيرانيين المتخصّصين في الترجمة، أن معرفته بالأدب الجزائري محدودة لأنه يتزود بالكتب الخاصة بالأدب العربيّ من مدينة بيروت التي تقل فيها المؤلفات الجزائرية. وأرى أنه يمكن تلافي هذه المعضلة بإرسال كمية من الكتب المطبوعة بأموال وزارتنا للثقافة إلى سفاراتنا في الخارج لإيصالها إلى الطلبة الذين يُعدّون دراسات أكاديمية حول الجزائر. هذا وقد رافقنا في نشاطنا كلّ من المقرئ خالد غريسي، والشاعرة مي غول، والشاعر الدكتور اليزيد ديب(أحيانا) الذي كانت مهمته تتمثل في التعريف بالأدب الجزائري لطلبة أقسام اللغة الفرنسية بطهران.

جامعة المصطفى العالمية بمدينة قم

قمنا بزيارة جامعة المصطفى العالمية بمدينة قم المقدسة يوم 15 ديسمبر2016م لإلقاء المحاضرة الأخيرة على طلبتها. وتبعد مدينة قم عن العاصمة طهران بحوالي 120 كلم، جلب انتباهي طيلة الرحلة غياب المزارع والبساتين بسبب طبيعة التربة الملحية التي لا تسمح بنمو الغطاء النباتي. وحظينا عند الوصول باستقبال حار، قدّمتْ لنا فيه شروح وافية عن خصائص هذه الجامعة “الخاصة” التي تدعمها الدولة، تقوم بتدريس العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية، وتُعنى بالفكر الشيعي في العالم، تحتضن حوالي 30 ألف طالب أجنبيّ منهم حوالي 70 طالبا جزائريا، ولها 60 فرعا في العالم، وتملك إمكانات التدريس عن بعد. ونشرت حوالي 300 كتاب بستين(60) لغة أجنبية.

كان من المفروض أن ألقي محاضرة تاريخية بمعية أستاذي الدكتور ناصر الدين سعيدوني على الطلبة، لكن فوجئنا بتغيير البرنامج فوجدنا أنفسنا في مكتب الدكتور عبد المجيد حكيم إلهي(مساعد رئيس الجامعة للعلاقات والشؤون الدولية) يلقي على مسامعنا كلمة مطوّلة حول النهضة الإيرانية التي حققت – برأيه- الاستقلالية للشعب الإيراني. وقد حضر اللقاء ما يقارب عشرين طالبا جزائريا. أوضحنا لهذا المسؤول أن الغاية من حضورنا هي إلقاء محاضرة على الطلبة، لتنويرهم – بإيجاز- بفصول  المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي في إطار الأسبوع الثقافي الجزائري، فاعتذر المسؤول عن سوء الفهم الحاصل.

على أيّ حال تجاذبنا أطراف الحديث حول التطور الذي عرفته الجزائر على جميع الأصعدة، فصحّحنا بذلك الصورة النمطية السلبية التي كانت لدى بعض إخواننا الجزائريين المقيمين هناك. وفتحنا على هامش مأدبة الغذاء نقاشا صريحا حول بعض القضايا الفكرية، فشرح لنا في هذا السياق الدكتور عبد المجيد حكيم إلهي – مثلا- أن العمامة السوداء خاصة بالنسب الشريف، والعمامة البيضاء لعامة الناس، واتّسع صدره لسؤال يتعلق بسبّ وذمّ الصحابة تجرّأتُ على طرحه فكانت إجابته أن المرجعية الشيعية لا تشتم الصحابة، ولا يفعل ذلك إلاّ غلاة الشيعة المتطرفون، لكنها ترى أن الصحابة ليسوا كلهم عدول. كما أفادنا أيضا أن رجال الدين(الفقهاء) يتمتعون باستقلال ماليّ في إيران، وهذا بفضل الوقف والهبات وحصولهم على خُمس أموال المسلمين، فهم يموّلون مساجدهم ومؤسساتهم التعليمية والعلمية ويدفعون أجور عمالها وموظفيها من مالهم الحرّ. وكان مسك الختام زيارة مرقد السيدة “فاطمة المعصومة” بمساعدة الأستاذ خالد المدرّس في جامعة المصطفى( وهو جزائري)، وكان خير مرافق في هذه الزيارة. وفي طريق العودة قمنا بزيارة مرقد الإمام الخميني في طهران، وهو عبارة عن تحفة عمرانية فريدة ومشروع كبير يتكون من عدة مرافق خاصة بالعبادة والتعليم والشؤون الاجتماعية، لم تكتمل أشغال بنائه بعد. وأشير في الأخير إلى عدم تمكّننا (أنا وأستاذي د.ناصر الدين سعيدوني) من زيارة متحف الزرابي وقصر الشاه محمد رضا بهلوي، اللذين زارهما بعض أعضاء وفدنا، وهما من جواهر السياحة في إيران.

   ملتقى تقارب المذاهب الإسلامية

بقي أن أشير في الأخير إلى تزامن الأسبوع الثقافي الجزائري مع الملتقى الدولي الخاص بالتقريب بين المذاهب الإسلامية المنعقد في طهران، شارك فيه بعض الجزائريين ولا أدري إن كانت مشاركتهم رسمية أو شخصية. لا شك أن مثل هذه المبادرة – إن صحّت النية- تحمل في طياتها فكرة التسامح لتجاوز الخلافات في الفروع، وعليه فهي جديرة بالتشجيع لتخليص المجتمعات الإسلامية من الصراعات المذهبية المشتّتة لطاقات العرب والمسلمين.

والجدير بالذكر أن الدولة الجزائرية كانت سبّاقة إلى احتضان فكرة “التقريب بين المذاهب الإسلامية” من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي التي دأبت على تنظيمها سنويّا وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، خاصة في عهد الوزير المفكّر مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله. هذا وقد أكّد لي الأستاذ محمد الصغير بن لعلام (إطار سابق في وزارة الشؤون الدينية) أن علماء دولة إيران وعلماء الزيدية من اليمن، كانوا يواظبون على حضور هذه الملتقيات، وفي مقدمتهم الإمام موسى الصدر الذي كان يصلّي وراء الإمام إبراهيم بيوض (إباضيّ) دون حرج، كما كان يفعل أيضا هذا الأخير.

الكلمة الأخيرة

تلكم هي الخطوط العريضة للانطباعات التي علِقت في ذهني وأثارت انتباهي. أشير إلى أنني تجاوزت في هذا المقال ذكر النقائص، وهذا من باب مراعاة “روح” الأسبوع الثقافي الجزائري بإيران، الهادف إلى دعم أواصر الأخوة الإنسانية والحضارة الإسلامية، وإلى تمتين روابط التعاون الاقتصادي والعلميّ بين البلدين. وقد أكون مخطئا في تفسير بعض الظواهر، لأن مدة أسبوع واحد غير كافية للغوص في أعماق مجتمع عريق في الحضارة عمرها ألوف السنين، وصفها الشاعر الفارسي مهيار الديلمي بقوله:

[ وضممت الفخر من أطرافه <<>> سؤدد الفرس ودين العرب]

ومهما يكن من أمر فإن صمود الشعب الإيراني أمام الحصار الغربي لسنوات عديدة جدير بالتقدير والتحية، وقد حرّكت هذه الأزمة همّته فقطع شوطا معتبرا في الرقيّ والتنمية. وعليه فإن التجربة الإيرانية في التنمية البشرية وترقية الاقتصاد وبناء الدولة جديرة بالدراسة والاهتمام.

 

(*)باحث في التاريخ

 الجزائر22/12/2016م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى