بين الفكر والسياسة

بناء جزائــــر جديـــدة: حُلْــــــــــم

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة: عبد الحميد بن حسان

 

إنّ الأحلام التي نراها قبيل استيقاظنا هي التي نحتفظ في ذاكرتنا بتفاصيلها في وضوح تام. فبالأمس استيقظت وعقلي مُفْعمٌ بالرؤى العجيبة التي كنتُ أراها في منامي. وفور ذلك أسرعتُ إلى الحاسوب كي أسجّل ما رأيت مخافةَ أن تضيع الصّور في خضمّ الهموم اليومية.

ونحن نعرف أن النشاط المرتبط بالأحلام لا يخضع لقواعد العقل والواقع: فكلّ شيء مكتمل الصورة، وليس هناك أي شيء يدعو إلى الاستغراب، أمّا بُعْدُ الزمن فلا وجود له، وحركتنا كحركة الكائنات السماوية، ولا يُراودُنا أيّ شكٍّ في صدق ما نراه ونعيشه. وهذا كله شيء منطقي لأن الحلم هو المكان العجيب الذي يكون كل شيء فيه ممكناً.

رأيْتُ فيما يرى النائم أنّ بلدنا صار كالشبح، متوقّفاً، مهجورا من كل سكانه، خاليا من السيارات، لا شرطة فيه ولا حافلات، ولم تبق فيه أية زحمة، ولا وجود لهذا الترامواي tramwayالجديد…

كُنتُ طائراً في الفضاء وأتنقل بسرعة كي تكون لي رؤية شاملة. الشوارع خالية، والحركة متوقفة، ولا وجود للقطارات ولا للضجة ولا للقلق، وهذا في كلّ المدن والبلديات. كانت الأحياء المكتظة ساكنة، وتظهر لنا سيارات مركونة لكن ليس هناك أية علامة على وجود الحياة.

أما المقاهي والمتاجر، والأسواق، والمؤسسات التعليمية، والإدارات، ومصالح الصّحّة، والمصانع، والمؤسسات، والمُستثمرات الفلاحية، وحقول البترول والغاز، والموانئ والمطارات، ومحطات القطارات، والبنوك، ومكاتب البريد، ومحطات الوقود، فكلّها مُغلقة. لم يكن هناك موظّفون، ولا عُمال ولا مُستخدمون للتكفّل بتحريك أي شيء من الحدود إلى الحدود في بلدنا الواسع الذي تمثل فيه الصحراء نسبة 90%.

لكنّ كلّ شيء كان خاضعاً للنظام، وكان الجوّ جميلاً جداًّ. كان البلد معزولاً عن العالم لأنّ الاتّصالات بالخارج غير ممكنة. أما الأجانب الذين لم يُغادروا الجزائر عند الإعلان عن هذه الحركة فقد أعدّوا العُدّة وخزنوا ما أمكن، شأنهم كشأن أهل البلد، وبقوا في بيوتهم وراء أبوابها المُغلقة. وقد تمّ تأجيل زيارات الوفود الأجنبية إلى آجالٍ غير مُسمّاة.

وكانت الهواتف الثابتة في البيوت مقطوعة، والهاتف النقال متوقف، وشاشات التلفزيون سوداء، والإذاعة صامتة، والاتصال بانترنيت معطل. أما السماء فلا وجود فيها لطائرات مروحية ولا طائرات، لكن العَلَم كان يُرفرفُ بألوانه البراَّقة في كلّ مكان.

وتُرى في شرفات كل المنازل لافتة كُتبتْ عليها كلمة واحدة: ” ارحلوا”.(Dégagez ! ). لكنْ إذا ما حلّ الليل فإن هذا البلد الشبح يسترجع حياته بطريقة سحرية ابتداء من التاسعة. لا تُرى كائنات بشرية، بل تُسْمع طقطقات المقالي مرفوقة بأصوات تُردّدُ: ” الشعب يُريدُ إسقاط السيستام  !” لأنّ بعض الناس كانت لديهم مُكبّرات الصوت.

ماذا جرى؟ إنّها عدوى الثورات العربية ! فعندما فهِم الشعب الجزائري أنه أصيب بالعدوى، وبالنظر إلى الصدمة التي أصابته لما رأى ما حدث في ليبيا وسوريا، فقد قرر القيام بحركة عامّة وعارمة لاسترجاع الوعي، من أجل التحكم في مصيره، لكن مع الحرص الشديد على حياة ذويه وعلى البلد. لقد عاد الشهداء وراحوا يرمقونه بنظراتهم. وكان الكُلّ يُحسّ بوطأة تلك النظرات ويرتعد منها.

الجزائريون صاروا يعرفون أنّ ساعة الحسم قد حانت، لكنهم قلقون: ما العمل كي تُتَجاوز الانقسامات السياسية والحزبية؟ وكيف سيتم التحرر من العصبيات والقضاء على الغيرة والحذر المُتبادل؟ وكيف يمكن إقناع أشباه الزعماء بالانضمام إلى حركة المجتمع؟ وما السبيل إلى حماية الحركة من اندساس المخابرات في صفوفها؟

وكانت السلطة مسيطرة على طول الخط حتى ذلك الحين. فقد عرفت كيف تتصرّف مع تلك المظاهرات التي كانت مبعثرة، والمسيرات التي لا يشارك فيها إلاّ قليل من الناس، والاعتصامات المعزولة. فكان لا بدّ من ترك تلك الطرق البالية وتجديد الأسلوب بتجريب طريقة جديدة، وذلك بالتفكير العميق وإشراك أكبر عدد ممكن من الناس في عملية البحث عن شاطىء النّجاة.

وهكذا بدأ تبادل الأفكار بين الناس عن طريق أنترنيت أو رسائل الهواتف النقالة، أو بالمكالمات الهاتفية، أو على صفحات الجرائد. وفي مرحلة أولى تمّ تشكيل لجان لحوصلة الاقتراحات التي برزت في النقاش. وفي مرحلة ثانية تمّتْ دراسة كل أساليب العمل التي استُعملتْ منذ سبارتاكوس (Spartacus) في التحرر من العبودية، ومن الاحتلال الأجنبي، ومن الديكتاتورية، أو من الاستبداد باسم الشرعية الثورية.

وقد لفت الانتباهَ اقتراحٌ من بين الاقتراحات التي عُبِّر عنها في النقاش، وهو آتٍ من المواطنين الجزائريين المقيمين في بلدان المشرق الأقصى، وفيه دعوة إلى الاهتمام بأفكار لاو تسي(LaoTseu)، وهو فيلسوف صيني من القرن الخامس قبل الميلاد، وكان معاصراً لكونفوشيوس ومنافساً له.

ففي حين وضع هذا الأخير فلسفة للعمل الرشيد الذي يساعد على تحقيق الحياة المنسجمة، كان لاو تسي يعمل على إعداد فلسفة مُناقضة لذلك، إنها فلسفة الكف عن العمل (le non-agir)، ومفادها هو تحقيق نفس الأهداف بأقلّ كلفة. وقد عُبِّرَ عن هذا المذهب في كتاب تاو تو كينغ (Tao To King) المنسوب إلى لاو تسي، وعُرِف المذهب بالتاوية (Taoisme).

وهناك مواطنون أخرون مقيمون في الهند اقترحوا استلهام البُعد الروحيّ في المعركة التي خاضها غاندي (Gandhi) ضدّ الاستعمار البريطاني، وهي اللاّعنف.

وبما أنه يجب مواجهة تعنُّت السلطة بالمقاومة السلمية والثورة الصامتة، فتلك هي أحسن استراتيجية خاصة وأنّ لها ما يُصدّقها في القرآن الكريم ” صَابِرُوا وَرَابِطُوا”. وقد تدخّل أحد المواطنين المسيحيين مُضيفا: في الإنجيل كذلك ! وهكذا تمّ الاتفاق على تبني أسلوب “اللاّعمل المُنسَّق” بدلا من “العمل المُنسّق” لأن هذا الأخير لم يُحقق أية نتيجة.

حقيقةً، قد يكون من الأنسب اعتبار بعض أساليب الكفاح السياسي الحديث مثل العصيان المدني، والمظاهرات الترويحية، والاعتصامات الحميمية، والمسيرات البوهيمية، والإضرابات المفتوحة، أنواعاً من التعبير غير الديني عن مبادىء الحكمة الآسيوية. يكفي ان نتذكّر الطريقة التي يُضرِبُ بها اليابانيون: فهُمْ يذهبون إلى المصنع، ويعملون، لكنهم يضعون مناديل أو قطع قماش بلون مُعيّن على أذرعهم، مثلما يفعل المسيحيون عندما يستعملون شريطا أسود للتعبير عن الحداد.

وبإيجاز، فقد اتفق الجزائريون على الطريقة التي توصِلُهم إلى هدفهم: خلع هذه السلطة بهدوء، وبدون مظاهراتٍ، ولا كوكتيل مولوتوف، ولا أعمال نهب، ولا ضحايا بشرية، أي “بالتي هي أحسن”. كما تمّ الاتّفاق على المدة الزمنية بين 25 جوان و4 جويلية لتنفيذ العمليّة.

وكانت الصحافة تُتابع منذ البداية تنامي هذه الفكرة وساهمت في جمع أفراد الأمة حولها. وكان العزم على أشدّه للتخلّص نهائيا من قبضة هذه السلطة وقوانينها، وخطابها، ونظرتها إلى الشؤون. وإذا لم تستجب السلطة بالجلاء خلال هذه المدّة فإن المجتمع سيعود إلى الحركة ثانية حتى يرضخ المستبدّون.

لقد اضطُرّ الشعبُ اضطرارا إلى الانسحاب من الحياة الوطنية بسبب معاملته كقطيع من الماشية، وهكذا تخلى عن أماكن العمل والساحات العمومية، واختفى عن الأنظار كما فعل أئمة الشيعة الجعفرية الإثنى عشرية، وذلك في سبيل تغيير ظروف معيشته نهائيا ويصير مثل الشعوب الحرة والمتطوّرة الأخرى. وتتمثل هذه الطريقة في القيام بإضراب متعدد الأشكال يشارك فيه الجميع وبدون استثناء. ولن يعود الشعب إلى حياة المواطنة، وإلى النشاط الاقتصاديّ والإداريّ، وإلى السوق والمقهى والمسجد إلاّ إذا سقط نظام الحكم الحالي.

وكل هذا في صمت وطني مثل سكون المقابر طيلة النهار. ذلك أن الصمت أكثر إقناعا من كثرة الكلام، وقد قال أحد الحكماء الآسيويين:” لا يوجد شيء أسمى من الصمت”(Seul le silence est grand) والجميع يعرف أن الغياب والصمت إذا التحما سيزيدان من غرابة السلطة. ويُعتبر الصمت والاعتدال والانسجام هي الكلمات المفتاحية لهذا الوجود. وإنّ الكون صامت، وكذلك الطبيعة وأعماق المحيطات، وكثير من الحيوانات لا يُصْدِرُ أيّ صوت مسموع عندنا. أما الكلام فهو ميزة الإنسان. وللأسف فإنه كثيرا ما استُعمِلَ عند الساسة للثرثرة والكذب، وإلقاء خُطَبٍ ديماغوجيّة أو التصريح بالتُّرّهات.

وكانت التعليمة تنصّ على أن جميع أفراد الشعب يجب أن يَلْزَمُوا بيوتهم وأن يتفادوا الظهور حتى من النوافذ. وسيُشلّ الاقتصاد، أما المجتمع فسيتشتت ويصبح من المستحيل إجراء أي تواصل. إن الشعب قد فضّل السكون على المسيرات والاختفاء على التظاهر والصمت القاتل على الشعارات العنيفة. وكان كلّ الجزائريين مستعدّين للتحوّلِ إلى صوفيين أو نُسّاك لائذين بخلواتهم من أجل إنجاح هذه الحركة.

ولكي يكون الشعب في مستوى هذه المهمة النبيلة فقد عاد إلى تقاليد مجتمعه الحميدة، مِنْ تضامنٍ، وكرمٍ، وأخوّة، ومساواة وتشاور… أما من الناحية المادّيّة فعلى كل إنسان أنْ يُعِدّ العُدّة بتخزين ما يكفي لمدة شهر من الحبس. وهكذا راح الناس يقتنون “الطابونات” وقوارير الغاز لطهي الخبز، وكذا قناطير من الدقيق والسّكر والبقول الجافة والعجائن والمُصبّرات، والحليب المُجفف، والبُنّ والشاي والسجائر والشمة…

ولم يخرج المتشردون والشحاذون والمجانين من دائرة التخطيط. فكلّ حيّ وكلّ قريةٍ مُطالبة باللجوء إلى ” التويزة ” من أجل إيواء هذه الفئات وضمان معيشتهم. بل وحتى الصعاليك والأشرار قد التحقوا بالحركة وذلك بتوقّفهم عن أعمالهم الشريرة مؤقتا مثلما يُمسك الصائم عن الطعام في رمضان.

مِمّ يمكن أن يخاف الشعب؟ مِن التوقيف عن العمل، أو الإحالة على مجلس التأديب، أو الشطب من قائمة العمال، أو الحبس بالنسبة لأعضاء الشرطة والعسكريين، أو الخصم من الراتب، أو المتبعات القضائية؟ ماذا كان بإمكان السلطات أنْ تفعل؟  لا يمكن أن يُشطب شعب بكامله من قائمة العمال، كما لا يمكن تجميد مرتبات جميع السّكّان، أو متابعة الشعب كله في المحاكم.

ويجب ألاّ ننسى أن إطارات القضاء كانوا مع الحركة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلا وُجود لرؤوس معروفة يمكن إيقافها، ولا وجود لأسلحة يمكن استرجاعها. إنّ السلطة التي أضاعت ثقة الشعب في الماضي ترى اليوم كيف بدأ الشعب نفسه يُفْلِتُ مِنْ بينِ يديْها، إذ نأى بوجهه عنها فجأةً، تعبيرا منه عن الطلاق البائن والقطيعة النهائية. وهو بهذا يكون قد خلع السلطة من مهامّها، وأخذ منها المادة التي طالما كان يستجيب بها لنفحاته ولميوله الديكتاتورية.

لقد سحب الشعب ثقته من السلطة كما يفعل المجلس الوطني في النظام البرلماني، وقام بالتصويت على لائحة حصار ضدها، وطردها من مهامّها. قام الشعب بتغيير قواعد اللعبة ووقع مرسوما حُراًّ تمّ بموجبه حلّ الدولة الضالّة. أما العقد الاجتماعي فقد تمّ خرقه من جهة واحدة. وكان أحسن مجلس تأسيسي على قمة السلطة المؤقتة، وهي الممارسة الديمقراطية الأكثر مباشرة. وهكذا صار لشعار 1962 “الشعب هو البطل الوحيد !” معنى، لأن هذا الشعار قد وُظِّف مِنْ قِبَل أولئك الذين كانوا يريدون الاستيلاء على السلطة لأنه يسمح لهم بإخفاء مساهمتهم الحقيقية في الثورة.

إنّ أية دولة، حتى ولو كانت ضالّة، تتكوّن من رقعة ترابية، وسُكان، وإدارة. الجزائر رقعة جغرافية لكنّها أفرِغَتْ من السّكان. وبدون سُكان لا تكون إدارة ولا دولة. انكمشت السلطة إلى عدد قليل من الأفراد تمتْ مُحاصرتهم في مقراتهم في معظم الحالات لأن السائقين لم يأتوا لنقلهم إلى مكاتبهم منذ 25 جوان.

في اليوم الرابع من الإضراب الشامل فقدت الدولة الاستطاعة القانونية لتمثيل البلد لدى المجموعة الدولية، لأنها فقدت الشعب الذي تُمثله، مثل التاجر الذي ضاع منه سجله التجاريّ ولافتته ورخصة التوقيع. لم يعُد باستطاعة هذه الدولة أن تُصدر قوانين “باسم الشعب”، فهي مُقالة بالفعل، ومُقْصاة ومحكوم عليها بالنفي من الحظيرة والعيش بين جدران مكاتبها.

وبعد ثمانية أيام (مثل سنة 1957) قام مجلس الأمن للأمم المتحدة ONUبالمصادقة على لائحة تدعو إلى عدم الاعتراف بالسلطة الجزائرية، وتقرر تجميد الحسابات البنكية لثلاثين شخصية من الشخصيات المسؤولة، وفتح تحقيق من طرف محكمة العدل الدولية للنظر في الخسائر البشرية التي قد تنجم عن هذا الإضراب.

ومن نتائج هذا الإضراب أنّ بعض المرضى قد توفوا بسبب غلق مصالح الصحة، ومجلس الأمن يعتبر ذلك جريمة ضدّ الإنسانية لأنّ سبب كلّ هذا هو النظام الحاكم الذي لم يفعل شيئا لتفادي مثل هذه الخسارة. ولم يغب هذا المشكل عن انتباه الشعب إلاّ أنه لم يجد معادلة توفيقية بين قاعدة الإضراب العامة التي تقضي بالسكوت عن كل شيء، وبين فتح باب الاستثناء لسبب أو لآخر. وكان المرضى أنفسهم قد فهموا الخطر المحدق بهم لكنهم تقبلوا المخاطرة كأبطال القضايا العادلة. وبعد ثلاثة أيام من المصادقة على لائحة مجلس الأمن خرج الشعب ليحتفل بانتصاره. كان ذلك اليوم هو يوم 5 جويلية.

قد نتساءل عن مصير أولئك المناضلين الإداريين الذين كان نظام الحكم يعتمد عليهم. لا بد قبل محاولة الإجابة من إجراء هذا التصويب: إنه لم يكن يعتمد عليهم، بل هم الذين كانوا يعتمدون عليه ويستريحون في كنفه في آنٍ واحد. وفورَ انتباههم إلى أنّ الأشياء اتخذت مجرى لا رجعة فيه، وأنّ الطريقة الاستعراضية التي كان يُعتمد عليها سابقا لنْ تُجْدي نفعاً، انضموا إلى صفوف الشعب مخافة أن يتمّ التّعرّف عليهم ومحاصرتهم في جزائر المستقبل. لقد تبخّروا بسرعة مثل ملايين المناضلين الذين كانوا مع بن علي ومبارك. وعلى أيّ حالٍ فهُم بالذات الذين كانت بحوزتهم مُكبِّرات الصوت التي استحوذوا عليها بمناسبة آخر حملة انتخابية.

إنّ الجزائريين لم يكونوا يعرفون حجم التأثر الذي أحدثوه في الرأي العام العالمي، لكني أنا، المتفرج الافتراضي الذي كان يحلم، كنتُ أبكي تأثراً واعتزازاً بما أشاهده. فكل الصحافة العالمية وقنوات التلفزة مُفعمة بالإطراء تُجاههم. لقد استرجعوا السمعة الطيبة والاحترام اللّذَيْن كانا يحيطان بهم خلال الخمسينيات.

فهذه الولايات المتحدة، وهذا الاتحاد الأوروبي يمنحان الشعب الجزائري هدية كبيرة، وهي إلغاء رخصة الدخول إلى بلدانهما للجزائريين. وهذه كندا تُعلن عن استعدادها لاستقبال مَنْ شاء منهم أنْ يُقيم فيها بدون أيّ تحديد للعدد. أمّا سفاراتنا وقنصلياتنا فقد صارت غارقة في بحر من طلبات رخصة الدخول إلى الجزائر. والمستثمرون الأجانب يتزاحمون أمام الشبابيك من أجل الحصول على صفقات للعمل في الجزائر واعدين بامتصاص البطالة في ظرف سنتين أو ثلاث سنوات. أمّا بلدان الشمال فهي تقوم بحملة لمنح جائزة نوبل للسلام للشعب الجزائريّ.

إنّ القفزة التي حقّقها الجزائريون لا يمكن أن يحلم بها أي شعبٍ في المعمورة، بما في ذلك تلك الشعوب التي أنجبت أمثال لاو تسي أو غاندي. إنها سابقة عالمية، وعملية لا نظير لها في التاريخ الإنسانيّ. وقد قال أحد الخبراء الصينيين القُدامى أنّ ” أعظم انتصار هو الذي نُحقّقه بدون أيّة معركة “. وهذا ما قام به الجزائريون: فقد حققوا الانتصار بدون أية صعوبة أو مقاومة، مِنْ دون إحراق مدرسة، ولا مكتبة، ولا حافلة، ودون كسر أية واجهة زجاجية، ودون جرح أي رجلٍ من قوات الأمن.

لم يكن هذا إلاّ حلماً، بل إنّ هذا المقال نفسه قد لا يعدو أنْ يكون لحظة من لحظات ذاك الحلم. لكن، بما أنّ الحلمُ، إذا صدّقنا فرويد(Freud)، هو تحقيق لرغبة ما، فإنّ العامل المُفَجّر لا شكّ أنه لم يكن إلاّ حلماً في الثورات العربية. سأحاول أن أستيقظ كي أرى بشكلٍ أوضح.

لوسواردالجيري 30 ماي 2011

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى