الجزائرالرئيسيةسلايدر

  بوكروح لـ ” LEMATIN.DZ ” : “نحن نعيش تحت استبداد لا هو مشرقي ولا هو شيوعي، لكنه مافيوي”

-الجزء الأول والثاني- فلسفة و إمكانية تجسيد المبادرة السياسية

 

  • لقد أطلقتم مبادرة سياسية تدعو إلى ثورة مواطنة بهدف التوصل إلى سحب قرار اختيار قادة البلاد من أيدي الدائرة المغلقة داخل “النظام” و إعادته إلى الشعب. كيف يمكن، في بلد نموذجه هو ثورة 1 نوفمبر 1954 المسلحة، الإقناع بأن الثورة السلمية يمكن أن تكون هي الحل؟ أليست ثقافة اللاعنف غريبة على للجزائريين؟

 

لا يشكل الجزائريون كتلة من الرجال والنساء ثابتة جامدة لا تتغير عبر العصور التاريخية ؛ لكنهم مثل الشعوب الأخرى يشكلون كلّا إنسانيا متجددا عبر وتيرة حركة الحياة التي يتخللها الوصول و الذهاب في كل شيء. فالأجيال تتداول، و تندمج مع تغيرات طرق الحياة والتفكير التي تعاصرها، وتتأقلم مع التطورات العالمية.

لم نبق اليوم في عصر الحرب الباردة عندما كانت القوى العظمى تتصارع فيما بينها من خلال استعمال بلدان تنقسم بين أنظمة تقدمية من جهة وأنظمة ليبرالية من أخرى. و البلدان التي كانت تلقب ب “الثورية” اختفت اليوم من على وجه الأرض باستثناء عدد قليل منها مثل كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية والجزائر، أين لا تزال في الحكم أنظمة استبدادية تتستر خلف إيديولوجيات تلقب بـ”الثورية”، لكنها في الواقع ديكتاتورية ومفترسة.

صحيح أننا من خلال دراسة التاريخ الحديث للجزائر نلاحظ بأنها كانت بين عام 1954 واليوم، وخلال مرتين على الأقل، مسرحا لفترات من العنف الكبير خلفت الأولى منه مليون ونصف من الضحايا، والثانية مائتي ألف. إذا ما كنت أعتمد لغة فيلسوف للتاريخ، فسأقول بأن تضحيات الأولين كانت الثمن الذي دفع من أجل التخلص من قابلية الاستعمار، بينما ضحى اللاحقون ليدفعوا ثمن تفادي الجزائر لأن تؤول إلى مصير أفغانستان الطالبان.

مع ذلك، يجب أن نميز بين الظاهرتين. فقد كانت ثورة 1 نوفمبر 1954 كفاحا للتحرر الوطني ضد احتلال أجنبي وبالتالي لا يمكن تصنيفها في خانة العنف. فقد حاولت قبلها الحركة الوطنية تحقيق الاستقلال من خلال الوسائل القانونية و القنوات السياسية و السبل السلمية، لكن الاستعمار لم يترك أمامها خيارا غير الكفاح المسلح، و الذي يجب أن يضاف إليه العمل الدبلوماسي الذي كثيرا ما نميل إلى التقليل من أهمية الدور الذي لعبه في نجاح الثورة.

أما الحركة الإرهابية التي لجأ إليها الفيس ابتداء من مارس 1992 على أمل أن يأخذ بالقوة ما منعته عنه الوسائل السلمية ، فإنها أراقت دم البلاد ولا تزال تفعل، دون جدوى. كما لم تنجح هذه الحركة رغم أنها كانت مدججة بالسلاح، وحشدت عشرات الآلاف من النشطاء وحضت بالدعم الأجنبي. فكفاح التحرير الوطني نجح لأنه كان قضية وطنية، في حين أن الإرهاب الإسلاموي كان قضية خاطئة لأنه ارتكز إلى فكرة خاطئة هي “الدولة الإسلامية” التي تبين مع الوقت أنها لم تكن سوى داعش قبل أوانها.

لا أعتقد أن اللاعنف “غريب ثقافيا” عن الجزائريين، والثورة المواطنة التي أنادي بها مناقضة تماما لأفكار العنف الثوري أو الإرهابي. فهي تهدف إلى قطيعة مع أسلوب الفكر الذي يرتكز عليه “النظام” الذي أصبح خطرا على مصير أمتنا، ومعرقلا لمسيرة تاريخنا، و استبدادا مافياويا يفرغ البلد من ثرواته الأخلاقية و الفكرية والاقتصادية. هذه الثورة عبارة عن نداء للعقل، للوعي الوطني للجزائريين في الداخل والخارج، و لروح المسؤولية تجاه أنفسهم وتاريخهم.

لا يمكن أن يظل البلد يسير كما هو اليوم، فمن الضروري التحضير للانتقال إلى مرحلة وذهنية جديدتين، و إيجاد أدوات مختلفة لممارسة السلطة بديمقراطية وشفافية. إذا لم يفعل المواطنون ذلك، فلا أحد سوف ينوب عنهم: لا القدر، لا الجيش، لا الأحزاب السياسية، لا الأجانب ولا زعيم منتظر سوف يفعلون ذلك. التحدي الذي يرفع أمامهم اليوم هو الانخراط في عمل جماعي يحولهم من مجرد سكان للجزائر، إلى مواطنين جزائريين هم الملاك الحقيقيون لبلادهم و المديرون الفعليون لشؤونها من خلال النظام الانتخابي.

المبادرة التي أطلقتها لم تستنفذ بعد، فأنا لم أكشف حاليا إلا عن مقدماتها، لأركز الانتباه على فكرتها الأساسية التي هي أن خلاصنا سيأتي من تجندنا حول أهداف وإجراءات يجب أن تنفذ من الآن لغاية الانتخابات الرئاسية المقبلة في أفريل 2019. فهذه هي الفرصة الأمثل للتخلص من “النظام”، و إذا كنا نريد فعلا ذلك فإنه سيتحقق لا محالة. أما إذا استمر الجميع في الاتكال على الآخر ليتحقق ذلك دون أن يساهم هو فيه و طامعا في الاستفادة منه “باطل”، فإننا سوف نغرق كلنا.

 

  • لم يتمكن الاستقلال من إتمام جميع ما طمحت إليه الثورة، على الرغم من أن الهدف الأساسي (الحرية) قد تحقق. فقد أخذت حكومة ثورية مكانها على رأس الدولة الشابة في حين كان من المفترض أن تنتهي الثورة في يوم الاستقلال. كيف يمكن أن نعيد الوضع إلى نصابه ونخرج من “الثورة المزمنة”؟

 

كفاح التحرير الوطني كان يهدف إلى تحرير الإقليم واستعادة السيادة الوطنية، الطابع، النشيد و الراية الوطنيين، ولكن ليس لاستعادة حريات المواطنين التي كانت تعتبر بمثابة كماليات أو ترف برجوازي. فأحزاب و جمعيات الحركة الوطنية حصرت نضالها في استرجاع حقوق سياسية وطنية، ولم تمدده إلى تجهيز و تحضير الجزائريين لممارسة واجبات المواطن من أجل بناء وطنهم و دولتهم واقتصادهم.

في ذلك الوقت كان العالم منقسما بين رؤيتين سياسيتين متعاديتين: الرؤية الديمقراطية التي تنطوي على مشاركة الشعب في إدارة الشأن العام من خلال تعيينه لممثلين منتخبين عنه، وهو ما يتطلب تربية مدنية وتكريسا لقيم المواطنة ؛ و من جهة أخرى رؤية “ثورية” اعتبرت أن أولئك الذين قاتلوا ضد الاحتلال هم المخول لهم بقيادة البلاد دون  أي مشاركة من الشعوب، دون انتخابات وبالتالي دون الحاجة إلى تعزيز ثقافة المواطنة، و هو ما يسمح بالإبقاء على الشعب في وضع أليف لا مشروط.

ما حدث في عام 1962 كان استيلاء على السلطة بالقوة و اغتصابا لها باستعمال العنف. و الحزب الوحيد والاقتصاد المسير كانا أداتين مثاليتين لممارسة الاستبداد مع شكر وامتنان ضحاياه. فالخطاب “الثوري” الذي يجر في أذياله شعبوية استوحت مباشرة من الإيديولوجية الماركسية – اللينينية، لم يكن في الحقيقة سوى قائمة من الشعارات التي تصبوا إلى سراب، من أجل التمكن من خداع الناس واستعبادهم بأقل تكلفة ممكنة لمصلحة طبقة من النومينكلاتورا.

هدفه الوحيد كان إضافة الصابون إلى المنحدر الذي ينزلق فيه مبدأ عبادة الشخصية و أسطورة “المجاهد” والزعيم الواحد، اللذان يختبئ خلفهما مستبدون جهلة مصابون بجنون العظمة، يتصرفون كما لو كانوا ملّاكا للبلاد التي ورثوها برحيل المستعمر. الجزائر هي اليوم واحدة من آخر البلدان التي لا يزال هذا النظام ساريا فيها خلف ستار من مظاهر الديمقراطية التعددية. فنحن نعيش في الواقع تحت استبداد لا هو مشرقي ولا هو شيوعي، لكنه مافيوي.

بعد استولوا على الإرث الذي تركه الاستعمار خلفه فوق الأرض: الأملاك الشاغرة، الأراضي الزراعية و غير الزراعية، قاموا بعد ذلك بإهدار الثروات الطاقوية التي  في باطنها، و ضيعوها في سياسات لم يتبقى منها شيئا بما أنه قد آل بنا الأمر إلى طباعة الأوراق النقدية لنتمكن من دفع رواتب الموظفين والنواب. يجب علينا اليوم أن نعيد بناء الجزائر من أعلى إلى أسفل، بدءا بإعادة بناء الإنسان عبر نظام تعليم منقّي من الأيديولوجية الاستبدادية و من الشعوذة اللتان تغذي كلاهما الأخرى، وإلا فإن استقلالنا لا يعتبر صالحا لأي شيء

 

  • الثورة التي تنادون بها تظهر كأنها على طريقة Camus الذي سعى إلى بناء وعي جماعي عبر عنه في استنتاجه: “أنا أثور، إذا نحن موجودون”. أنكم تعبرون عن ذلك من أربعة “لا” التي ينتهي بها ندائكم. ف Camus يكتب في “الرجل الثائر”: “ما هو الرجل الثائر؟ إنه رجل يقول “لا””. هل هذه مصادفة؟

 

إنها مصادفة بالنسبة للذي يخيل له بأنه يراها من خلال مقاربتي بينما الحقيقة أني خلافا لCamus  أضع قدمي على الأرض، أرض الجزائر، وأني أحلم بتطور هو في متناول أيدينا و قد تأخرا حدوثه علينا. ليس بثورة مغامرة خطرة ومكلفة في الأرواح البشرية و الممتلكات. أنا لا أضع نفسي داخل هذه الإشكالية الفلسفية التي تخص الثقافة الفرنسية البحتة، و التي هي مرتبطة بظروف تاريخية معينة أدت إلى ميلاد “تيار الوجودية” الذي جاء كرد فعل “للشعور المأساوي للحياة”، و كذلك للشعور بالهباء  الذي خلفته حربان عالميتان في ظرف ربع قرن.

هذا و ألفت انتباهكم بأنه عندما طرق الواقع باب Camus مجبرا إياه أن يختار بين قيمة مثالية (العدالة) ووالدته، فإنه اختار هذه الأخيرة، بكل ما يحمل ذلك من روح المحافظة و المطابقة و بعيدا كل البعد عن أي روح “للثورة”. ف”الرجل الثائر” قال هذه المرة و في هذه الحالة “نعم! لاستعمار شعب من قبل آخر. لم يتمرد على هذا الوضع الشاذ بل على العكس، وصف أولئك الذين ثاروا لدرء هذا المصير الظالم ب “الإرهابيين”. على أي حال فإن هذه الفلسفة انتهت اليوم و قد لفظت نفسها الأخير في ماي 1968.

إذا كان عليّ أن أتخذ مثال Camus، فسيكون ذلك بأن أدرج نفسي في الواقع الفلسفي والسياسي والاجتماعي لوطني الذي تحرر من الاستعمار من أجل بناء دولة حديثة، ليجد نفسه عالقا بين السيئ والأسوأ، متأرجحا بين واقع استبداد “الدوار” و إغراء الدولة الدينية. و كلا الخيارين بالنسبة له يمثلان عقوبة بالسجن مدى الحياة في زنزانة الماضي القاسي و البالي..

إن ثورة المواطنين التي أنادي مواطني بلادي إليها هي من النوع الأخلاقي والنفسي والفكري، و هي تهدف إلى منحهم الإرادة و”الضمير الجماعي” الذي تتحدث عنه. مع وصول الأجيال الجديدة وتوفرها على وسائل حديثة للاتصال والالتقاء والتبادل والعمل المتضافر، فإنها تمتلك الأدوات المعنوية والمادية التي يمكن بواسطتها أن تحرر نفسها من قبضة سلطة تشبه اليوم ما كان عليه حال النظام السوفيتي من الهرم و التفكك عشية انهيار حائط برلين.

إنني أحثهم على أن يرفضوا سلميا ولكن بحزم، المصير الذي تقود إليه بلادهم حفنةٌ من المغامرين الخالين من أي أيديولوجية أو فلسفة أو سياسة أو برنامج أو أفق؛ الذين يحكمون البلاد على مرأى العين، يوما بعد يوم، يفشلون و يكررون من جديد كما لو لم يحدث شيء، و يسيرون خلافا و ضدا للجميع.

 

  • إذا كان لهذه الثورة أن تتجسد، ما الذي يضمن أنها لن تحيد عن المسار الذي تحددونه لها؟ فالشعارات التي حددتموها لها (“لا!” لعهدة خامسة لبوتفليقة، أو لخلافة مرتبة من فوق!) هي لا تعتبر برنامجا أو هدفا أو مثالا… إحداث الوعي شيء جيد، ولكن إذا كان حول أفكار أساسية مثل الحرية والعدالة، والسعادة… و هو ما يتطلب أكثر من مجرد الدعوة لرفض الإذعان للسلطة.

في السنوات والعقود الأخيرة، أتيحت للجزائريين الفرصة لأن يشاهدوا على شاشاتهم التليفزيونية مسيرة عدة من ثورات المواطنين في أوروبا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وحتى عند جيراننا (المغرب وتونس). و قد رأوا من خلالها بأنه عندما ينطلق عدد معين من المواطنين ( 5 في المائة من السكان على الأكثر، في حالتنا حوالي مليوني شخص)، و يتحركون دون اللجوء إلى العنف، بمطالب واضحة معقولة و ذات طابع  معنى سياسيين فإنهم  دائما يكللون بالنجاح.

و المطالبة بتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة بكل ضمانات السير السليم لها يشكل في حد ذاته قضية وهدفا، لأنه إذا ما تحقق هذا المطلب فإن الشعب سيكون قد استعاد سلطته السيادية الرئيسية التي هي حرية اختيار ممثليه. وبالنظر إلى التركيبة الهرمية التي يتميز به نظامنا المؤسساتي حسب ما ينص عليه الدستور الراهن، فإن البداية يجب أن تكون من فوق، من رئاسة الجمهورية حيث تتركز الصلاحيات ومن أين تنطلق الدوافع الحيوية للإصلاح؛ دون أن ننسى بأن التحكم في تنظيم انتخابات رئاسية يعد أسهل من تنظيم انتخابات تشريعية. فيجب علينا إذا أن نستعد لاعتناق هذا المطلب، و أن نوصل هذه الإرادة إلى أكبر عدد ممكن من المواطنين، كما يجب أن ننظر في كيفية تنظيمه للتمكن من فرضه و تطبيقه.

في اليوم الذي سيتمكن فيه الجزائريون من اختيار من يريدون في رئاسة الجمهورية بحرية، سوف يبدءون في تذوق ثمار الاستقلال التي ستأتي في أعقاب ممارسة الحرية والسيادة هذه. سيمحون من ضميرهم الذكريات الأليمة لاقتتال الأشقاء والاغتيالات من أجل الاستيلاء على السلطة، و سيتمكنون أخيرا من التصالح مع مؤسساتهم، و هو الشرط اللازم ليتمكنوا من تحقيق انطلاقة تاريخية جديدة.

 

  • ألا تعتقدون بأن الشباب الجزائري لا يثور بما فيه الكفاية، وأنه لم تعد تسكنه روح التمرد؟ هل يمكن أن يفقد شعب ثوري روحه بين عشية و ضحاها؟ و إذا كان الأمر كذلك فلماذا؟ الجهل، عدم الثقافة، الأمية؟

 

إذا كان علينا معاينة أمثلة ملموسة، فإننا سنجد بأن الشباب الجزائري متشبع فعلا “بروح الثورة”، لكن هذه الروح في الواقع هي متعددة الأوجه، كما تختلف في فلسفتها و في أهدافها. فلنتبع خيط تاريخنا منذ الاستقلال، لنعود إلى الوراء ونتوقف عند أبرز الأحداث.

  • في الأول كان أكتوبر 1988 الذي كلف خمسمائة قتيل. هل تذكرون أنتم أن الشباب عبّر عن أي مطلب؟ أو رفع لافتة، أو هتف بشعار، أو نطق ببنت كلمة من برنامج افتراضي أيّا كان؟ لقد سميت هذه الأحداث في الخارج “ثورة السميد”، و نحن إلى يومنا هذا لم نتمكن من الفصل في الطبيعة الحقيقية أو في عفوية هذه “الثورة” الخالية من أي فلسفة أو أهداف: هل كانت كراهية السلطة، مجرد روح عدمية، تلاعب من “المخابرات” في إطار صراع أجنحة في السلطة؟ لا أحد يدري

 

  • ثلاث سنوات بعد أكتوبر تظاهر مئات الآلاف من الشباب في الشوارع هذه المرة للمطالبة بإقامة دولة إسلامية، و هم مستعدون للقتال في سبيل هذه “الغاية” التي كانوا لا يعرفون عنها شيئا على الإطلاق. الكثير منهم حمل بعد بضعة أشهر السلاح و سلك طريق الجبال التي لم يعد منها عشرات الآلاف ممّن سقطوا إبان هذه “الثورة” التي لا تزال حية بما أن أويحي لا زال يتوسل “لآخر الضائعين” كي يعودوا إلى المجتمع مقابل المنافع المادية التي ينص عليها قانون “المصالحة الوطنية”، الذي يضل ساري المفعول.

 

  • في عام 2001، سقط أكثر من 100 شاب جزائري في العاصمة و منطقة القبائل تحت نيران الأجهزة الأمنية، في ثورة هدفها الدفاع عن القضية الأمازيغية والأفكار المسجلة في ” لائحة القصر”. لكن القضية لم تلق أي تجاوب في الولايات الأخرى، حتى انتاب هؤلاء الانطباع بأنهم لم يعودوا ينتمون إلى نفس البلد.

 

  • عام 2011، و في أعقاب الثورات العربية، اندلعت عدة ثورات متباينة في جميع أنحاء البلاد، لكن سرعان ما أطفأتها السلطة بخفضها لأسعار الزيت والسكر على جناح السرعة.

هل يتعلق الأمر في هذه الأمثلة الأربعة بنفس الشباب، بنفس “روح التمرد”، بنفس الفلسفة و نفس الأهداف؟ من الواضح أن الجواب هو لا. ومن ثم، فإن الأمر لا يتعلق بالشباب متعلما كان أم جاهلا، عالما أم أميا، مثقف أو غير مثقف، بل يتعلق بالتجانس الفكري والثقافي واللغوي والسوسيولوجي وحتى العرقي للشعب الجزائري. في عامي 1988 و 2011، نجد تفسير الاضطرابات في العوامل الاجتماعية والاقتصادية، لكن فكرتي الدولة الإسلامية (1992) والأمازيغية (2001) لا يجمعهما شيء و تختلفان كليّة تقريبا. هذا و أضيف هنا بأن هاتين القضيتين كانتا موجودتين قبل اندلاع ثورة 1 نوفمبر 1954، لكنهما وضعتا بين قوسين فقط أثناء حرب التحرير ثم في إطار الحزب الواحد، قبل أن تعودان إلى الظهور مرة أخرى في أواخر السبعينيات.

إي تحليل يتجاهل هذه الحقيقة الأساسية أو يحاول كما فعلت السلطة الجزائرية منذ الاستقلال تقنيعها يعتبر فاقدا للقيمة ولا يصلح لشيء. فهذا التنوع العرقي واللغوي والثقافي هو الأساس الذي ينبغي أن نبني أسس الجزائر الجديدة عليه، فالنظام الأحادي القديم قد أدى بنا إلى طريق مسدود ولن يسمح بأي حل دائم في المستقبل. يجب علينا أن نخرج من المأزق الحالي من قمة الهرم، ثم العمل على إيجاد السبل التي تمكّن جميع الحساسيات و الأطياف من الجزائريين من العيش مرتاحين و في سلام في بلادهم، في ظل دولة ضامنة، فعالة، منظمة، حديثة، ديمقراطية واجتماعية.

 

  • يعرب الشباب الجزائري عن استيائه في كل فرصة: في الملاعب، وفي الشبكات الاجتماعية، ومؤخرا عبر المقاطعة الشاملة للانتخابات التشريعية الأخيرة. أليس الوعي الجماعي موجود بصفة واضحة؟ كيف يمكن توجيهه و تنظيمه؟

 

أنتم تسيئون فهم معنى هذه التفاعلات التي لا تثبت وجود الوعي الجماعي ولكنها تثبت عكسه تماما. ما ترونه استياء من خلال الإشارة إلى العنف في الملاعب ما هو في الواقع إلا مظهرا من روح العدمية. أما بالنسبة للمقاطعة الانتخابية فأرى فيه عدم اكتراث بالمصلحة العامة، وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه الشؤون الاجتماعية والسياسية، واستسلام أمام الواجب الجماعي و تهربا من الضمير الجماعي. هذه كلها أشياء تعزز الاستبداد وتسمح له بأن يفعل بنا ما يريد.

فكرة “السخط” Indignation التي نشرها ستيفان هيسيل في كتابه الصغير الشهير الذي أثر في العالم ليس لها نفس الصدى في كل مكان، وبالأخص في بلد مثل الجزائر التي تحكم فيها عاطفيا فلسفة اجتماعية من الطراز الشعبوي و العدمي، تختلط بشعائرية دينية بمستوى ثقافة الشارع، تمكنتا من ضفر جهودهما الخبيثة لتفرز إنسانا منفصلا عن مسيرة العالم، يهيم تائها في صحراء ثقافية وسياسية.

عندما كنت بصدد الإجابة على سؤالك، طلبت من شخص متمكن في اللغة العربية أن يعطيني الترجمات الممكنة باللغة العربية لكلمة Indignation، فأعطاني كلمات “غظب”، “انتفاضة أخلاقية”، “إستنكار”، “رفض”، “تنديد” … و هنا نرى جليا بأن هناك مشكلة و فجوة كبيرتين، فهذه الكلمات تعبر عن شعور مقارب، ولكنه غير قادر على التعبير عن المعنى الدقيق الذي أراده هيسل في ! Indignez vous

ثم واصلت في دفع مترجمي إلى حدوده وطلبت منه أن يترجم كلمة: Dignité، فأجاب ب “كرامة”، “شرف”، “عزّة”. و هي كلها كلمات تشير إلى شعور داخلي فردي وأحاسيس شخصية، في حين الاستياء الذي يسعى ستيفان هيسيل لإثارته يدعو إلى الشعور الجماعي، و الحساسية المشتركة؛ فهو موجه إلى “نحن” المشترك وليس إلى “أنا” كل فرد. إنه مرادف “للحس المشترك” (Common Sens) الذي دعا توماس باين إليه أميركيي القرن ال 18 في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، لتحرير أنفسهم من الاستبداد البريطاني.

هذا هو بالضبط ما ينقص الجزائريين الذين عاشوا “جنبا إلى جنب” طيلة آلاف السنين، لكنهم نادرا جدا ما عاشوا “مع” بعضهم البعض، و هذا هو مما تسبب في تاريخهم المعذب واستعمارهم المتكرر. كانوا دائما يفتقرون إلى حس مشترك، ونظرة مشتركة لأنفسهم والعالم، ولشعور بأنهم عبارة عن “نحن” لا يتشتت، و لإدراكهم قيمة هذا الشعور و مقاصده

في ثقافتهم، كل شيء يخضع للمنظور الديني المستمد ليس من القرآن أو من سنة النبي ولكن من “العلم القديم”. و ما تسمونه “Révolte” يقابله في اللغة العربية المتشبعة بهذا المنظور كلمة “العصيان”، التي أول من يتبادر إلى الذهن عندما نستخدمها هو الدلالة الدينية ذات النبرة السلبية التي تحملها، إذ تبدو و كأنها تدل على شيء “حرام”، بدلا من أن تدل على حافز للوصول إلى الأفضل، إلى الديمقراطية أو والحرية …

ليس هناك في الثقافة الإسلامية النابعة من المعرفة الدينية القديمة شيء يشجع على صياغة دستور سياسي (و تتذكرون حتما شعار “لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول”) ؛ أو يهدف إلى مواجهة الاستبداد. فلا يجوز الخروج عن طاعة الحاكم إلا في حالة واحدة: إذا خالف مباشرة تعاليم الشرع الديني. ولكن الثقافة الإسلامية في سوادها الأعظم لا تستوحي فقط من القرآن أو سنة الرسول، وإنما 90٪ منها مصدره “العلم القديم” الذي تشكل مع الوقت وفقا لتوجهات الحكام المستبدين الذين توالوا في التاريخ الإسلامي منذ عهد معاوية تقريبا دون استثناء. هذا ما يفسر لنا لماذا يرمي مجرد رسم كاريكاتوري للرسول بالناس في الشارع بمئات الآلاف و هم على استعداد تام للقتل من أجله، ولكن اغتصاب الدستور، أو انقلابا عسكريا أو حكم الاستبداد أو الفساد، أو الرئاسة مدى الحياة، أو تزوير الانتخابات لا يحرك شعرة على رؤوسهم …

 

  • لعل الاستياء الذي يعبر عن هذا الشعور بالضيق، هذا الجمود لم يعثر بعد في بلدنا على شخصية أو قائد ليتسنى له أن يتحول إلى حركة عامة؟ هل تتصورون تجسيد هذه الشخصية؟ هل لديكم الطموح في ذلك؟

 

كان من بين الدروس الأساسية التي تعلمتها من مالك بن نبي بين 1969 و 1973 (تاريخ وفاته) هو ذلك الذي يبين الفرق الموجود، سواء في التعريف أو في الوظيفة، بين عالم الأشياء و عالم الأشخاص و عالم الأفكار.

الجزائريون يحبون إتباع “الشيوخ” و “الزعماء” و “المرابطين” و ، كما هو عليه الحال اليوم، المشعوذين أو “الرقاة”. هذا هو ما ضيّعهم و ما سيقضي عليهم في المستقبل. فبالنسبة لهم، في لاوعيهم يجب على الأفكار أن تتجسد من قبل بعض الأشخاص الذين يجب عليهم تقليدهم و طاعتهم على الإصبع والعين. هذه الأفكار تعتبر ملكا لأصحابها وهم ليسوا أكثر من مجرد منفذين. نرى هنا أيضا مدى تأثير المنظور الديني في تركيبتهم الفكرية، فما هو مقدس مبجل باطني وغامض وحده له قيمة عندهم، بينما الحقيقة أنه لن يستطيع  إلا العقلاني، المنهجي، الموضوعي، القابل للقياس و للتكرار، أن يخدم مصالحهم و يحقق تقدمهم في التاريخ.

. كانت شخصية جحا الأسطورية هي أول من اكتشف هذه الثغرة في الروح الجزائرية، و لم يتوقف هذا الأخير منذ ذلك الحين عن استغلالها  على مر القرون حاملا اسما أو آخر، و متقمصا مظهرا دينيا أو سياسيا، للاستفادة من هذا المنبع الذي يتجدد و لا ينضب من الخرافات و الحيل الشيطانية التي تمكنه من العيش على ظهر الجزائريين الفقراء منذ القديم و حتى يومنا هذا، مع الشكر الأبدي والامتنان العميق للمغفلين، للضحايا و “للغاشي”.

المؤكد أني آخر من يطمح إلى تقمص شخصية “الزعيم” أو الرجل المنتظر، ليتمكن من استغفال مواطني بلاده. فإنا أتحدث لهم عن الأفكار التي أحاول أن أميز بين الصالح منها و الفاسد (مثل الإسلاموية)، وأواصل منذ نصف قرن العمل على تقديمها إليهم في منزلهم من خلال كتاباتي وبعض ما فهمته من الأفكار، على أمل أن يستفيدوا بها ليصلوا إلى رتبة أمة مسالمة مستقرة ومتقدمة …

كون كتاباتي تثير الاهتمام فأنا لا أطمح في أفضل من ذلك، ولكن ما أطلب من مواطني بلدي هو أن يتبنوا الصالح منها و يعملوا على جعله يتكيف مع الحالة الجزائرية، ثم أن يسعوا لتجسيدها و جعلها حقائق اجتماعية وسياسية ملموسة. شخصي لا يهم  فليس هو الهدف ولكنه مجرد وسيلة أو أداة أو محرك. يمكنني أن أساعد وأعتقد أني قد فعلت ذلك إلى حد كبير حتى الآن، وأنا على استعداد للاستمرار حتى آخر نفس لي. هذا ما كنت أفعله دون انقطاع منذ عام 1970، وسأستمر في القيام به على أمل أن أترك شيء مفيدا بعدي….بلا مزية!

 

  • هل ظاهرة الحرقة (ضرب من الانتحار) هي آخر أنواع الثورة عند الشباب الجزائري؟ وخلافا لما قد يعتقد المرء، أليست هذه الظاهرة تعبيرا عن حب عميق للبلد وسكانه؟ فالحراقة يقولون: “أفضل أن أحرق الحدود وأخاطر بحياتي على أن أحرق البلاد، مثلما احترقت ليبيا أو سوريا”؟ هل توافقون على هذا التحليل؟

 

أنتم تستمرون في تعريفكم و أنا أصر على تعريفي: “فالحرقة”، أفضل من أي مثال آخر  ليست عملا ثوريا ولكنها أفضل تجسيد لفكرة الهرب. فنحن نغادر البلد الذي لم نتمكن من العيش فيه، و نتركه لأنه لا توجد به الحياة و لا العمل، و لا يوجد حاضر و لا مستقبل. بطبيعة الحال ليس “الحراقة” من يُلام ولكن قادة البلاد الذين جعلوها جنة لهم وجحيما على الآخرين، خاصة في وسط الأجيال الجديدة التي تشعر من بين ما تشعر به بأنها تدرس دون فائدة.

عندما تصبح الجزائر دولة حقيقية وشفافة، ويهدف دستورها إلى خدمة مصالح مواطنيها وليس مصالح قادتها فقط، عندما يقودها رجال مختصون و نظيفون، وتصبح متفتحة على كافة أبنائها أينما وجدوا في العالم؛ عند ذلك الحين لن يكون هناك “حراقة”، بل أولئك الذين غادروا هم من سوف يشرعون في العودة.

 

  • عندما يحين اليوم المشؤوم الذي ستفلس فيه البلاد، لن يبالي الناس بالمشاكل أخلاقية أو بثورة مواطنة سلمية، فالضرورة الملحة ستكون للبقاء على قيد الحياة وبأي ثمن؟ ألا يجب علينا أن نعمل بسرعة حتى لا تتجه الأمور إلى عنف.

 

نعم، أنتم على حق و اليوم المشئوم قادم. فقد صرنا اليوم نطبع الأوراق النقدية، و نصنع “قانونيا” أموال مزورة لنتمكن من دفع أجور الموظفين أوالنواب. إذا لم يكن هذا إفلاسا فما هو إذا؟ نحن اليوم في صورة ضحية الغول التي تسأل الآخر الذي يترقب من نافذته إن كان يعرف هل وصل الوحش أم لا. أنت وأنا على النافذة نترقب و نستطيع أن نرى الإعصار و هو قادم. كم سيستغرق من الوقت ليصل؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي يستحق أن نفكر فيه. يجب أن نعد أنفسنا لمواجهة الصدمة ومقاومتها، وللبقاء على قيد الحياة بعده وإعادة بناء ما سيدمره.

المبادرة التي أطلقتها ليست ملكي فهي تهمكم بقدر ما تهمني. كما هي من شأن كل جزائري يعير اهتماما لمستقبل بلاده. سأواصل من جانبي تطويرها كما أعلنت ذلك، و أستمر في جمع التعليقات والمقترحات لإثرائها. يجب أن تصبح من شأن أكبر عدد ممكن من الجزائريين، وسيتم تحديد محتواها البرنامجي والتنظيمي خطوة بعد .خطوة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى