الجزائرالرئيسيةسلايدر

بوكروح: لو كان حكم بوتفليقة راشدا لما كنا اليوم مضطرين لندفع مرتبات الموظفين ومكافآت النواب بالعملة المزورة

الجزء الثالث: حكم بوتفليقة

بعد 18 سنة من حكمه، ما هي المحصلة التي يمكن أن نضعها لرئاسة بوتفليقة؟ مؤيدوه يتحدثون عن حكم راشد. هل تشاطرونهم الرأي؟
للإجابة بحياد على سؤالك، و ليكون الجواب أكثر فائدة للقراء، أود أن نفكر معا لبعض اللحظات في محصلة الفترات الرئاسية التي تركت بصماتها بشكل بارز في تاريخ الجزائر و التي تنحصر أساسا في اثنتان منها، هما فترة بومدين و فترة الشاذلي. إذ أنّ عهدات بن بلة وبوضياف وكافي كانت خاطفة، بينما ضلت عهدة زروال (من فبراير 1994 إلى أفريل 1999) انتقالية قبل أن تنتهي بالاستقالة.
تبلغ الجزائر المستقلة من العمر 55 عاما، و عندما نجمع عهدات بومدين (ثلاثة عشر سنة) والشاذلي (ثلاثة عشر سنة) وبوتفليقة (سبعة عشر سنة ونصف) فإننا نغطي أربعة أخماس من هذا العمر. و عندما نبحث عن القاسم المشترك لهذه الفترات الثلاث فإننا نكتشف بأن تاريخ الجزائر، و باستثناء الجزء الخارج عن العهدات الثلاثة و الذي يمثل “العشرية السوداء” أو بالأحرى الحمراء بلون الدم ؛ هو في الواقع تاريخ نفطها. و هذا صحيح على وجه أخص في فترة ما بعد أكتوبر 1973 الذي شهد ارتفاع سعر البرميل من دولار واحد إلى أربعة في غضون أسابيع قليلة، نتيجة لآخر الحروب العربية-الإسرائيلية.
منذ ذلك التاريخ إلى غاية يومنا هذا، ارتبطت كل أفراحنا أو أحزاننا، و لحظات راحتنا أو قلقنا، و إنجازاتنا أو ما لم نكمله، بتقلبات سوق الطاقة، و بارتفاع أو انخفاض نسبة احتياج البلدان المستهلكة إليه، و إلى قرارات منظمة أوبك والدول المصدرة خارجها، و بحصة الضريبة على المحروقات في تمويل ميزانية الدولة الخ….
ولذلك فإن تاريخ الجزائر المستقلة ليس تاريخ أفكارها وعبقريتها، ونخبها وقادتها، ورجالها وشعبها ولكن هو بكل بساطة تاريخ بيعها للنفط مقابل العملة الصعبة و وسائل الدفع الداخلية والخارجية. إذا استثنينا ما أتى وسمح به النفط، فإننا لم نفعل أي شيء يشرفنا، أو يمكننا الاعتماد عليه لضمان بقاءنا على قيد الحياة في التاريخ، و لو بحياة بيولوجية بحتة.
الشيء الذي لا يصدق، و أكثر ما في القضية من عار هو أننا لم تنشأ بأموال النفط المتهاطلة أية ثروة اجتماعية أو فكرية أو زراعية أو صناعية. كل ما فعلناه هو استهلاكه و تبذيره، و السماح من أعلى إلى أسفل سلمي الدولة و المجتمع باختلاس بعض منه. دعونا ننظر وراءنا: كما يقول مثل جزائري، ” مّر الجمل و لم يترك ورائه إلا فضلاته”.
أفكار “الثورة الزراعية والصناعية والثقافية” لم تعمر طويلا وتركت عند وفاة بومدين ديون خارجية تبلغ أربعة عشر مليار دولار لأربعة عشر مليون نسمة. أمّا شعارات الشاذلي “من أجل حياة أفضل” و “الرجل المناسب في المكان المناسب”، فأدت بنا مباشرة إلى أكتوبر 1988، و تركت لنا أيضا دينا خارجيا قدره 24 مليار دولار، لأربعة و عشرين مليون نسمة، كما شهدت الدولة التي كان يفترض أن “تبقي بمرور الأحداث والرجال” و هي تنهار مثل “قوربي” فوضوي حيث لم يبق في نهايتها رئيس للجمهورية ولا برلمان و لا مجالس بلدية أو ولائية … لا شيء باستثناء الجيش وأجهزة الأمن.
تلت ذلك عشرية من “طاق على من طاق” في جميع المستويات، انتهت بقرار الطرف المنتصر فيها أي الجيش وأجهزة الأمن التي كانت الحاكم الفعلي للبلاد، و بمثابة الإعلان عن ابتداء عهد جديد، بأن أفضل ما يمكنه فعله هو أن يضع على رأسه رجلا كان بين 1957 و 1979 أحد رجال السلطة البارزين، لا يفقه شيئا في الاقتصاد ، لا يؤمن بالديمقراطية، لا يثق بأحد عدا أخوته و أبناء جهته، و لن يغادر السلطة طالما لم يغادر الحياة.
السنوات الثماني عشرة التي قضاها هذا الرجل على رأس السلطة تزامنت مع فترة بحبوحة مالية تجاوزَ سعر النفط في بعضها 130 دولارا للبرميل. سأكتفي بالحكم على عهدته من خلال مؤشر واحد فقط: لو كانت فعلا فترة من “الحكم الراشد”، بمعنى الحذَر و بعد النّظر، لما كنا اليوم مضطرين لندفع مرتبات الموظفين ومكافآت النواب بالعملة المزورة. كل ما وعد به الرجل، و كل ما لمسه يصنفان في خانة البريكولاج، أو بالتعبير الذي يحبه، سياسة “قش بختة” .
أقترح عليكم أن تطرحوا السؤال بصيغة مختلفة: كيف ستكون الجزائر اليوم لو كان قد قادها رجل آخر غير بوتفليقة، و بين يديه 800 مليار دولار التي دخلت الجزائر في فترته؟ رجل من جيل الاستقلال، ترعرع خارج عقلية النظام، و رجل عقلاني و ملمّ بالقضايا الاقتصادية … لم يكن تاريخ الجزائر ليكتب حسب لعبة اليويو التي تلعبها أسعار النفط، بل كان سيكتب من قبل رجالها وأفكارها ومواردها الطبيعية الأخرى.
أي نوع من الرجال هو بوتفليقة، و ما هي طريقته في الحكم؟
مثله مثل كل رجل آخر، بوتفليقة هو نتاج تاريخه الشخصي ومسيرته. لقد ولد وترعرع في المغرب تحت نظام ملكي مطلق. لا نعرف الظروف التي التحق فيها بالثورة الجزائرية ولكن الأكيد أنه في كل مرة كان يظهر أو يرد اسمه فيها، فإن ذلك كان داخل محيط بومدين، و هو رجل تكتسي مسيرته هي الأخرى نفس غموض مسيرة الأول. بعد الاستقلال أصبح وزيرا و هو لا يتجاوز سن ال 26 دون أن يكون قد مارس عملا مختلفا أو اكتسب خبرة في أي مجال آخر. لم يكن الوحيد على هذا الحال فلا واحد تقريبا من أولئك الذين استولوا على السلطة بالقوة والحيلة غداة الاستقلال كان قد مارس عملا آخر في السابق.
بومدين، بن بلة، بوتفليقة و الكثير من غيرهم لم يمارسوا من قبل أي مهنة أو وظيفة في التسيير أو الإدارة بإمكانها أن تؤهلهم لقيادة بلاد. كل ما كانوا يدّعون به هي صفة “الثوار” أو “المجاهدين”؛ و هي صفات لا تتطلب شهادة أو خبرة أو دلائل. أما أولئك الذين كانوا يحملون من المستوى الفكري و الخبرة السياسية ما يؤهلهم لأن يصبحوا “رجال دولة” فإمّا قتلوا أو سجنوا أو أجبروا على المنفى في الخارج أو الداخل. في آخر الأمر، اتّضح بأن “حب البلد” المزعوم عند الذين استولوا على الدولة من أنواع جحا المختلفة هذه و أخرى كان أكثر تدميرا للوطن من كونه بنّاءا له.
عملية تحرير بلد هي شيء مختلف عن عملية إدارته. فللنجاح في بناء دولة و مجتمع و اقتصاد، يجب أن يكون هناك شعب متعلم ومنظم، ونخبة اجتماعية و أصحاب رؤية يمكنهم قيادة المسيرة العامة. و كان عدد من هؤلاء موجودا في وقت الثورة ولكنهم استبعدوا قبل وبعد الاستقلال.
شخص مثل رضا مالك هو من كان في مفاوضات ايفيان، لكن شخصا مثل بوتفليقة هو الذي أصبح وزيرا للخارجية من 1963 حتى وفاة بومدين. فرحات عباس كان في مكانه على رأس الحكومة في وقت الثورة ليقف الند للند مع ديغول، ولكن بن بلة، بومدين و الشاذلي الذين يبعدون كل البعد عن مستواه و ذكائه و نزاهته و مسيرته، هم من أصبحوا قادة للدولة. في حين كان هو أسدا إبان الاستعمار، قاموا بحبسه في قفص و بإجباره عبر أخبث الوسائل على الصمت منذ الاستقلال حتى وفاته في ديسمبر 1985.
لقد “حكم” بوتفليقة مثلما “حكم” بن بلة، بومدين والشاذلي من ناحية الاستحواذ على أغلب السلطات، ولكنه زاد الطين بلّة فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية و مراعاة المصلحة العامة. فقد جعل من الجهوية نظاما وتسامح مع الفساد و شجعه، و أفقد المؤسسات قيمتها و هيبتها، وداس على الدستور، و بدد ثروة مالية لن تعود أبدا في المستقبل. كذلك تعمّد تفويت الفرصة لتطوير اقتصاد البلاد وخلق دولة القانون وتطوير الذهنيات، فهو ليس برجل دولة وإنما هو رجل سلطة.
لقد “حكم” من خلال التحلّي بأقصى قدر من اليقظة تجاه كل ما يسمح له بالاحتفاظ بالسلطة، و أكبر قدر من الشك تجاه كل ما قد يعرضه لخطر مغادرتها. فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية كان يتخذ القرارات و هو يحمل في يمينه خريطة لجغرافيا الذهنية الجزائرية، وفي يساره الأرقام المتعلقة بسعر برميل البرنت واحتياطي الصرف. هذه هي التي كانت أدواته للملاحة وليس للحكم، و كانت البوصلة و الوسيلة ليتمكن من الاحتفاظ بحرية المناورة حتى يرث الله روحه. هو بالغريزة يعرف كيف يجب أن يفعل ليطيل عمره في السلطة، وكيف يضحي بالمدى الطويل لصالح المدى القصير، وكيف يفضّل ما هو محبوب على ما لا يعجب مهما كانت تكلفته، فالمهم فقط هو أن لا يفقد منصبه. هذا هو معياره للتمييز بين “الحلال” و “الحرام”.
تساءل الكثيرون عن أسباب وجودكم في حكومته بين عامي 1999 و 2005؟
نعم، أنا أعرف ذلك فالقراء وأصدقائي في صفحة الفيسبوك لم يتوقفوا باستمرار خلال السنوات الأخيرة عن سؤالي حول دخولي إلى الحكومة، و لومي على التخلي عن حزبي، و تناقضي مع أفكاري ومبادئي، حتى استنتجوا بأني اليوم فقدت مصداقيتي. بعضهم كان يفعل ذلك بعفوية، و أحيانا دون أن يدركوا بأنهم يساهمون دون قصد في نشر شائعات وأكاذيب عنّي. ولكن هناك أيضا بعض من يفعلون ذلك عن قصد من أجل المساس بمصداقيتي و تشويه سمعتي، بهدف منع أفكاري من الانتشار إلى على نطاق واسع.
أعتقد أنه لم يوجد رجل سياسي آخر تعرض لهذا الحد من الانتقادات بسبب دخوله الحكومة. و لا حتى أولئك الذين أمضوا حياتهم المهنية كلها في خدمة “النظام” (حمروش، غزالي، بن بيتور، بن فليس، طالب أحمد، الخ)، أو أولئك الذين كانوا من أول إلى آخر يوم من حياتهم السياسية بيادق له (مثل سعيد سعدي حسب الشهادات التلفزيونية لمقران آيت العربي ونور الدين آيت حمودة).
حمروش وصف نفسه عدة مرات ب “ابن النظام” و غزالي صرح في مقابلة صحفية خلفت صدى كبير بأنه “حركي للنظام”، و لكن أنا من يثقل بالتهم و يراد تصويره بأنه “أب النظام”. جميع الأحزاب التي كانت موجودة على الساحة السياسية في التسعينيات والألفينات سجلت في وقت أو آخر حضورها في الحكومة (الفيس، الأفافاس، الأرندي، الأرسيدي، حمس، النهظة، حزب التجديد، التحالف الوطني الجمهوري)، و كذلك فعلت جميع “الشخصيات الوطنية”. مع ذلك لم أر أيا منهم يتابع بهذه التهمة بنفس القدر من الإصرار الذي يتبعني أنا… اللهم إذا كان السبب هو كون كل الآخرين ليس لديهم أي “مصداقية”، وهو ما يصبح في هذه الحالة في صالحي. لكني رغم هذا لن أصل إلى حد شكر الذين يستهجنوني.
إنني مذهول من أنّ لا أحد رأى في دخولي الحكومة أي شيء إيجابي، فالجميع يصر على أنه لا يمكن أن يدل إلّا على شرّ. مع أني زرعت ما يكفي من الإشارات لأدل من تهمّهُ المسألة على التفكير من خلال تتبع خيط المعلومات: مثل كوني عارضت ترشح بوتفليقة في 98/99؛ أو كوني لم ألتق به رغم إصراره ؛ أو بأني أرسلت إليه رسالة في اليوم الذي أدّى فيه اليمين الدستوري، حذرته فيها من شر نفسه (نشرت عام 2014 باللغتين و هي موجودة على صفحتي بالفيسبوك)؛ أو كوني أيّدت في 2004 موقف إدارة حزب التجديد بمساندة ترشح بن فليس…الخ
لماذا كنت مترددا في الحديث عن الموضوع حتى الآن؟ لأن حقيقته لا تعني شخصي فقط، و كان من الصعب إذا أن أجد الطريق الوسط بين ما يمكن أن أقوله، و بين الحفاظ على الاحترام الذي أدين به للدولة الجزائرية التي خدمتها بحسن نية وصدق و كرامة .
لا أدري إن كان السيد سيد أحمد غزالي يرغب في تذكر لقاء دعاني إليه في بيته عام 1998. كانت الإشاعات عن ترشح بوتفليقة قد بدأت تنتشر، و كان هو قد تحدث لتوه في هذا الموضوع مع الجنرال توفيق خلال مقابلة معه. يومها أخبرني بأنه قال للجنرال بأن الجيش ” إذا ما اختار بوكروح فإنه سيوافق على العمل معه ولكن ليس مع بوتفليقة”.
لقد قاومت بقدر ما استطعت اختيار بوتفليقة من قبل أولئك الذين كانوا يلقبون ب “صناع القرار”. و هؤلاء الذين عرضوا عليه تولي الرئاسة هم نفسهم الذين عرضوا عليّ بعد ثمانية أشهر من انتخابه الالتحاق بالحكومة، لمصلحة البلاد، من أجل المساعدة في وضع الإصلاحات التي كان يعد بها علنا (الدولة، التعليم، العدالة، الاقتصاد، المشاركة في المؤسسات الاقتصادية الدولية)، و ذلك لأن تحقيق كل هذا كان يتطلب مساهمة “رجال دولة” من الجيل الجديد.
قبل ذلك كنت قد تركت رسميا رئاسة الحزب و ذلك منذ شهر ماي 1999 بعد أن أبلغت المكتب والمجلس الوطنيين بذلك، و المحضر الرسمي المجسد للخلافة يشهد بذلك، كما ترسّم هذا القرار خلال مؤتمر الحزب بالشراقة. بينما مسألة دخولي الحكومة لم تطرح إلا في نهاية شهر ديسمبر 1999. و كنت وقتها قد عدت إلى أنشطتي في القطاع الخاص و لا أنوي أن أعود إلى السياسة مجددا.
و في الواقع فإن انسحابي من الحياة السياسية و الحزبية بدأ قبل ذلك، في جوان 1997، بعد التزوير الانتخابي الكبير الذي فبركته السلطة لصالح الأرندي. و في ماي 1998 قمت بنشر سلسلة من المقالات أندد فيها بتصويت البرلمان على قانون يجيز له تحديد رواتب النواب، و بتنازل الدولة عن فيلات موريتي لبعض المسئولين بثمن رمزي، و بتلاعبات الجنرال بتشين .
يمكن لحمروش الذي لا يزال حيا أن يشهد بأنه كان بإمكاني أن أدخل الحكومة منذ عام 1989. فما أن تم تعيينه رئيسا للحكومة في سبتمبر 1989، وقبل أن تشكّل حكومته؛ حتى دعاني إلى اجتماع في قصر الحكومة استمر لسبعة ساعات فعل خلالها كل شيء لإدماجي في فريقه الحكومي، و من البديهي أن ذلك لم يتم إلا بتعليمات من الرئيس الشاذلي. لم أحظر هذا الاجتماع بمفردي، والشاهد الذي رافقني إليه كان عضوا في قيادة حزبي و هو لا يزال حيا. و عندما سألني حمروش خلال الاجتماع “ماذا يمكننا أن نفعل معا؟ كان جوابي أن أشرت بإصبعي إلى صورة الشاذلي الرسمية المعلقة على الحائط قائلا: ” أن نجعل هذا الرجل يذهب !”
بن بيتور من ديسمبر 1999 إلى أوت 2000، وبن فليس من عام 1999 إلى غاية مغادرته الحكومة، يمكن أن يشهدا على سلوكي تجاه بوتفليقة أو رجاله خلال اجتماعات مجلس الحكومة ومجلس الوزراء. بن فليس قال لي عدة مرات خلال فترة ممارسته لوظيفته وبعدها بأنه سوف يشهد أنه “لم يتح له أبدا أن يرى رجلا يواجه الرئيس بوتفليقة بالشجاعة التي واجهه بها بوكروح”، و الرجلان لا زالا على قيد الحياة. كذلك يمكن لبن فليس أن يشهد على تقديم استقالتي من الحكومة في عام 2002، و على الظروف التي أدت بي لسحبها.
ترجمة: بوكروح وليد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى