بين الفكر والسياسةثقافة

  تغيير تصورنا لذواتنا: أصول ووجهة الجزائر

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان 

هناك تساؤلات لا تتوقف لسعاتُها حتى يجد لها العقل الراجح جواباً شافياً. والتساؤل عن الأصول يُعدّ من بين تلك التساؤلات. فنحن نميل إلى كبت هذا التساؤل تحت وطأة التخوّف، لكنه يعود في كلّ مرّة ليطفو على السطح و يفرض نفسه كأحد الانشغالات الثقافية الأساسية، ولسان حاله يقول: مَنْ نكون؟

“إنّ الشعوب ليست وحدات لسانية أو سياسية أو زولوجية، لكنّها وحدات ذهنية. فالشعب هو وحدة الروح. وأكبر أحداث التاريخ ليست في كنهها من تدبير الشعوب، بل إنها هي التي أنتجت تلك الشعوب. فليست وحدة اللّسان ولا وحدة العرق بالعوامل المصيرية في تشكيل الشعب. وإنّ ما يُميّز مفهوم الشعب عن مفهوم الجماعة البشرية المُقيمة في مكان مُحدد هو، وفي جميع الحالات، ظهور الضمير الجمعي. فكُلّما كان هذا الضمير مُتجذّراً ازدادت قوّة اللحمة الحيوية في الجماعة”  شبنجلر(Spengler). هذا التعريف الذي يُعدّ مِنْ بين أحسن وأصحّ التعريفات التي وُضِعتْ لمفهوم “الشعب” يطرح علينا خطّةً يُستحسن اتّباعها في رحلة بحثنا عن أصولنا. وينبغي، بدءا،ً استبعادُ المنهج الأنثروبولوجي، وتبنّي البديل الأمثل الذي هو البحث في مدى اندماجنا السياسي، وفي مدى ظهور “الارتقاء الداخلي” للضمير الجمعي لدينا، وفي مدى إحساسنا بأننا نُمثّل كياناً مُنْسجماً.

وفعلاً ! ماذا ينفعنا اليوم أنْ نعرف أنّنا ننتمي لهذا الجنس أو ذاك، وأنّنا نعود في أصولنا إلى إنسان “مشتة العربي” أو إلى إنسان “كرومانيون”(Cromagnon)ـ إذ هناك اعتقاد بأن بعضنا ذو أصول جرمانية ـ ، وأننا ننتمي إلى فخذ من أفخاذ هذا الجنس أو ذاك من الأجناس البشرية؟ أمّا الأبحاث التي حاولت الوقوف على أصولنا إلى حدّ الآن فقدْ وصلت إلى هذه النتيجة: لا وجود لجنس بشريّ بربريّ، لكنّ هناك أصنافاً بربريّة، كما أنه ليس هناك لغة بربرية، بل هناك لهجات بربريّة.

ولقد تمكّن فقه اللغة القديم من إثبات أنّ هناك ما لا يقِلّ عن 1200 لهجة محلّية مُنتمية إلى إحدى المجموعات البربرية الثلاثة الكبرى، وهي: مجموعة زناتة، ومجموعة صنهاجة، ومجموعة مصمودة. إنّ هذه اللهجات التي تُسمى باللغة اللّيبيّة كانت تنتمي إلى أسرة لغويّة مُنقرضة ومُصنّفة تحت اسم الأسرة الأفروآسيوية المنحدرة من “شام” والمُسمّاة “بروتوسامية”، والتي تنحدر بدورها من اللغة المصرية القديمة، شأنها شأن اللغة القبطيّة. ونحن نجد في تلك اللهجات كلمات فينيقيّة ولاتينية وعربيّة. وللتذكير فإننّا، وحتى مجيء الإسلام ودخول اللغة العربية، لم نكن نستعمل إلاّ لغة المُستعمر في كتاباتنا. فكلّ الأعلام الذين يمكن اعتبارهم مُمثّلين للهوية البربرية كانت اللغة اللاّتينية هي اللغة التي استعملوها في كتاباتهم، ومنهم: أبولو المادوري(Apulée de Madaure)، فرونتون (Fronton de Cirta)، أوبتات(Optat de Milev)، ترتليان(Tertullien)… إلخ.

وإذا كان من المُثْبَتِ أنّ الشعبَ المُستعمَر يميل دوماً إلى تبنّي أساليب حياة القوة المُستعمِرة وفكرَها، فمن المُهمّ معرفة الطريقة التي يحدث بها العكس، أي الحالة التي يكون فيها تأثير الشعب المُستعمَر على القوة المُحتلّة قوياًّ إلى درجة أن هذه الأخيرة تتخذ ألوانا جديدة في تفكيرها وسائر أحوالها. وإنّ تاريخ المغرب بصورته الرومانية ينتمي إلى هذه الحالة التي كان فيها تأثير القوة المُحتلّة في البداية بشكل شامل، ثُمّ جاءت مرحلة لاحقة يمكن حصرُها بين القرنين 1 و 3 الميلادييْن، إذ برزت فيها براعم وقدرات العبقرية المغربية لتكتسح الوجود اللاتيني الذي كان تحت تهديد عودة الإغريقية بقوة، وتحت صدمة العثرة التي وقعت فيها النخبة المُنهكة في روما…

ولكي نعود إلى موضوع الأصول، أي المسار التاريخي الذي انتهى بنا إلى أن يُطلق علينا اسم “الشعب الجزائري”، فلا بدّ علينا أن نقوم بتلخيص المراحل الرئيسية التي مررنا عليها في تطوُّرِنا حتى صرنا نُشكّل الكيان الاجتماعي الذي يُميِّزُنا اليوم. وحسب ما تدُلّ عليه معرفتنا الحاضرة فإنّ تاريخنا قبل المرحلة الفينيقية مجهولٌ تماماً. وأوّل المؤرخين الذين أشاروا إلى وجودنا هم المؤرخون الإغريق الّذين أطلقوا اسم (ليبيا) على شمال إفريقيا بكل أصقاعها، كما أطلقوا اسم “نوماديس”(Nomadès) على سكانها. ومِن هذه التسمية الإغريقية اشتَقّ الرومان اسم “نوميدو”(Numidoe)، غير أنهم، أي الرومان، كانوا يُفضّلون أنْ يُطلقوا علينا لقباً آخر فيه تعريض وذمّ، وهو”برباروس” (Barbarus) الذي لم يكن يعني غير : الشعب المتوحّش. وهكذا يتبيّن لنا أنّ كلمة “البربر”(berbère) ما هي في الحقيقة إلاّ وصف هجائيّ نُزعتْ منه على مرّ العصور كلّ المثالب التي كان يعنيها، وذلك ابتداءً من عصر ابن خلدون، لكن هذا الوصف بقي مُلازماً لنا لعدم ظهور أي اسم مُميّزٍ آخر. فلا بُدّ علينا أن نُقِرّ بهذه الحقيقة رغم أنها تمسّ بعزة أنفسنا وبكرامتنا الوطنية.

أمّا عن “بلاد البربر”(Berbérie) فكان يُقصَدُ بها كامل المربع الممتد بين البحر المتوسط شمالاً والصحراء جنوباً، أي كلّ من المغرب والجزائر وتونس وليبيا وبعض المناطق من مصر، علماً بأنّ هذه الدّول لن تظهر إلاّ في وقت مُتأخر كنتيجة للتقسيم الموروث عن العهد الاستعماريّ.

وتُعدّ المرحلة الممتدّة بين الغزو الفينيقي والفتح الإسلاميّ لبلاد شمال إفريقيا ـ والتي ستتّخذ اسم بلاد المغرب ـ هي أغنى مراحل تاريخنا من حيث الأحداث الكبرى. فهي المرحلة التي شهدت فيها بلادنا ظهور التلاحم والانسجام الاجتماعيين في مواجهة الغزو الرومانيّ. ومنذ بداية الغزو الروماني في أواخر الحرب البونيقية الثالثة إلى سنة 42 قبل الميلاد، وهو تاريخ الاحتلال الروماني لبلادنا بصفة تامة، لم تَرَ روما إلاّ ردود أفعالٍ رافضة من قِبَل سكان شمال إفريقيا. ولقد استمرّتْ ردود الأفعال تلك إلى أنْ انتهى العهد الروماني سنة 430 م.

إنّ الإنسان المغربيّ لم يحدث له أبداً أن تحوّل إلى إنسان رومانيّ، لم يحدث ذلك حتى بعد صدور قانون كركالاّ سنة 212 م والذي يمنح الهوية الوطنية الرومانية لكلّ السكان الأحرار الموجودين داخل الأمبراطورية. ومهما كانت درجة اندماج الإنسان المغربي في الثقافة الرومانية فإنّ لسان حاله كان يقول ما قاله مارك أوريل: ” أنا ليبيّ ابن ليبيين بدويين”، أو ما كتبه أبولي المادوري: “يجبُ ألاّ يُنْظَرَ إلى مكان ميلاد أي شخصٍ، بل إلى سماته، كما يجب ألاّ نأخذ بعين الاعتبار البلد الذي أ مضى فيه حياته، بل المبادئ التي تأسّست عليها حياته تلك”. 

غير أنّ الشعور بالانسجام في المجتمع المغربيّ لم يظهر إلى الوجود إلاّ تحت لواء الإسلام، إذ تحت هذا اللّواء بدأ دخولنا الفعليّ في أغنى مراحل تاريخنا من حيث الأحداث الكبرى ومن حيث الحضور القويّ. فهذا علي الحمامي يُقدّم لنا في رواية “إدريس” صورة مُفصّلة عن حالة أجدادنا قبل دخولهم في الإسلام، إذ يقول: ” كان البربري يعيش على الفطرة التي ظهرت بها أولى الجماعات البشريّة. كانت حياته تحت لواء القبيلة. والبربريّ يتميّز بالروح الفرديّة رغم رضوخه لقوانين الجماعة التي ينتمي إليها، كما كان فوضوياًّ بطبعه وبمزاجه، شغوفاً بالحُرّيّة إلى درجة أنه يُفضّل أخطار الحياة البدائية على العيش الرغيد في كنف المجتمعات المُنظّمة. فالبربريّ قبل ظهور الإسلام كان يعيش بدون نظام وخارج كلّ سُلّم اجتماعيّ. هذا في الجملة بطبيعة الحال. كان مُشركاً ولم يؤمن أبداً بأي شيء إيماناً جاداًّ، كما لم يكن يخشى أيّاً كان. كان إلى حدٍّ ما ذا نزعة طبيعية، يتفرّج في الظواهر المُحيطة به دون أن يُعيرَها أيّ اهتمام، وهو سريع في ردود أفعاله وحذِرٌ إلى أبعد حدّ، ولم تَحْظَ حياته الدينية بأيّ نظامٍ يتوفّر فيه الحدّ الأدنى من الانسجام. ومع أنه كان يُقدّمُ القرابين لبعض الظواهر الطبيعية ويعبدها، فإنّه من الصعب الوقوف على أدلة أركيولوجية ملموسة تُثبِتُ تديّنه وورعه…”.

وهكذا فإنّنا لم نُثبتْ وجودنا ونُبرهن على قدراتنا وحسّنا السياسيّ والاجتماعي بصفة فعلية إلاّ في إطار الإسلام. فبعد أنْ كُنّا في السابق فرساناً أشاوس في الجيوش النوميدية تحت قيادة يوغرطةوحنبعل، تحوّلْنا إلى دعاةٍ نشطين ننشر الدعوة الإسلامية، أو إلى مؤسسين للدول، أو إلى رجال علم، ومُشيّدين لصرح الحضارة. وهكذا خرج من بيننا قادة عسكريون كبار مثل ابن تومرت أو ابن تاشفين أو طارق بن زياد… وأسّسنا ممالك سادت فيها الرفاهية مثل ممالك المُرابطين والمُوحّدين والزناتيين…

أمّا في المجال الفكري فإنّ بلاد المغرب ستُزيّن تاريخ الإسلام بمؤرخين كبار مثل المراكشي، وابن بطوطة، والوزاني، الوفراني وابن طفيل… ولقد تجسد ازدهار العلوم في بلاد المغرب بعدّة إسهامات علمية كبرى، ومثال ذلك ما قام به عالم الرياضيات الجزائري ابن حمزة المغربي الذي يُعدّ مُبتكر المبدإ اللوغاريتمي… فحيث فشلت الديانة الرومانية والديانة المسيحية استطاع الإسلام أن ينتصر، بحيث كان تأثيره فينا بالغاً لأنّه أتانا بما كان ينقصنا، وهو: الوحدة الذاتية والموضوعية. وصحيحٌ أنّ بلاد المغرب لم تسلم من رياح التدهور التي هبّت على بلاد الإسلام بعد عهد ابن خلدون. وهكذا راحت الممالك تتساقط، وجفّ مَعِينُ العلم، وتفككت الوحدة، وصارت أخطار الإمبريالية تُهدد على الأبواب. ولمواجهة هذا الوضع الخطير كان علينا أن نطلب العون من القوة العثمانية التي كانت عاصمتها في إسطنبول (قصر طوبكابي).

وبمجيء الأتراك بدأت المرحلة الثالثة من مراحل تاريخنا الكبرى، وهي مرحلة الإيالات التي ستستمرّ إلى سنة 1830. وكانت نهاية هذه المرحلة بداية لأحلك فترات تاريخنا: إنه الاستعمار الفرنسي الذي جاء ليمحوَ كلَّ شيء، ويُدمِّر كلّ شيء، ويستولي على كلِّ شيءٍ،بل وينسف أهمّ أسس هويتنا ليُحوّلنا إلى “أنديجان” ويُفرِّق صفوفنا. وما “النزعة البربرية”(berbérisme) إلاّ من صُنع ذلك الاستعمار، وهي نزعة هدّامة تهدف إلى اختراق جسد الإسلام في بلاد المغرب كما يخترق السهم الجسد. يقول هنري بوسكي (Henri Bousquet): ” تكاد تكون البربرولوجيا علماً فرنسياًّ صِرْفاً”. وجاء الفاتح من نوفمبر سنة 1954 إيذاناً بنهاية هذا الكابوس الذي دام أزْيَد من قرن، وبذلك تبدأ المرحلة الخامسة من مسيرتنا التاريخية، وهي مرحلة انبعاثنا واسترجاعنا لزمام أمورنا وعودتنا إلى وجهتنا العامة. وكُلّ ما علينا الآن هو أنْ نتفادى التشاكس حول أصولنا وحول مسيرتنا التاريخية وحول بنيتنا الإثنية، أو حول خصوصياتنا المحلّيّة، بل علينا أن نعرف إلى أين نحن مُتّجهون، وأن نعرف ما نريد تحقيقه وما نستطيع تحقيقه.

وللعلم فإنّ النزعة القبَليّة والعشائريّة يتحملان الجزء الأكبر من المسؤولية في دخول الفرنسيين إلى بلادنا. فالمؤرخ الجزائري حمدان خوجة (Hamdan Khodja) الذي كان ممّن شهدوا غزو فرنسا للجزائر ينقل لنا بعض الحقائق في هذا الشّأن من خلال كتبه “المرآة” (Miroir): فهو يذكر أنّ كثيراً من القبائل استسلمتْ للغُزاة لأسباب ذات صلةٍ بالروح القبَليّة(l’esprit tribaliste). وكذلك الشّأن بالنسبة لمقاومة المقراني التي فشلتْ للأسباب نفسها. أمّا أثناء حرب التحرير فكان التعصّب للولاية(wilayisme) ، وكذا النزعة العِرقية (ethnisme) مصدراً لكثير من التعقيدات التي عرقلت مسيرة الثورة، إذ انبرى بعض المسؤولين يتناوشون فيما بينهم ويستنزفون طاقاتهم في مُناوشات بين الإخوة. ولا زالت الروح الجهوية(régionalisme) والمحلّية(localisme) غالبة على المشهد العام في أيامنا داخل المؤسسات وقطاعات مختلف الأنشطة. ولا بُدّ علينا أنْ نتغلّب على هذه العيوب لأنّها من علامات التّأخّر القابعة في أعماقنا وفي لاوعْيِنا الجماعيّ منذ عدّة أَلْفِياتٍ من الزمن. لا بُدّ علينا أنْ نعمل على تسوية خلافاتنا، إنْ كانت هناك خلافات، لا أنْ نؤجِّجَ نيرانها.

وهناك عاملان مُهِمّان حَظِياَ بإجْماع الشعب الجزائريّ، إنهما الإسلام والاشتراكيّة (ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الاشتراكية لم تحظ بالإجماع إلاّ بما تنطوي عليه من روح العدل والمُساواة اللّذيْن يُميِّزان الإسلام). وإذا كان الإسلام هو مصدر ذاتيتنا المشتركة ووحدتنا الذهنية، فإنّ الاشتراكية تصبو إلى تحقيق الوحدة الموضوعية، أي تكافؤ الفرَص وتساوي الحقوق والواجبات. هاتان هما الدّعامتان اللّتان تقوم عليهما هويتنا الجماعية. صحيحٌ أنّ التساؤل عن الأصول شيءٌ مُشرِّفٌ، خاصة إذا كان ذلك بهدف تحمّل تبِعات الماضي. والحال أنّ الماضي ليس سوقا أو بازاراً نأخذ منه ما يُعجبُنا، إنه كلٌّ لا يتجزَّأ، وهو كتلة واحدة، وفيه ما يدعو إلى الاعتزاز كما فيه ما يدعو إلى الشعور بالخجل، فيه أحداث عظيمة وفيه عثرات مُخزية، وفيه أنوار وظلمات، وحقائق ساطعة وجهل فظيع… فلا يحقّ لنا أنْ نختار منه أجزاء ونتخلّى عن أجزاءٍ أخرى.

إنّ عودة المطالب المُتعلّقة بالخصوصيات الجهوية، والتي ينشط بعضنا من أجلها حتى خارج الوطن، وتحظى بدعم بعض الأطراف الفرنسية، وبعض الأطراف العربية ـ وتلك هي المفاجأة ـ  بدافع تحقيق مصالح ما، تلك المطالب ما هي في النهاية إلاّ ردّة فعلٍ ضدّ الاتّجاه الذي يعمل على تقوية قيمنا وشخصيتنا الوطنية. وإذا كان هناك ما يحقّ لنا، كجزائريين، الافتخار به ممّا تمّ إنجازه طيلة مسيرتنا التاريخية، فالأحرى بنا أنْ ننتظر من المستقبل ومن المصير الذي يجمعنا نياشين الشرف والعزّة.

والعربية، وهي اللغة القديمة، لغة علم الجبر والطّب، ولغة الاكتشافات والرسالة القرآنية، هذه اللغة تُواجه اليوم صعوبات جمّة في رفع تحدّيات عصر التكنولوجيا والعولمة. وبفضل المجهودات التي بُذِلت على مدى عدّة عشريات من الزمن في مجالات الترجمة، والتّكييف، والأبحاث، والصراعات السياسيّة، تمكّنت اللغة العربية من اكتساب بُعدٍ دوليّ. وإذا كان لا بُدّ من الاجترار فلنقُلْ إنّ العربية الدارجة ليست هي “اللغة”، فالدارجة تُجسّدُ إسفاف اللغة، وهي ما تبَقّى من اللغة بعد قرونٍ من الأُمّيّةِ سواء أتعلّق الأمرُ بالعربية أم بغيرها من اللغات (فالفرنسية مثل العربية في هذا الشأن). والدارجة هي أدنى الدرجات التي يمكن أن تصل إليها اللغة. فكيف، والحال هذه، يمكن قبول فكرة إحلال الدارجة مكانة لغة “رسمية” أو لغة التعليم؟

والجزائريون، شأنهم شأن معظم شعوب العالم، كان تاريخهم حافلاً بالأحداث الكبرى. لكنهم ليسوا بصدد “البحث عن هوية” ـ وهذا عنوان كتاب في السيرة الذاتية للرئيس العربي أنور السادات ـ فهم يعلمون تمام العلم أنهم أصحاب هوية منذ أمدٍ بعيدٍ. ولكونهم شديدي الغيرة على تاريخهم الذي حاول المؤرخون تشويهه لدوافع مُقْرِفة، فإنّهم كثيراً ما يُصدرون ردود أفعال عنيفة ضدّ بعض الأحكام الجائرة ـ مثل ذلك الحُكم الذي صدر عن ميشال جوبار(Michel Jobert) مؤخراً ـ أو ضدّ أيّ تصريح مُغرِضٍ وغير لائق، مثل ذلك التصريح الذي أدلى به رئيس فرنسي في وقتٍ سابقٍ وهو في زيارة رسمية للجزائر، إذ قال: ” فرنسا التاريخية تُحيِّي الجزائر المُستقلّة”.

والواقع أنّ هناك ما هو أبلغ تأثيرا وأقوى حُجّةً من الاحتجاج والصّخب، إذْ الأحرى أن نتخلّص من كلّ عقدة نقصٍ بخصوص تاريخنا في كلّ مراحله. وهذا ما حرص الرّئيس على التذكير به في إحدى المناسبات، إذْ دعا إلى العمل على حماية أهمّ مكتسبات ثورتنا المجيدة، وهي الوحدة الوطنية ووحدة التراب الوطنيّ، كما دعا إلى التشجيع على كتابة التاريخ تشجيعاً فعلياًّ، فـ ((كتابة التاريخ لا تقلّ أهمّيةً عن صناعته))، على حدّ تعبير ترايشكي(Michel Jobert).

 

جريدة المجاهد، أفريل 1981

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى