تغيير تصورنا لذواتنا: الجزائريّ ووجهة العالم
بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان
لقد بدأت تظهر في أفق الألفية الثالثة ملامحُ عالَمٍ جديدٍ كلّ الجدّة. وهذا العالم الجديد لن يكون عالم الآلهة الخاصة، ولا عالم السياسات الخاصّة، ولا عالم تصادم المصالح، بل هو عالمٌ إمّا أن يتّجه إلى الخراب الشامل وغير القابل للترقيع، وإمّا أن يكون عالم فيه ثورة ذات أبعادٍ كونية، وتحوّلات جذريّة في القيم بحيث تتّخذ الحياة البشرية وجهاً جديدا إنْ على مستوى الشكل أو على مستوى الجوهر. لن يكون هذا العالم عالم أشخاص، بل عالم الإنسانية قاطبة. ويبدو أنّ عهد الوتيرة البطيئة في مسيرة التاريخ قد ولّى، وأنّ الإنسانية دخلت في عهد يسير فيه التاريخ بسرعة جنونية تضاهي ثورة البركان الذي يُغَطّي بكَلْكَلِهِ كلّ شعوب المعمورة ويدفع بها دفعة واحدة إلى مصيرها المُوحّد. وقد ولّى عهد التوجّهات الوطنية كذلك، ومعها كلّ ذلك الخضمّ من الثقافات المتعددة والمختلفة. ولن يكون بإمكان أي شعبٍ ولا جنسٍ بشريّ ولا قارة من القارات أن تُحدد تاريخها الخاص بها بمفردها. فوجهة البشرية ستكون واحدة، وإلاّ فلن تكون هناك وجهة على الإطلاق.
وإذا كان الناس في القرون الماضية يعيشون مُقتنعين بأنّ “ما يصدُقُ في مكانٍ لا يصدق في مكانٍ آخر”، فإنّ هذا الاعتقاد لم يَعُدْ صحيحاً في أيامنا. فلقد أدّى التعايش بين الناس جنباً لجنبٍ مع المحافظة على الاختلافات إلى الأحقاد والتصادم وبروز الرغبة في إخضاع الآخر. وإنّ الشعار القائل: ” الاختلاف نعمة ” والذي ألْهمَ كثيراً من الطفرات السياسية، أصبح اليوم عبارة عن دعوة مُباركة لكنها ليست عملية، لأنه أصبح من غير الممكن رؤية الناس “مُتعايشين رغم اختلافاتهم”. ولكي نقف على حقيقة الموقف يكفي أنْ نقوم بموازنة بين لحظات “الثراء” التي نتجت عن التعايش في إطار الاختلاف، وبين القرون العديدة التي شهدت تصادمات بين أجناسٍ مُتضادّة، أو بين أتباع ديانات مختلفة، وذلك طيلة حقب التاريخ الذي بُنِي على نسبية الحقائق وتعددية الجماعات البشرية.
إنّ القرن الذي انقضى من التقويم الهجري والذي هو في نهايته بالتقويم الميلادي هما قرنان غنيّان من حيث الاكتشافات، لكن أهمّ تلك الاكتشافات لا ينتمي إلى عالم العلم ولا التكنولوجيا. إنه اكتشاف معنويّ لأنه ليس نتيجة فكرٍ ولا قوّة، بل هو بمثابة تطوّرٍ بطيءٍ آخِذٍ في اكتساءِ معنى، أو “مُنعكس شرطي باتجاهِ هدف” على حدّ تعبير بافلوف.
وبالفعل، فقد شهد القرن العشرون ميلاد فكرة “الجماعة الدولية”. فلأول مرّة في تاريخ البشرية صارت شعوب المعمورة كلّها تلتقي في مكان واحد وزمن واحد، وهي تتكلّم لغةً واحدة هي لغة الرياضيات أو لغة كرة القدم، وتُناقش نفس المشاكل، كمشكلة الطاقة أو القانون البحري، وهي منشغلة بمستقبلها المشترك، سواء أكان ذلك في نادي روما أم في هيئة الأمم المتّحدة. وهي في كلّ ذلك تُعطي تجسيداً جديداً لقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…“
التعارف في هذا النص القرآني لا يعني مُجرّد العلم بوجود الآخر أو مُجرّد إظهار الفضول إزاءه أو المحبّة، أو تبادل النظرات الشّرسة، بل يعني شعور البعض بوجود البعض الآخر رغم الاختلاف، وتقييم البعض للبعض الآخر إنْ إيجاباً أمْ سلباً، في السلم وفي الحرب. ومَنْ يدري؟ فقد يكون المقصود بالتعارف في هذه الآية هو وجوب الاتحاد بعد فراقٍ دام أَلْفَ أَلْفِيَّةٍ وأَلْفِيَّة وبعد أن استُنْفِدَتْ كل الحلول التي تزعّمها أشخاص، بل إنه التّضرّع بدعاء مشترك يحمل نفس الهاجس حول المستقبل بعد العديد من المُحاولات الفاشلة (trial and error)..
ويبدو اليوم أنّ البشرية ـ وبعد أنْ هامت الجماعات البشرية في شِعاب مُتباينة ـ بصدد الاتفاق على اتجاهٍ واحد، هو الاتجاه الذي سيُعطي المشاكل وصفاً واحداً ومُشتركاً، كما سيُحدد لها مُعالجة بالاعتماد على نظامٍ واحد من المرجعيات. فما الذي يمنع من ظهور وضع فلسفي عالميّ جديد قادر على تحقيق نجاح في المجال العقلي يُضاهي ذلك النجاح الذي حققته العلوم الدّقيقة في مجال المادة مِنْ إجماعٍ حول حقائق العلم، ومِنْ منظومة مصطلحات عالمية، ومن تأسيس لمقاييس تسمح باستبدال الشّكّ باليقين و الخطإ بالصحيح ؟ فالبشر اليوم أمام خياريْن لا ثالث لهما: فإمّا الفناء وإمّا الاضطلاع بغايات جديدة، إمّا أن يُلغي الناسُ بعضهم البعض الآخر وإمّا أن يَسْمُوا إلى مراتب الحقيقة الموحّدة وإلى تحديد سياسة عامة من أجل الخلاص الجماعيّ. وفي كلمة واحدة: على البشر أن يجدوا أخلاقيات جديدة كلّ الجدّة، أو وضع نظام تصوّري، فلسفي، عالميّ، يسبق كل الأنظمة الدولية الأخرى.
ذلك هو الوضع العالمي الذي يحيط بعودتنا، نحن الجزائريين، إلى مُعترك التاريخ. الجزائريّ إنسان جديد مُحافظ على الثقة التي افتقدها كثير من الناس، وهو بعيد عن الأفكار المسبقة التي طمستْ أعين كثير من الأمم “المتحضّرة”، كما أنه ذو ضمير بِكْرٍ سالمٍ من الجرائم ضدّ البشر. وهو بهذا كلّه قادر على الإسهام في رسالة عظيمة: رسالة إعادة إحياء الإنسان على المعمورة. إنّ عودتنا إلى العالم تجري في وقت لم تَعُدْ للعالم فيه رسالة يؤديها ويُروِّجُ لها، ولم يبق له أيّ حلم يسعى إلى تحقيقه، ولا أيّ مثلٍ أعلى يقترحه. ليس في هذا العالم الجديد غير صراعات ضارية على المصالح. وإنّ ما يُسمّى بـ “الإستراتيجية العالمية” ما هو في حقيقته إلاّ تهافُتٌ جنوني على مناجم اليورانيوم أو الطرق المؤدية إلى النفط. لقد فقدت السياسة سحرها وقداستها بعد أن انغمست في النزعة الاقتصادية المُتطرّفة، والإيديولوجيات السياسية التقليدية تموت الواحدة تلو الأخرى، والدّليل على ذلك أنّ قادة الدول العظمى ليسوا من كبار رجالات السياسة. فالعالم اليوم صار في قبضة أرباب المناجمنت managersوالتّجار ومُحترفي الأعمال الذين اعتلوا سدة الحكم بنصف أصوات الناخبين، بل وبدون أي صوت في بعض الحالات.
أمّا الشعوب المستقلة حديثاً، والتي تعيش في نصف الكرة الجنوبي، فبعد انقضاء فترة الحبور بالاستقلال بدأت تفتح عيونها على واقع تتزايد مرارته يوماً بعد يومٍ، إذ لم تَعُدْ قادرة على تحمّل ما اعتبره حُكامها “كحق الهيّ للحكم السيء”، وهي تُدرك اليوم أنّ عهد الزعامات قد ولّى وأنه لا بُدّ مِنْ إيجاد مؤسسات “لا تموت بمرور الأحداث وموت الأشخاص”. ونظراً للتجربة العميقة التي مرّت بها هذه الشعوب في كنف عقلية الرّجل الزعيم والمهدي المنتظر، أو الرِّئاسة مدى الحياة، فلقد بدأتْ تُدرك أنّ رئيس الدولة قد يكون مُجرّد شيطان أو عميل أو صعلوك دنيء، ووقفت على حقيقة أنه “عندما تعلو قيمة الشخص فإن قيمة الشعب تنقص”. وبسبب ذلك كله بدأت الثورات على الزعماء المزعومين الذين راحوا يتساقطون الواحد تلو الآخر.
إنّ العالم الثالث الذي هو حقيقةً “منطقة عواصف”، كما يُسمّى، يصبو إلى السِّلْمِ المَدَنيّ والاستقرار السياسيّ والتّطوّر الحقيقيّ. إنه يصبو إلى خطابٍ سياسيّ مُفيد ومُعتمدٍ على القدوة الحسنة والتسيير الرّشيد. والجزائر التي تمكّنت من احتواء كثير من الصراعات المُميّزة للعالم الثالث قد عرفت الديماغوجيا حقيقةً، لكنها لم تقع في هُوّة الجنون والطيش. لقد مرّت على تجربة النظام القيصريّ الذي يجمع بين الاستبداد والديمقراطية، لكنها تداركت نفسها في الوقت المناسب. كما أنها ذاقت مرارة الظُّلمِ والجور، لكنها لم تعرف الخيانة. ولأجل ذلك فالجزائر تحظى باحترام خاصّ بين الدّول، وهو الاحترام الذي تَكَرَّسَ مؤخّراً بفضل الدّور الذي لعبتْه في تحرير المُعتقلين الأمريكان. لكنْ، هل يكفي ذلك؟ فهل نحن مُتأكِّدون مثلاً مِنْ أنّنا لن نقع مرّةً أخرى تحت وطأة الاحتلال الأجنبي بشكلٍ أو بآخر؟ وهل نحن مدعوون للعب دور في إعادة صياغة العالم، أمْ أنّنا نكتفي بدور المُتفرّج فننتظر حتى يظهر وضع عالميّ جديد يُطبّق علينا كما جرى في السابق؟
وإذْ نطرح مسألة مصيرنا في عالم الألفية الثالثة بهذه الصيغة فإنّنا لا نقصد صرف الانتباه عن مشاكل أخرى أكثر استعجالاً. إنّنا لا نجهل ذلك، فنحن لا نسعى إلى تعقيد مسألة مُعقدة أصْلاً، وهي مسألة ضرورة البناء الوطنيّ، بل هي محاولة لمَوْضَعَةِ مسيرتنا بالقياس مع مسيرة أشمل سبقتنا، هي مسيرة تحقيق وجهة العالم.
وحسب رأي أحد المُفكّرين، فإنّ هناك طريقتين للنظر إلى الأشياء يُطلق عليهما اسم “أُفق رؤية النّسر ” و “أفق رؤية الضفدعة”. فإذا كان النسر يتمتع بالقدرة على التقاط الصورة بتفاصيلها وفي مجملها معاً، فإنّ الضفدعة محكوم عليها بألاّ تلتقط إلاّ جزءاً من الأشياء بسبب زاوية رؤيتها الناقصة. فَلَوْ نُظِرَ إلى أعمالنا وقيمنا وأهدافنا مِنْ فوق، كيف سيظهر توجّهنا؟ وما هي المكانة التي نحتلّها في إطار التوجه العام للتطوّر؟ وما هي الرسالة التي نحملها، وماذا عسانا نقترح على غيرنا؟ أين هو الفكر الجزائري الذي بإمكانه أن يُعالج كلّ هذا؟ ومعروفٌ أنّ المجال إنْ لم يشغله الفكر والبحث والدراسة، فإنه سيكون بالضرورة مشغولاً إمّا بالجهل الديماغوجي، وإمّا بالوصاية الخارجية، أو بهما معاً. وإذا ما وقعت البلاد بين براثن هاتين الفئتين فإنّ جواًّ من الغموض والالتباس يستولي على العقول إلى درجة أن الناس لا يعرفون إلى أيّ اتّجاهٍ يتّجهون ولا ما يفعلون، ولا يفقهون شيئا من معاني الأشياء ومِنْ معنى الحياة ذاتها. إنّ العالم بتنظيمه الحالي يبدو وكأنه يستبق نفسه. أمّا الفلسفات المعمول بها فقد أفلست تماماً. فبأيّ زادٍ ستدخل بشرية الألفية الثالثة مُغامرتها الجديدة؟
لكنْ، يبدو لي أنّ طرح مشكلة الثقافة في بلادنا بالطريقة التي نطرحها بها فيه شيء من الخروج عن اللّياقة. فتارةً ننبش في بطون التاريخ بحثاً عن أشياء بسيطة حتى ولو كانت خُفّاً أو مزماراً يعود إلى عهد متوشالم( Mathusalem)، كي نُثْبِتَ لأنفسنا أننا كُنّا في عداد الأحياء عصر ذاك، وتارةً نقترح تبنّي لغة عامية هي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، كي نثْبِتَ استقلالنا الذاتي عن الكون كلّه، أو نتبادل الطعن واللعن لكي نعرف أيُّنا أكثر بربريّةً من الآخر، وبتعبير آخر نحن نسعى لاسترجاع لقبٍ ساخرٍ أطلقه علينا محتلٌّ أجنبيّ عابر في الأزمنة الغابرة.
جريدة المجاهد، 15 أفريل 1981.