بين الفكر والسياسة

تغيير تصورنا لذواتنا: مثلث برمودا الجزائر

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة ساعي عايــدة

“لماذا ننشغل دوما بمضاعفة آلامنا، في حين أننا نشتكي باستمرار منها؟” فولتير.

 

لابد أن نخشى من اليوم الذي لن نجد ما نقوله فيه، حيث لن يكون هناك أي وصف مناسب لترجمة أشكال الشك و اليأس الذي سيتملكنا، حيث لا يمكن لأحد أن يلوم الآخر، و حيث قوة القصور ستقضي على آخر ذرة للطاقة فينا.

سبّبَ تآخر مداخلة لرئيس الدولة أمام إطارت حزب جبهة التحرير هزة في جسد الأمة. إذ كانت أقرب إلى تعبير “الإنسان”الذي أعلن في صرخة قوية:” كفى!”، منها لحديث رسميّ لرئيس يلقي خطابا. أعطى كلّ من الصدق الواضح، الكلمات المباشرة، اللهجة المصمّمة، لمداخلته قوّة كبيرة وصل مفعولها للمشاهدين. لكن علينا أن نتوجس خيفة من أن تأخذ هذه المداخلة، التي لم تكن خطابا توجيهيا بل نقطة نظام قاسية و”ضربة على الطاولة”، مسارا نحو مثلث برمودا الذي كان من قبل المصير الدائم والغريب لخطابات و لحملات و نداءات ” تقويم و إصلاح” حقيقييْن.

في الماضي، كان هذا النوع من الرسائل في الصحافة المكتوبة أو في السمعي البصري، يغرق في لغة الخشب المتصلبة، حيث الأسلوب، الإلتواءات، الكلمات الأساسية، لم تعد تثير شيئا يذكر و منذ زمن، بل شاركت أحيانا في تخدير الأفكار الجديدة و تفّهت صرخات أصيلة خرجت من القلب. فكان الأمر يبدو في وسائل الإعلام كما لو أننا غير قادرين على تجديد أنفسنا، على أن نتكيف مع التجاوزات الناتجة عن الرؤية الجديدة للمشاكل والحلول. بحت أصوات المسؤولين والمناضلين، من تمنراست إلى دونكيرك  Dunkerque (لكي لا ننسى مهاجرينا) والذين يملكون الوقت لذلك طبعا، وهم يرددون على مسامع القوى الحية للأمة ( وأتساءل هل تخفي هذه الأخيرة قوى ميتة ؟) أحاديث معروفة من قبل ولا تزال بل وستظل تتكرر، وهذا هو مثلث برمودا “النسخة الجزائرية”.

إذا كان الجميع موافقا، وملتزماً بما قاله الرئيس، إذا اعتبرنا أنفسنا جميعا أبرياء من المآسي التي عدّدها، فأين هم المتهمون إذن ومن هو المعني؟ في الحقيقة كلنا سبب في هذا الوضع، من القمة إلى القاعدة، و أقلّنا عذرا هم المتهمونبالتواطؤ،بالسلبيةأو بالتساهل. إلى الآن لن نحرك ساكنا في انتظار أن تمر الموجة التي أحدثتها مداخلة رئيس الدولة لنعود شيئا فشيئا إلى حيلنا القديمة للحياة المجانية والمميّهة.

كم من الوقت سيستمر هذا الحال في حين تنذر تقلبات الأوضاع الاقتصادية العالمية بمستقبل غير مستقر و لا تمنع التحالفات السياسية التي عقدتها بلادنا فرضية حرب مفروضة ؟

 

ما رأيكم في العمل والصرامة؟

لن يخلصنا شعار “العمل والصرامة” الذي تبناه الحزب في مؤتمره الخامس، والذي لم يعرف تكذيبا وفشلا مثل الذي عرفه منذ ذاك، من شياطين اختفت فينا طويلا بمجرد تكراره كتعويذة وبمختلف الوسائل. وهي لم تختف فينا كما نخفي عيبا أو مرضا مخجلا، بل هي بالكاد مستورة كعفاريت صغيرة يكون وجودها في البداية مزعجا لينتهي أخيرا بالمتوقع فينا جيدا. وهذا يبين كم سيكون صعبا استبدال ما أصبح فينا منعكسا شرطيا أو حالات طبيعية، بالحقيقة الجديدة و السلوكالعامأوالخاص، المهني أوالأخلاقي، الجدير باللحظات العظيمة لثورتنا. ” نسير كالقطيع نحو الشر، الطريقإليهمعبدة و هو ليس بالبعيد عنا، لكن الآلهة وضعت أمام الفضيلة التعب والنصب” أفضل تطبيق لأبيات أفلاطون هذه حول طبيعة و ميول الإنسان، هو على الواقع الذي نعيشه.

كما توجد فيروسات تسبب أمراضا معدية جسيمة، هناك أيضا فيروسات مسؤولة على أوبئةأخلاقية مدمرة (” فيروس الفوضى”‘ مثلا). لكننا للأسف، لم نعرف الظاهرة التي تتحرك في الاتجاه العكسي أيوجودبعض ” فيروسات الفضيلة” القادرة على إحداثإصلاحاتأخلاقية و اجتماعية على نطاق واسع. وعليه إذا أردنا الشفاء فعلا،فمن العبث أن نعتمد على التعويذات العاجزة و نراهن على بعض المعجزات الجماعية التي يبقى احتمالها ضعيف جدا. لن يصبح “العمل و الصرامة” فجأة علامتنا المميزة لمجرد أنناأعلناعنه في مؤتمر. لكي يكون ذلك فعليا حقا، لابد من التعب و النصب، لابد من قدوات و رموز مقنعين، لابد من حمل العلاج إذا لزم الأمر، حيث يجب دون تردد أو تملص .

إذا أثبتت الأحداث صعوبة أو استحالة تطبيق مخطط مقرر مسبقا على أرض الواقع، فلا داعي للكذب، للخداع أو حتى لإجبار النفس على حمله ، فكل معتقد إنساني قابل للنقاش و التحسين. و إذا استمر الأفراد في رفض الانصياع إلى القوانين و ضوابط العيش كمجتمع، لابد من إجبارهمبأي ثمن لأنه من خلاص الأمة.إذا كانت القوانين متساهلة أكثر من اللزومأو غير متوازنة على حساب واجبات و مصالح الأمة على المدى الطويل، لابد من إصلاحهاأو إبطالها و ليس التظاهر بتجاهلها. يعرف الثوري الأصيلأن:” الوسيلة الحقيقية لإثبات احترامه للشعب هو بالدفاع عنه، وليس بالتفاخر بتمجيد قوته و حريته، و بتنبيهه لأخطائه الحقيقية لان الشعب نفسه له أخطاؤه” روبيسبيار(Robespierre)..

أوّلا،لابّد من البدء بالتساؤل حول الأسباب التي نزعت عنّا هذه القيم الأخلاقية. أليس من التوقيت غير المناسب، انه غداةالمناداة بهذا الشعار بهدف إعطاء إيقاع لحياتنا خلال خمس سنوات قادمة، أن تشرع  بعض الأجهزة الثقافية في ” سياسة ترفيه ” من خلال جلب مدد كبيرمنفرقأجنبية مستوردة بوتيرة أكثر من منتظمة، فهل هي حاجة من الدرجة الأولى من الأهمية؟صحيح يمكن لنا أن نتفهم و لا ننكر، و بعد مسيرة إجبارية لمدة سنوات ميزتها الطوابير البغيضة و ندرة السلع غير المتحملة، أن يصبوا شعبنا لراحة ضرورية و مشروعة، لكن هل يجب أنتأخذ هذه الأخيرة شكل هذا الاحتفال الصاخب وهذا الاستعراض البهلواني ذو الزعمالثقافي في حين أننزعتها الأولى كانت و كان يمكن أن تكون إثارةصحوة ثقافية و تحفيز للإبداع؟

لايعني العمل و الصرامة أن تُنزع هذه الراحة و الاستجمام،لكن كان شعبنا سيفضل لو حصل عليها في إطار حياة أمنة، سوق متحكم فيه بشكل مناسب، علاقات اجتماعية واسعة و متحضرة. لكن لابد من التذكير لختم هذه الملاحظة انه في أي مكان عرف التطور، لطالما سبقت الثورة الصناعية حضارة الترفيه، و الأكثرأهميةأيضا انه لا يكفي رجاء و تمني خير الوطن، بل لابد من معرفة ما هو هذا الخير…ونذكر هنا فكرة لابن خلدون حيث كتب:” كل شيء يتعلق بالحكومة: عندما تتجنب الظلم، المحاباة، الضعف و الفساد، وعندما تقرر السير باستقامة دون انحراف، لن يتعامل سوقها حينها سوى بالذهب الخالص و الفضة النقيةلكن أن تُترك الدولة لمصالح شخصية، للمنافسة بين التجار، البغاة و الخونة فلن يتسع المقام سوى للمال المزيف” (المقدمة)هاهي الفكرة بوضوح.

 

النظام أم الرجال:

مرّ بلدنا بفترة” هذيان مرضي” أثرت على تصوراتنا الذهنية بعمق، ولا زالت بعض آثارها إلى اليوم.فيتلك الفترة تخيلنا أنفسنا و كأننا “بروسيا البحر المتوسط”، اعتقدنا أن النجاح التام لا يكلف سوى بضعة براميل بترول، وسنحصل عليه مباشرة مع نهاية المخطط الرباعي الثاني.لقدتصورناأن مفهوم الاستقلال الوطني هو استقلالات متعددة بعدد الأفراد، و تصورنا نموذجا للتطور بدون جهد كبير…

لقد ضخمنا ذواتنا، و تعالينا لدرجة أننا وقعنا في جنون العظمة، هكذا صرنا فاسدين- بلا وعي منا-، بين أيبيقورية (انغماس في الملذات) بعض المسؤولين الرفيعين، والميل الفرويدي لدى كثير من المسيَّرين، فتكرّست آليا تسوية مؤقتة، و التي أسست لتوزع الثروة الوطنية حسب أساليب تمليك خاصة بكل فئة، كأنها اختلاس و نهب مدروس.

لكن فلننتبه: نحن عندما نستحضر الفساد نحصره دائما في المال و نلوح به فقط جهة “الكبار”،و ننسى أونتجاهلأن اخطر أنواع الفساد هو فساد العقل الذي يميع كلّ معنىللشأن العام، كلّ روح مدنية، كلّ ضمير وطني…هذا النوع من الفساد يبقى و يدوم حتى و لم يكن المشكل في المال.ثمّإنفساد”المواطن البسيط” ليس اقل ضررا بل بالعكس، هو يتسلل في كل مكان و في كل شيء ليلوث كل العلاقات الاجتماعية، على جميع المستويات، و في كل المجالات.إذا لم يفتقر حقيقة أي واحد من هؤلاء الكبار” وهو يقود” العمل العظيم” للتطور (ديوان المحاسبة اظهر بعضهم)، فإن الكثير من الصغار انتهزوا الفرصة و لم يتوانوا عن سرقة  كل ما يقع بين أيديهم: فائدة في غير محلها، أجرة غير مستحقة، مضاربات وإحتيالات من كل نوع، وبهذا ذهب رأس مال العديد من الشركات إلى البطون، و يكاد يكونالأثاث هو فقط ما سلم من النهب.

فليس من المناسب إذن أن نُنصف أية جهة على حساب الأخرىالمسؤولية تقع على عاتق الكبار كما على الصغار، غير ذلك لن يكون سوى مواصلة للعبة الحقيرةالتي تبرع فيها لغة الخشب.اختيار الجاني لم يعد بين النظام و الرجال أيضا، هذا إن استطعنا فصلهما عن بعضهما، كاستحالة فصل كسوة الراهب عنه!

كانتأثيرالأشخاص كبيرا على قضايا وطننا على كل المستويات، واكبر خطأ إرتكبناه في هذا البلد في الجانب العملي، هو التنّكرلمسلمةأساسية في حياة الأمم: “المبادئ أقدس من حياة شخصأو مجموعة من الأشخاص”.إذا ما انتقلت الرفعة التي تتوجب للمبادئ،للقيم،للأفكار و للقوانين مهما كانت الظروف فقط إلى شخصية الأفراد لن يمنع شيء النظام من أن يطبع نفسه بعلامتهم الخاصة و انطلاقا من أخطائهم بل ومن عللهم…

إذاأُرتكِب هذا الخطأ، و هو لا يغتفر، عندما تُعكس المسلمة، عندمايُضحى بالمبادئ لأجل الرجال حتى ولو بأشكال عرضية، لا يجب أن نُصدمأن الدولة، الدساتير و القوانين سيكون لها دلالات و قيم فقط من خلال الأهمية الظرفية و الاحترام المتفاوت الذي يشهد به الرجال الذي يجسدونه، فيصبح النظام و الرجال إذن مركّبون في علاقة لا يمكن التمييز فيها بين دور و مكانة كلّ منهما. البنيان المؤسس علىخلط و فوضىكهذههوالآيلللانهيارسريعا.و الأمم التي أودعتمصيرها للمبادئ و القوانين هي الأمم الخالدة.سيبقى الكثير لقوله في هذا المحور لكن ليس هذاهوموضوعنا اليوم.

ماذا سيكون مستقبل مداخلة الرئيس الأخيرة؟ ما قاله كان حقيقة و الجميع مقتنع لكن ما الذي يجب فعله حتى يتبعهذهالوقفةأفعالا؟ أوّلالابد من التخلي على العادات القديمة و لغة الخشب. وهذا ينضوي  آليا علىإدخال تدريجيّ للغة الحقيقية خاصة في المجالات الاقتصادية و السياسية.أمّافيما يتعلق بالرجال، سيتحتم علينا أننأخذ نفس الرجال و نبدأ من جديد، شريطة أنتجدد قواعد اللعبة  و أن يختار المسؤولون، مع الأخذ بعين الاعتبار المتطلبات الجديدة التي دار حولها خطاب الرئيس قدر الإمكان.

منذ المؤتمر الرابع، تمت تغييرات مهمة للعودة إلى جادة الصواب و إعادة التوازن، لكن لابد من الاعتراف أن الإنفراجات الجديدة لم تكن فرصة لتحولات مُخلّصة خاصة على مستوى النفسيات.نحن نعيد جر نفس المخططات، نفس العادات القديمة، و نفس المبررات و كأننا نريد و بكل الوسائل المحافظة على الفوضى المترسخة والتي تستغل لحسابات شخصية…على حساب الثورة الخالدة.

 

 

« Algérie-Actualité » 04 أكتوبر 1984

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى