بين الفكر والسياسة

تغيير نظرتنا لذواتنا:الجرائم و القصاص

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة ساعي عايــدة

يستحضر عنوان هذا المقال اسم مؤلَّف لكاتب روسي كبير من القرن الماضيلمن يعرفه.لكنالأمر هنا لا يتعلق لابه و لا بمُؤلَّفه، بل بالجرائم و العقوبات التي،و للأسف، نلمسها عن قريب.

 

لم يفتنا الربط بين مفهوم “المسؤولية الجماعية” التي أعلن عنها مؤخرا رئيس الدولة، و العقوبات المتخذة في الفترة الأخيرة ضد مسيرين لبعض المؤسسات العمومية.على المواطنين أن يتأسفوا، في نفس الوقت الذي ستترسخ هذه العلاقة، على أن هناكهزّات كبيرة في الحياة الوطنية قادمة أو منتظرة من رئيس الدولة، و كأنّه توجب عليه الحضورالدائم في الصفوف الأولىحتى تتقدم القافلة بضعة خطوات إلىالأمام.من البديهي أننا عندما نقترب كثيرا من الأشياء التي نراها يوميا، لن يكون من الممكن بعد ذلك أننراها.إذن لابد لأحدهم أن يكون سببا ليفتحالأعين التيتكاد تفقدان البصر تماما، بتنبيه قويّ لأصحابها.

تعتمد فكرة “المسؤولية الجماعية” على مبدأ أنتُمارَس المسؤولية في جو من التعاون و التضامن(مجالس إدارة الشركات، المجالس التنفيذية البلدية، المجالس التنسيقية بين الولايات)،و لابد أن تكونالعقوبات، الايجابية أو السلبية،أيضا جماعية. ليس لدينا ما يمكننا قوله حول المبدأ، بل ما الذي يمنع، من كثرة ما انه عادل و صحيح جدّا،أنيُنشر كرحمة، على كل المنازل، في كل الفضاء الاجتماعي، هنا و في كل مكان حيث تهيمن الظواهر السلبية التي لا داعي لتعدادها، نظرا لان أمثلتها متوفرة بكثرة و تعمي الأبصار سواءافيمااتفق على تسميته “عالم الشغل” أو في الأماكن العمومية. في حين لا يمكن المرور مرور الكرام على بعض منها فضلا عن آثارها، لأنهإذا رُؤي في هذا المبدأ الوسيلة لوضع “الرجل المناسب في المكان المناسب”، إذا كان يعلن عن ساعات العمل  في صرامة، إذا تم قبوله من طرف الجميع كأحد القواعد العادلة للعبة، إذن لابد من التمسك به و عدم تركه أبدا .

 

الخوف المنقذ:

من بين الفوائد الأولى لهذا المبدأ هو أن يضع حدا لعادة، لالتواءة أو لحيلة ترسخت و أخذت مكانها طويلا كي تُدبَر الأمور بشكل  لا يذكر فيها اسم أو مجموعة أسماء بعينها، كسبب في أي خسارة، خطأ أووضع خطير.

منذ الأزمنة البعيدة، يسمع الشعب الحديث عن “أعداء الثورة”، الرجال الذين يصعدون على حساب القانون، الصيادين في الماء العكر الذين يعرقلون المسيرة الواثقة نحو الاشتراكية، لكنه لم يعرف يوماً من هؤلاء رجال الظل الشياطين، رغم انه يقال أنهم مندسون بين صفوفنا و متواجدون في النظام.

 

لم يتم فك هذه العقدة و التخلص من هذه العادة، نحن لا نزال نصادفها في إجتماعات حيث تعودوا المطالبة بعدم الشخصنة، كما أننا لو سميناالأشياء و الأشخاصبأسمائهم فسنخون ” قانون الصمت”(الأومترا). مع مبدأ الخوف المنقذ، لابد من أننعترفأن مشاكل بلدية، شركة أو بلد ما ليست مشاكل هؤلاء الأشباح، متغيراتهم المناخيةأو نار الاستعمار. بل، مشاكل رجال معروفين و لديهم أسماءمعروفة.لقد حان الوقت لتمزيق معطف الصمت الثقيل الملقى بحياء على إفلاسنا و على العديد من تشوهاتنا.

 

فائدة ثانية لهذا المبدأ هو أنه يعيد مراجعة الشعور العام لالإفلات من القصاص الذي ترسخ شيئا فشيئا في الضمائر.

 

نعرف إلى حد ما العقوبة الايجابية، ونتلقاها كل مرة بنكران نظرالصعوبة تميزهاعن الحقوق الطبيعية. لكن العقوبة السلبية هي من الأشياء التي اختفت تقريبا من ذهنياتنا.اختفت مشاعر القلق القديمة، الخوف السابقأمام مسؤول مكتب بسيط، و حل محلها وقاحة و رباطة جأش لا يزعزها شيء. نحن نجهل دور الخوف،أحياناالمُخلص،واقصد من الخوف، ذلك الخوف الصحي بفوائده و روائعه، الخوف المنقذ الذي يمتزج مع الإستقامة الطبيعية، مع الآداب ومع المخاوف التي نرضى بها بمحض اختيارنا.

لابدلهذاالمبدأأن يعيد الخوف من فقدان الراتب و مدى استحقاقه، ميزاته و روائعه.لابدمن إحياء الخوف من البطالة في الأذهان،كما تشعر بها شعوب أخرىأكثر تطورا منا حيث أخذت شكل طيف يلاحق ليالي العامل الأكثر جدارة و الإطارالأكثر كفاءة.

لابد أن يخشى عامل الشباك من عدم رضا الجمهور الذي يتعامل معه، و الذي هو سبب لقمة عيشه، لابد أن يخشى ممثل السلطة الطعون التي قد يرفعها المواطن،و الذين يرتدي باسمه الزيّ النظامي،ضد تجاوزاته.لابدأن يضع المسؤول الرفيع في حسبانهإبعاد محتمل و بالإجماع. لابد أن يستعيد سيفداموكلاس(Damoclès)العادل لكن الصارم، مكانه فوق الرؤوس و على الأعناق.لابد أن تُرفع عصا العقوبة الايجابية ولابد أن تقترب العقوبة السلبية حتى تلطم الأنوف.

بالنهاية، هناك فائدة أخرى لهذا المبدأ هي أنه يجدد الطاقات،يحييها،يسمح بالتغيير لصالح النوعية.بالرغم من أن هناك مسؤولون وصلوا منذ خمسة أعوامإلى مبدأ “بيتر” (Peterمستوى الكفاءة) ،إلى قمة عدم كفاءتهم، لكنهم هنا دائما، بلا رونق و غير واعين بأنهم جاوزوا زمنهم،.يرددون كلاما عفا عنه الزمن. لابد من انتزاعهم من كراسيهم كما يُنزع المسمار بنزاع المسامير. لابد من الاعتراف أن هناك رجال دفّعوا البلد ثمنا غاليا جراء مشاركتهم في الثورة المسلحة، إذ كانوا مثل” أتيلا” Attilaالذي لا ينبت العشب بعده حيثما مرّ، ومع كل احترام نكنه لكل مجاهد مهما كانت مهامه بعد ذلك،فالإعترافلا يهدفلتدنيسالمقدس بل واجب أخلاقي و الذي كان أصلا من مطالب المجاهدين الأصيلين.

اقتلوهم جميعا:

هناك مبادئ تعتبر كقوانين، كي يتم قبولها معنويا و تطبيقها علميا لابد أن تتوفر فيها جملة شروط، هذا يعني أن ” المسؤولية الجماعية” لا يجب أن تبقى حبيسة مستويات معينة من المسؤولية (المدير، إطارات مؤسسة، مجلس العمال أو منتخبي البلدية) و لا تُحد في قطاعات تم اختيارها سلفا من الحياة العمومية (الاقتصاد، إدارة السلطات المحلية)، ولا تطبيقها ،أخيرا، على حاملي لقب المسؤولية  دون غيرهم.

في”عالم الشغل”، يعرف الكل أن النتائج السيئة لأية مؤسسة لا تتعلق شرطا بتهاون مديرها العام، لابد أن يكون لديه هو أيضا الوسائل و الإرادةلتطبيق هذا المبدأ، بدءامن أعلى السلم الإداري الذي يترأسهووصولا إلى ادني مستوى منه. إذا بقي كل شيء على حاله فمن الأكيدأن ليس كفاءته و لا التزامه و لا الدعم الذي يمكن أن يوفره، هي ما يمكن أن تسمح له كي يتم المهمة المنوطة به على أكمل وجه، و يمكن حينها أن يُعزل عن مهامه دون أن يتمكن من تحديد حجم المسؤولية التي تقع عليه حقيقة.

من جهة أخرى هناك حالات لايكونالأشخاص فيها سببا بشكل فردي، بل طبيعة علاقة العمل التي تربطهم، روح العصر، تنظيم العمل…فهل يجب عزل العمال عن وظائفهم أم العودة إلى النصوص، لأن هذه الأخيرة تتسبب أحيانا في تأثيرات ضارة؟

لايجبأنيُقارنهذاالمبدأ،فيما يتعلق بالإطارات الذين من الممكن معاقبتهم بسهولة أكثر من أيّ عامل بسيط، بأمر بونس بيلات Ponce Pilate :” اقتلوهم جميعا، الله سيعرف خاصته و يميزأحبائه”. فيإحدىالفترات،عرفتالإطارات رعب أنيجدواأنفسهم بين المطرقة و السندان، وصاية خرساء و عاجزة في اللحظات الحاسمة، و بعض التيارات التي تميل إلى تثبيتهم في الصورة الذهنية الشعبية كاستغلاليين، لصوص و أعداء الكتلة الكادحة.

 

و لأنّهم سُلِّموا كطعام سائغ لمطالبات مفرطة، مراقبة شعبية لا حد لها، و لإدارة مشتركة مميعة، ارتابوا من هذا الوضع، و فروا من المناصب “المعروضة” خاصة كلّ منصب مسؤولية.تدخل رئيس الدولة في مناسبات عدة كي يستعيدوا ثقتهم، و يتوقفوا عن اعتبار أنفسهمككبش فداء مع وقف التنفيد!

الحياة البائسة:

لابد أن يجد مبدأ “المسؤولية المشتركة” مجالا للتطبيق في الساحات العمومية، و في الشوارع، لان فيهاأيضا يوجد تسيير القضايا العمومية و الشأنالعام.لن نجد رجل مهنة أو نشاط معين، بل رجلا وفقط،الإنسان الجماعي، أو “الإنسان الطبيعي”. وهناك بالذات يظهر الجانب “المشترك” بجميع مقاييسه،فلن يكون من الممكن وضع أسماء للتسيب، الفساد و الانحلال.

إنها الحياة البائسة، حياة الكلاب، الحياة التي يصعب تحملها.إنها هنا ظاهرة على جميع وجوه الرجال والنساء، يمكن أن نسمها باللاتربية،اللاثقافة، اللامبالاة المدمرة للذات. هنا المسؤولية عامة، مشتركة، منتشرة…هل يجب إذن حل الشعب؟إقالة الأمة من مهامها؟

كل واحد بيننا يرى دوره مكتوبا في تقلبات الحياة السيئة. أحيانا نكون ضحايا و أخرى نحن جناة، ينتظر كل منا الآخر عندما يولي كي يجعله يدفع ثمن النكسات التي تعرض لها: أنت تمسكنيمن لحيتي و أناأمسكك من لحيتك،هنا أيضا يمكن أن نقول أن ليس الإنسان فقط هو المتهم، فقد تخلق بعض الظروف الحياة السيئة حتى في القمر.

عندما تغلق الأبواب بدون سبب، و لا تفتح إلابانفراجة صغيرة لتترك خيالات خفيفة تمر،إذا كانت كل الخروقات يمكن تبريرها،و كان البقشيش مرخصا له،لايجبأن نحتار عندما يقوم الناس بتسلق الجدران، الصعود فوق الأسقف، المرور عبر المجاري،التمسك بالمزاريب ليجد كلّ منهم الطريق الذي يوصله إلى حلول مشاكله…

بهذا الشكل يمكن للأمةأن تتحول إلى قطط مزاريب، فئران مجاري، مجرمين، جماعات أشرار. هكذا تولد و تكبر فينا الشيزوفرينيا، انفصام الشخصية، هكذا نتبنى ردود فعل تشبه حال من يوشك على الغرق، هذه هي الطريقة التيننقلبهاالنماذج و النمط المثاليةللأسف.من سيجيب على هذه الجرائم؟منسيُتابَع؟من سيُعاقَب؟ المعضلة و المفارقة هنا،أنه يوجد محاسب لكل شيء،وقاض لكل خطأ بسيط.

ما يحدث هو أن التاريخ هو من سيحكم علينا و يعاقبنا، ربما ليس على أشخاصنا نحن بالتحديد، بل على أشخاص ربما لم يولدوا بعد.لأنّالأمة لا تقف فقط على الأحياء، هي لا تتوقف، تستمرحتى بعد مغادرتنا للحياة.

 

ألم ندفع نحن ثمنأخطاءارتكبتهاأجيال سبقتنا بقرون عديدة ؟ ألم يكن الاستعمار سببا في أخطاء ارتكبت من أسلافنا الغابرين؟ ألم يستوجب بذلقرن تقريبا من الثورات الغارقة في الدماء، ثم سبع سنوات من المعارك الوحشية التي كلفتنا عُشر سكاننا الحالين لغسل بلدنا من هذا العار، من هذه الفضيحة التاريخية و التي كانت استعمارنا؟

 

لابّدأن تجلدنا كل هذه التأملات حتى لا يغرق بلدنا في مآسي كالاستعمار و التخلف مجددا، خصوصا أنّهلا تفصلنا سوى أيام عن ذكرى عودتنا الجديرة و المستحقة للتاريخ الفعال، التاريخ المفترض.

 

« Algérie-Actualité »18 أكتوبر 1984

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى