اتصالبين الفكر والسياسة

تغيير نظرتنا لذواتنا: إنه الإنسان!

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة ساعي عايـــدة 

نقل الجبال من مكانها أسهل عليّ بكثير من العمل على قلوب البشر” (ابن خلدون(.

الخاصية الثابتة للمعطيات الأساسية في البسيكولوجيا البشرية هي التي تبرر انه، في الكثير من الأحيان، يظهر التاريخ و كأنه يعيد نفسه. حتى و إن تطور ديكور الحياة منذ تكوين المجتمعات الإنسانية الأولى، وغيّرت مواضيع الاهتمام ظاهرها، و اتخذت صيغة القضايا الأساسية في كل مرة لهجة الزمان و المكان، إلا أن النفسية البشرية تفرزها دائما بعض المبادئ العامة، العالمية و الأبدية ذات نفس النزعة، نفس الهيئة، و نفس دوافع الخير و الشر.

 

مهما كانتاتجاهات تاريخ الإنسانية التي نلقي فيها نظرتنا، و مهما كان المكان الذي ننظر إليه، نصادف المفاهيم الوراثية و العالمية للأنانية، الكبر، الجشع، السيطرة…الخ، كالمبرر الوحيد لمثل هذه الأفعالللأفراد و الأمم. ما يُنسِي حجم العواقب التي تنتج عنها، أن بعض أهمالأحداث الكبيرة في العالم منشؤها  واحدة من هذه الموروثات الظلامية، و قواعد الطبيعة الإنسانية هذه التي لا تندثر.

في عصر الجماهير، طردت السياسة الفلسفة. لم يعد الإنسان ذلك الكائن العالمي المجرد، موضوع تأملات معقدة، بل معطى إحصائي سمي بالمواطن، الزميل أوالأخ، وحدة ذابت في شمولية ضخمة اسمها “الشعب”، الكلمة التي تغطي الجميع و لا تشمل أحدا في نفس الوقت، الكل و العدم في آن واحد، غموضها يتناسب مع كل الأخلاط و كل الألاعيب.

كإنسان، نشأ الجزائري في تاريخ البشرية العام، و بالتالي فهو يحمل في نفسه نفس الموروثات، و يقتسم نفس النسيج البسيكولوجي الذي يشرح أن المعطى الشخصي يقدم أحيانا على الصالح العام و يعرقل مسار المصلحة المشتركة بعزيمة باردة و لاوعي مجنون.

في ماضينا القريب،مثّل مصالي الحاج نموذجا حيا للبس بين المعطى الشخصي و الضرورة التاريخية.إنّ رجل ” نجم شمال افريقيا”،  أب “حزب الشعب”، أوّل وطنيّ طالب بالاستقلال التام و غير المشروط للجزائر، فعل أكثر مما يمكن لنا قوله للصالح الوطني على مدى عشرين سنة من النضال، و التي أمضى أغلبها في السجن أو في المنفى.

لكن جاء وقت حيث شوّش المعطى الشخصي نظر هذا الأسد المسن، وعرقل إدراكه. فنشأت جبهة التحرير الوطني من هذا الانسداد، من فقدان القدرة البصرية تلك، من ضريبة هذا الخطر الذي تمثل في تغليب المعطى الشخصي على الضرورة التاريخية.فصل التاريخ منذ ذاك، فقدم جبهة التحرير، لكنه كلف الجزائر ضياع الكثير من  الوقت و خسارة أرواح بشرية في صراع عابث و متصلب بين الإخوة.

في جزائر اليوم، يتأكد الخلط بين المعطى الشخصي و الضرورة التاريخية في مستويات عديدة من الحياة الاقتصادية و السياسية، و يعطينا أحيانا الانطباع أن مصير مؤسسة اقتصادية و سياسية فضلا عن بلد برمته متعلقٌ بأشخاص، و تأخذ الأشياءأو تفقد معناها بعلاقة فقط بهم، يتحدون  الزمن و التحولات كصمود بوذا فوق تمثاله .

لطالما كان حجم الرجال قطعيا، في الخير كما في الشر في تاريخ الأمم. يشترك كل من  سيزار(Jules César)عندما عبر نهر روبيكوني(Rubicon)، معاوية ابن سفيان في معركة صفين، و نابوليون  (Napoléon Bonaparte)عندما حوّل الثورة الفرنسية إلىإمبراطورية، في أنهم غيّروا مسار التاريخ للأسوء لا للأفضل و إن عكست المظاهر غير ذلك. في مستويات اقل أهمية، قاد وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب في بلادنا إلىأوضاع مأساوية.

دخلت عبارة لو فيغرو(Figaro)” حيث وجب وضع محاسب، تم وضع راقص” التاريخ مقرونة بشخص” كالون”(Calonne)، الرجل الذي عهد إليه الملك الفرنسي لويس السادس عشر، لسوء حظه، مسؤولية وزارة المالية، و الذي أفلس المملكة خلال أربع سنوات من التبذير. تبذير “كاينيزي”(Keynésiennes) ضيع فيه الراقص المال ( و لم يكن الرقص مهنة بل سخرية) و كان ذلك من إحدى الأسباب المباشرة التي أفضت بلويس16 إلى المقصلة بعد إندلاع الثورات في فرنسا سنة 1789.

على النقيض من هذا المثال، يقدم لنا تاريخ الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم، مثالا حيث الخلط بين المعطى الشخصي و الضرورة التاريخية لميكن ليحدث أبدا.إذ كان النبي  صلى الله عليه و سلم يُكّن محبة خاصة للصحابي أبي ذر الغفاري ، فقد قال عنه:” ما أقلَّت الغبراءُ، وأظلَّت الخضراء من رجلٍ أصدق من أبي ذر”. لكن عندما تعلق الأمر بوضع حيث الفعّالية أهم من المشاعر، فقد كان النبي، إن جاز لنا القول، في دور ” المناجر”(manager)، فقد أعلن لأبي ذر:” يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيْفاً، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيْمٍ”.

 

عاش خالد بن الوليد تقريبا وضعا مشابها، و إن كان في الحالة العكسية. لقد كان معروفا بميزاته لكنه كان مُلاما في بعض الأمور، لدرجة أن النبي قال عنه يوما:” اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”.لكن هذا لم يمنعه من أن يعهد إليه قيادة القوات المسلحة. عندما خلف أبو بكر النبي، ثبته في المنصب و كذلك فعل عمر لكن هذا الأخير انتهى إلى عزله و استبداله بأبي عبيدة بن الجراح آمرا هذا الأخير باستشارة خالد دائما.

 

أراد بن تيمية في كتابه” السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية” أن يستخلص الدروس من مواقف النبي هذه في شكل سؤال طُرح للإمام بن حنبل:” أيّ الرجلين كان أحق أن يختار لقيادة البعثة، المؤهل لكن دون حمية دينية أم التقيُّ غير المؤهل؟ “.فرد بن حنبل قائلا:” بالنسبة للأول سيستفيد المسلمون من قدراته، و هو من سيتعذب لوحده من قلة ورعه، أما الثاني ففائدة تقواه لنفسه لكن المسلمين سيعانون من لا أهليته”.هذه الاعترافات مهمة جدا عندما نعرف أن الكثير منا لا يقدمون للبلد سوى” تعهدات” لا تلزم أحدا، في حين أن الوقت ليس للكلام المعسول أو للغزل، حتى و إن كانوا صادقين.

 

عندما سؤل كونفوشيوس (Confucius)عما هو مستعجل و أولى للقيام به للخروج من وضع مهلك، و هو الذي يُعلّم تلاميذه أن كل شيء ينتهي إلى كارثة عندما تُصاب لغة الخطاب، أجاب قائلا:” يجب إعادة الكلمات إلى معناها المضبوط و البحث عن مضمونها الحقيقي”. من خلال هذا العمود، لطالما استحضرتُ “لغة الخشب” كشرّ جديد، كسبب عميق في إفساد الروح، لم يكن “الفعل الموظف”وحده أبدا حاملا للفكرة فقط، و القالب الذي تشكل فيه هذه الأخيرة قبل أن تقدم كمنتوج في سوق التواصل. بل يجب توضيح هذا المفهوم بشكل أكبر و شرحه بأمثلة ملموسة من هنا و هناك.

 

ما نشير إليه هنا، كان في الأصل خطابا فلسفيا، الغطاء الأدبي لمعتقد ثوري غض، سنّه عقل كارل ماركس(Karl Marx). تدنى هذا الخطاب، أو هذا الغطاء إلى لغة الخشب عندما أخذت الحقيقة مسارا غير الذي وضعته لها النظرية.فيتظاهر مستخدموه بجهل ذلك، حتى يتمادون في خلق توظيف خالد له، في جعله علم الكلام الذي يتم تدريسه، الحديث به وكتابته بدون أي تدقيق.متحديا الزمن و الأحداث، غير متأثر بالتغيرات، يرفض كل تكييف، لينتهي الأمر بالغطاء الأصلي إلى تحنيطه و تحويله إلى لهجة الإقليمية، إلى شيفرة أو مجموعة رموز.

 

مذ ذاك لم تعد لغة الخشب تعبيرا عن فكر حيّ، بل مصطلحات تخفي خلفها غياب فكر، هي لا تعكس رؤية، بل تجتر مجرد أنماط مستنسخة، هي لا تحلل بل تردد مجموعة شعائر.عندما يصبح من الواضح أن العقيدة الأولى لم تعد قادرة على تحليل وقائع تتدفق حديثا من جميع جوانبها، فتنغلق على نفسها أكثر، و تسجن نفسها، عن طيب خاطر منها، أكثر مما كنا نعتقد في كون هذا الخطاب لم يكن مجرد كسوة بل آلية لضمان استمرارية السلطة.

 

لم تكن كل البلدان الاشتراكية ماركسية.لكن ظاهرة لغة الخشب ميّزت الخطاب السياسي للعديد من الحكام السياسين مابين سنوات الخمسينيات والسبعينيات.نعتمد في هذه البلدان على نفس اللغة التي اعتُمدت في كل من الصين، الإتحاد السوفياتي، البلقان أو في خلايا الأحزاب الإشتراكية الغربية.كانت هذه الظاهرة خلال حقبة كاملة اللغة الوحيدة للرجال الأفذاذ في البلدان الخارقة التي كل شيء فيها دوما على ما يرام.لقد لعبت دورا قاتلا في بعض هذه الدول، كما حدث في مصر مثلا، هذا البلد الذي اشتهر في سنوات الخمسينيات بكونه:” أكبر مصدّر للشعارات”.

انتشرت لغة الخشب،كما هو معلوم، في شوارع القاهرة من خلال لافتات من قبيل:” ارفع رأسك يا رفيقي، زمن الذل ولّى”، شعار جميل لكنه خطأ، فأكثر الخزي فضاعة ، لهذا الشعب الشقيق، الشعب البريء، لهذا “الرفيق” لم يكن قد عاشه بعد: نكسة 67، كامب ديفيد، الإبعاد من الصف العربي، التخلي عن الاشتراكية بدل التكيّف معها… في هذه الفترة أيضا أقبل هذا الشعب المنهك بجلابيته و هو يغني:” إحنا بنينا السد العالي”، في الوقت الذي كان الروس يحفرون السد العالي في أسوان.كانت الديماغوجية تدفعهم، و تسير حركاتهم البهلوانية.

 

أما عندنا فقد كنا نمضي فكريا بمعتقدات محنطة، قديمة الأسلوب، مفرغة المحتوى، للتعبير عن شساعة الإمبراطورية التي فصلتها جيدا لغة الخشب المحلية في عقولنا، في أحاديثنا و كتاباتنا.لغة الخشب الخاصة بنا، هي الخطاب المزعج الذي لا يقدم لك شيئا و قد تشبعت منه، الردود الجاهزة مسبقا التي تنطلق تلقائيا كي تقطع إعتراضاتك، الصور و الحجج المتشابهة التي نستعملها و نعيد استعمالها في كل الظروف، أسلوب الكتابة الذي لا طعم و لا لون له.هي الفارق العجيب بين ما نقوله فيما بيننا و في الشارع، و ما نكتبه أو نؤكده أمام العامة، الهوة السحيقة التي تفصل الكائن الحقيقي عن الظاهري و الإحساس الداخلي مع الاعتقاد المعلن.

لغة الخشب هذه هي ميدان المساوم المخادع، الذي يصر على التعامل بعملة لم تعد متداولة، تاجر الخردة الذي لا يسمح بأي شيء فوق أرفف كشكه سوى خرذته، المعالج الذي يريد أن يداوي المشاكل الصحية بالرقية.

 

هي في كل مكان، عبارة عن استبداد، طغيان، ديكتاتورية. هي لا تعرف مناقشة الأفكار، و إن فعلت فهي تدخل فيها بروح الفاشي المستعدة لقتل أي كان لا يفكر مثلها.إنها سريعة التأثر، غيورة، غضوبة، هي لا تقبل لا المزاحمة و لا التنافر.

و على عكس ذلك هي تحب المدح، التهليل و التصفيق.تحب أن تختال، و تنتشر في جو من الصمت العام، تصغي لصدى مناجاتها، و تعجب براياتها…سواءا كانت من أصل ماركسي، ليبرالي أم بهائي أو غيره، لغة الخشب جانية لأنها عبارة عن أكذوبة، عن باطل و ممارسة للباطل، كمين منصوب للشعوب التي تلهو كثيرا، و التي تأمل الكثير من الإجتماعات و” الزعماء”. للفرار من صومعة لغة الخشب، للنجاة من سجن الأفكار هذه، لابد من قبول الفطام من الكلام الجاهز، الإلتزام بالعلاج القاسي لتعلم نزع المشاعر عن الحديث و الأحكام، و باختصار التصميم و العزم على وضع الرجل المناسب و الكلمة المناسبة حيث يجب…

 

 « Algérie-Actualité»  28 نوفمبر 1985

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى