بين الفكر والسياسة

تغيير نظرتنا لذواتنا: سِلْـــــم المقابر

بقلم نورالدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان 

لمْ أعِشْ تجربةً منذ تواجدي في شبكة فيسبوك كتلك التي عشتها ليلة الجمعة الماضية بعد أنْ نشرْتُ في صفحتي فقرة كانت عبارة عن أسطر قليلة أقول فيها: ” إنّ آيت أحمد رجل أصيلٌ حقاًّ حتى في موته. فقد عاش مُعارضاً للنظام ولا يخاف لومة لائم، وانتقل إلى رحمة الله بعد أنْ وجّه له صفعةً مُخْزيةً تتمثل في كونه “الرجل التاريخي” الوحيد الذي رفض أنْ يُدْفَنَ في مقبرة العالية الرّسميّة، وغرضُهُ مِنْ ذلك هو أنْ يُكرّس قطيعته مع النظام إلى الأبد. لقد فضّل أن يبقى بجوار أهله البُسطاء في عين الحمّام على أنْ يحظى بتشريف مشكوك فيه لأنّه مُلطّخ بدم الجريمة ( اغتيال عبان رمضان، وكريم بلقاسم، ومحمد خيدر)، ومُلطّخٌ بِعار الخديعة (المجاهدون المُزيّفون المدفونون في العالية). إنّ موقفه هذا يتماشى مع استقامته وثباته على نهج واحد، كما يتماشى مع كونه رجلاً شهماً ومُتواضعاً في آنٍ واحد. رحمة الله عليك أيها الرجل الّشّجاع !”.

ومباشرة بعد نشر هذا النّصّ ارتفعتِ أرقام المؤشرات الدّالة على اطّلاع الجمهور عليه بشكل مُلْفِتٍ للانتباه، حيث تضاعف عدد الآراء المُعبّر عنها بالإعجاب أو التعليق أو المشاركة بسرعة لم أشهدْ لها مثيلاً. وتحت تأثير هذا التجاوب الذي يشهد على شعبية “اداَّ الحو” رحمه الله، رحت أقرأ التعليقات وأجيب عن بعضها. وهنا أحسست بالرغبة في إضافة ما مِنْ شأنه أنْ يوضّح منشوري، فقلْت: ” سبق أنْ كتبْتُ لأصدقاء الصفحة نصاًّ قصيراً أوحى لي به عفوياًّ آخِرُ وأعظم موقف سياسي وقفه السيد آيت أحمد، وهو الموقف الذي يعزّ عليّ أن أتحدث عنه بصيغة الماضي ولمْ يمض إلاّ زمن قصير على مفارقته لهذه المناوشات بين الجزائريين والتحاقه بالرفيق الأعلى حيث التاريخ الحقيقي الذي يسود فيه السكون الشامل والذي ينتهي فيه كلّ جدالٍ ومِراء. ولم أكُنْ أرى في تفضيله أن يُدفن بين ذويه من البسطاء في مسقط رأسه إذعاناً لتقاليد المُرابطين كما جاء في أحد التعاليق، ولا تعبيرا عن الاستخفاف بالشهداء المدفونين في مقبرة العالية، وهو اللّوم الذي سيعتمل في نفوس البعض لِتُوّجهَهُ إليه أو لأقاربه. لم أرَ في ذلك شخصياًّ، ودون أنْ أُلْزِمَ أحداً، إلا اختياراً درامياًّ كان آيت أحمد قد فصل فيه منذ زمن بعيد بقناعة تامّة، وأوصالُهُ تتمزّق ألماً، لأنه كان بين خيار مجاورة الشهداء الذين سقطوا برصاص العدوّ في سبيل القضية التي جمعتْ بينهم وهُمْ أحياء، أو الذين سقطوا برصاص الغدر على أيدي المجرمين من رفقائهم في السلاح، وبين خيار مجاورة هؤلاء المجرمين أنفسهم، والذين ارتكبوا جرائمهم من أجل طموحات سلطوية دنيئة لم يستفيدوا منها شيئا في النهاية. نعم، إنّ الحياة وُجدتْ بكلّ أسف من أجل الحرب، وبحسب قول هوميروس” الحرب هي شغل الرجال”، لكن الإنجيل يُطمئننا بقوله: ” في الدنيا ساعة للحرب وساعة للسِّلم” Il y a un temps pour la guerre et un temps pour la paix)’)”.

وكان مقصد كانط من العبارة التي يقول فيها: ” سِلْمُ المقابر” هو السِّلْمُ الأبديّ والسّلم الأزليّ. فلْنَدعُ الله إذاً أنْ يُنْزِل سكينته وسلامه الأبديّ على مقبرة عين الحمام وعلى مقبرة العالية وعلى أية مقبرة في أرض بلادنا الواسعة دون النّظر إلى كونها مقبرة رسميّة أو غير رسميّة. إنّ سلام الله يحفّ كلّ المقابر لأنّها بمثابة الإقامة المُجاورة لمحكمة العدل الإلهيّ وللمقام الخالد الذي سنؤول إليه جميعاً سواء أكان في الجحيم أو في جنّات النّعيم. وهذه بعض المُقتطفات من ’’ L’ecclésiaste ’’(إنجيل الزارع، ويُقابله كتاب سليمان في الإسلام): ” لكل شيء زمان، ولكُلّ ما تحت الشمس وقت. فللميلاد زمان وللموت زمان، وللغرس زمان وللاجتثاث زمان، وللقتل زمان ولمُداواة الجراح زمان، وللهدم زمان وللبناء زمان. و كذلك للبكاء زمان وللضحك زمان، وللتشكّي زمان وللرّقص زمان، ولرمي الحجارة زمان ولالتقاطها زمان، وللتقبيل زمانٌ وللامتناع عن ذلك زمان. و للبحث زمان وللتضييع زمان، وللمحافظة زمان وللرّمْيِ زمان، وللتّمزيق زمان وللخياطة زمان، ولالتزام الصمت زمان وللكلام زمان، وللحبّ زمان وللكراهية زمان، وللحرب زمان وللسّلم زمان’’(نهاية الإقتباس).

وبعد ذلك نُشِرتْ سلسلة أخرى من ردود الفعل على صفحتي، وفيها تحية لذكرى الفقيد وذكر لآخر أمنياته. وهي الرّدود التي أشْعرَتْني بالحاجة لتقديم مزيد من الإيضاح. وفي هذا الخضمّ جاء في بعض التعليقات تكملة لما أشرتُ إليه من أسماء بعض وجوه الثورة الذين لم يُدْفنوا في العالية، مثل: خيدر، وموحند أولحاج، بن خدة ومهري، وآخرون بالتأكيد. هل كان قصدي مما نشرتُهُ أنْ أُشعل فتيل حرب المقابر بهذه المقابلة بين العالية وغيرها من المقابر؟ هل كُنْتُ أقصد تصنيف أبطال الثورة إلى فئتين: الشّهداء الحقيقيون والشهداء المُزيّفون، أو الذين ماتوا كضحايا والذين كانوا جلاّدين؟ هل كنتُ أهدف إلى التّذرّع بمشاكل الحاضر لكي أحيي صراعات الماضي وأبلور كراهيات جديدة؟

وهذا أحد أصدقاء الصفحة تفضّل بتلخيص نيتي من المنشور في قوله: “إنّ ما يُدهشني هو أنه لم يحظ بأي تكريم في حياته، ثُمّ يُلتزم بحداد ثمانية أيام بعد موته”. فعلاً ! إنّ للنِّظام رؤيته الخاصة حول الاعتراف والتكريم، وهي رؤية مبنية على حيلٍ حقيقية وإيمان مُزيّف، لأنه في الحقيقة لا يؤمن بأيّ شيء يتجاوز حدود إسفافه ومصالحه الضّيّقة. والجميع يعرف ذلك المثل القائل ” كي كان حي مشتاق تمرة وكي مات علقوا له العرجون”، وهو مثلٌ يُعدّ من “قيمنا وثوابتنا الوطنية”. ولا شك أنه لا فائدة من ضرب الميّت أو انتقاده وإعداد ملفّ بشأنه إذ يكفي أنه ساكت وماضٍ إلى شأنه بلا رجعة. وما يُنظّمُ بعد ذلك من تكريم لذكراه ما هو إلاّ احتفال بموته، إنّها تنهيدة ارتياح مكتومة وراء الحداد المُعلن عنه، وكأنهم يقولون: “ليذهب إلى الجحيم !” للتعبير عن الارتياح المستور وراء هالات التكريم والمظاهر الزّائفة. لكن، منْ ذا الذي يُصدّق هذه الكوميديا التي لا تريد أن تنتهي منذ 1962؟

ولقد عوّدَنا حُكّامُنا منذ الاستقلال على ما يأتي: إنهم يتباغضون وهم أحياء، وإذا مات أحدهم تظاهروا بالتوبة وادّعوا بأنّ المُصاب جلل وراحوا يتفنّنون في مدح الميّت الذي كان عدوّهم أو ضحيّتهم العائدة من المنفى في تابوت. إنّ الأجيال الجديدة تنظر إلى كلّ هذا وهي تتساءل لماذا لم تكنْ تلك الشخصيات التي توصف لهم بأنها “تاريخية” وبأنها في مقام “الأبطال” و “المؤسسين الأوائل”، لماذا لم يكن مِنْ حظّها أن تتولّى السلطة في بلدها؟ إنّ تلك السلطة قد تولاّها أشخاصٌ بدون ماضٍ ولا شهرة ولا مستوى فكريّ ولا كفاءة ولا أخلاق، وكلّ ما يملكونه هو القوة والجهل، لقد تربّعوا على مناصب الوظائف السّامية للدولة وراحوا يعيثون في الأرض فسادا تحت غطاء السلطة لأنهم لا يعرفون فعل الخير ولا يحبون أن يأتي منهم عمل صالح. فالشّر ليس نقيض الخير، بل هو العجز عن فعل الخير.

و ماذا يمكن أن يكون مصير بلد تُسيّرهُ حُثالتُهُ بدلاً من نخبته؟ إنه المصير الذي سُلِّطَ علينا منذ الاستقلال تحت اسم “النظام”، أي: انحطاط بخطى وئيدة على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والمدنية والأخلاقية والثقافية والتاريخية، وأموال البترول تستُرُ كلّ ذلك. والحثالة الحالية إرث عن حثالة أكثر منها إسفافاً. فمشكلة الجزائر حتى قبل الاستقلال كانت في السلطة التي تحكمها والتي لم يتمّ اختيارها أبداً، بل فُرِضَتْ على أيدي الذين يتحكمون في زمام القوة. ولقد جمعت تلك السلطة بين عاهتين تتمثلان في فقدانها للشرعية وفي انعدام كفاءتها. فبدلاً من الشرعية كانت القوّة وبدلاً من الكفاءة كان الخداع.

كيف يمكن تحقيق حُكمٍ شرعيّ وكُفء؟ وكيف يمكن استرجاع الثقة بين الشعب والدولة؟ ماذا علينا أنْ نفعله كي نتفادى المصير الذي آل إليه السوريّون والعراقيون واليمنيون والأفغان والصوماليون؟ إنّ الشعب وحده هو الذي بإمكانه أنْ يفرض الحلّ، لكنه لا يعي خطورة المسألة، كما أنه لا يملك الثقافة اللازمة لذلك، ولا الإرادة ولا الإمكانات. لقد تحمّس الشعب نسبياًّ للشأن السياسيّ بين 1989 و1992، وبعدها كان التّشرذم، والانزلاق صوب العنف، وتزوير اللعبة السّياسية، واستعمال التزوير الشامل لِنصل إلى مشهد سياسيّ يتجاوز حدود الخيال فظاعةً، مشهد مصطنعٍ وغير واقعيّ… إنّ الشّعب لمْ تَعُدْ تستهويه الأطُر التنظيمية الحالية لأنه لا يؤمن بها. إنّه لا يريد أنْ يموت مِنْ أجل الآخرين، من أجل المُعارضة أو الدّستور أو الديمقراطية والحريّات. أمّا الموت في سبيل الله ومن أجل تطبيق الشريعة أو قيام الدولة الإسلامية، فهناك بضعة ملايين لا زالت تحلم بذلك في الخفاء.

كان المُسافرون في باخرة “تيتانيك”، التي كان يُفترضُ أنها لا تغرق، يعيشون لحظات سعادة تامّة وهدوء شامل عندما وجدوا أنفسهم فجأةً، وفي أقلّ من ثلاث ساعات، في ليلة ليلاء غارقين في مياه المحيط الأطلسي الباردة، حيثُ لَفَظَ ثُلُثا الرُّكّاب أنفاسهم الأخيرة في الحين. ولنفرض أنّ ربّان السفينة والفريق العامل معه قدْ أُشْعِروا مسبقاً بالاصطدام الذي يهدد بالغرق: فهل يُعْقَلُ أنْ يتجاهلوا الخطر ويُخفوا الحقيقة على الرّكّاب فيواصلون سيرهم في نفس الاتّجاه؟ أمْ أنّهُمْ يُغيِّرون اتّجاه الإبحار ليتفادوا الخطر ويُعِدُّون العُدّة لأيّ مكروه قد يحدُث؟

إنّ حالة الجزائر كحالة التيتانيك، والفرق الوحيد بينهما أنّ بلادَنا تقترب من منطقة الخطر وسط أجراس الإنذار التي يُفضّل الفريق الحاكم تجاهلها كي لا يُزْعِجَ رُبان السفينة الذي انزوى في غرفته. إنّ بلادنا تتقدّمُ بتعنّتٍ نحو الانسداد، وهو الانسداد الاقتصادي والسياسي الذي سيضع على المحكّ لحمة الأمة، وكذا أمن الدولة ووحدة التراب الوطنيّ ومستقبل البلاد كُلّها.

 

لوسوار دالجيري 27 ديسمبر 2015

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى