بين الفكر والسياسة

شعوب الجزائر

بقلم نورالدين بوكروح

ان صيغة الجمع التي استعملها في العنوان موضوعة عن قصد لأن كل مغزى حديثي في هذا المقال يكمن فيما يظهر كتناقض فيه.

رغم كل الذي قلته عنه لا أعتقد أن بوتفليقة هو وحش نرجسي قفز من حلقة كابوسيه من تاريخنا، أو يمثل حالة استثنائية ووحيدة من ناحية النوع أو العدد في تاريخنا المؤسساتي. بداية حياته في المغرب أين ولد وأمضى حياته حتى استقلال الجزائر هي التي رسخت في عقليته الاعجاب الى حد الانبهار بالسلطة المطلقة التي يتمتع بها المخزن أو الملكية العلوية.

دخل الى الجزائر وحكومتها في نفس الوقت وسنه لا يتعدى 25 سنة ولم يكن قد عرف منصب عمل آخر قبلها. ووجد نفسه في الوقت والمكان المناسبين لتعلم حرفة الاستبداد عبر متابعة ممارسات بن بلة ومن بعده بومدين، الذين لم يكونا ليتركا السلطة بخيارهما لولا أن الأول خلع بانقلاب والثاني توفى فجأة.

وفي هذا الميدان تخرج كلاهما من مدرسة الزعيم مصالي حاج الذي أدان ثورة نوفمبر وقاومها لأنها لم تبدأ بمشيئته ولم تكن تحت قيادته. بعد هؤلاء، لم يكن الشاذلي، بوضياف وكافي ليتركوا السلطة من طوعهم. حتى الذين حلموا بها دون أن يصلو اليها مثل عباسي مدني الذي استنشق رائحة مسك الخلافة لفترة وجيزة كانوا سيجدون أسبابا وأعذارا لأن لا يتركوها. وتماما كما لن يتركها سعداني إذا ما غامرت بنا الأقدار ووصل اليها عبر القطار الذي تخفيه عن أعيننا قافلة العهدة الرابعة.

نتساءل لماذا لا تقفز الى أعين كل الناس في بعض الأحيان أشياء رغم أنها غاية الوضوح؟ لا يمكن الخروج من عدة قرون من الاستعمارات المتتالية والتنصب باطمئنان في أشكال حياة معاصرة مقلدين بذلك أمما أخرى، دون أن نتمكن قبل ذلك من القواعد والقوانين التي تسيرها.

لا يمكن أن نكون نسخة مطابقة لمواطنين “عاديين” دون المرور على خبرة اجتماعية طويلة وثقافة دولة حقوق وتربية مدنية وسياسية. فتماما مثلما توجد وراثة بيولوجية وجينية، توجد كذلك وراثة اجتماعية وثقافية.

بالنسبة لنا نحن الجزائريون، فأن تصوراتنا النفسية الموروثة عن أجدادنا والثقافة الشفويةوالريفية التي تلقيناها وممارساتنا الاجتماعية التي ترضخ لتقاليد بالية و شعائرية دينية لا تترك إلا القليل من المجال للعقلانية؛ كل هذه المعطيات لا تزال تتحكم في طرق تفكيرنا و تطبع السواد الأعظم من تصرفاتنا، فتقيهم بذلك من نفوذ زائد لمستجدات العصرنة تمام مثلما تحمي طبقة الأوزون الأرض من التعرض الزائد لأشعة الشمس.

لا يمكن لأنظمة اجتماعية وسياسية عصريةومتقدمة أن تتشكل في مدة 50 سنة فقط، في ظل غياب سوابق لحكم ذاتي لعدة قرون متتالية، و في غياب روابط اقتصادية و اجتماعية و سياسية بين أفراد المجموعة، وبإنتاج فكري شبه منعدم.

فنحن لم نتمكن بعد من تطوير هذا الوجه الخفي من شخصيتنا والذي تنبع منه الأفكار والتصرفات التي تدفعنا أحيانا إلى المشي عكس مسيرة التطور البشري، مثلما حدث بالأمس القريب مع “الظاهرة الأسلاموية”, وكما يحدث اليوم مع العهدة الرابعة التي نقبل من خلالها الدخول في فترة من التقهقر قد تقضي علينا.

نتظاهر أن كل شيء على ما يرام وأن حالتنا “عادية” ونفضل الاعتقاد أنه لا يوجد فرق بين إنسان لم يسبق له أن عرف الاستعمار،وآخر مرت عليه استعمارات سياسية وعسكرية وثقافية عديدة؛ و نضن أن الاثنين متساويين و يمكنهما لعب نفس الأدوار.

يمكن تبسيط الأمور باستعمال صورة قد تزعج قليلا لكني أخالها توضح الفكرة أكثر. خلال فترة الاحتلال الفرنسي كانت الجزائر بالنسبة للفرنسيين عبارة عن مستعمرة،وبالنسبة للجزائريين سجننا كبيرا بحجم بلد. بعد أكثر من قرن من الحبس تخللته بضع محاولات للهرب، تمكن السجناء أخيرا من التنظموالاتفاق على مخطط يحررهم من قيود سجانيهم.

وبدأ التمرد يوما وطال كل أجنحة السجن مستمرا سبع سنوات انتهت باستسلام الإدارة و كتائب سجانيها و رحيلهم، و هرب ال10 ملايين من السجناء دفعة واحدة. كان عندئذ على هؤلاء أن يتزودوا بهيئات أصبحت ضرورية لضمان بقائهم على قيد الحياة. لكن السجناء، باستثناء عدد قليل منهم درسوا أثناء قضاء فترتهم، لم يعرفوا إلا القليل عما قد تكون عليه دولة أو عن كيفية صناعة واحدة تناسبهم.

القليل الذي كانوا يعرفونه كان باركا تحت سيطرة تصورهم الدون-واعي للكون، و الذي يختلط فيه المعاصر مع التقليدي المحافظ؛ و تجتمع و تختلط فيه أفكار عديدة مع بعضها: الله, الرسول (صلعم), الخلفاء الراشدون منهم و غير الراشدين. لقد كانوا يرون في الدولة وجها للسلطة،للتسلط, للقيادة و للقوة المهيمنة التي تخضع لها القوى الأخرى.

كل صور الماضي التي كانت تحصيها الذاكرة السياسية للمتحررين الجدد كانت تصب في اتجاه نظرة السلطة المطلقة: الأقليد و ملوك ما قبل التاريخ، السلطان و أمراء الخلافات العربية الأمازيغية، الداي و الباي في العهد العثماني و الباشاغا و القايد خلال فترة السجن. فاضطرت الدولة الجديدة إذا، و من أجل كسب الشرعية، إلى السعي للتزود بواجهة جديدة, واجهة مخادعة: ضمان الخبز و البرنوس لقدامى السجناء, و توزيع الريع و الامتيازات على الخادمين الجدد.

الدولة الجزائرية التي ولدت من رحم هذا التصور وتلك الظروف لم تنبع من رضي مجموع السجناء بل تشكلت من تلقاء نفسها. وتأمن بذلك استمرار الأساليب التسلطية القديمة للحكم انطلاقا من حكم بن بلة، واستمر من بعده مع خلفائه، وصولا إلى الرئاسة الأبدية في عهد بوتفليقة. هذه هي الأشكال التي يعرفها الجزائريون وتلك كل الثقافة السياسية التي شهدوها مند قديم الزمان.

بين سنتي 2011 و2013, كتبت مساهمات نشرت في صحيفة Le Soir d’Algérie تطرقت من خلالها الى الربيع العربي. ولم يكن اهتمامي موجها نحو مظاهره أو نتائجه السياسية، بل نحو أسسه الثقافية و النفسية، و كانت نظرتي إليه فكرية و ثقافية. وراء تحركات الجماهير والخطابات السياسية، كنت أتفحص بمنتهى الدقة التيارات الفكرية التي تسقيها.

كنت ألاحظ عن قرب الحالة الجديدة للإنسان العربي المسلم وهو حائر بين اتجاهين تاريخيين مختلفين. ممزقا بين الخيار الديمقراطي والتجربة الدينية. وعندما وصل وقت الانتخابات حاولت أن أشرح كيف سينتج عن هده الصحوة السحرية، تصويت آلي. كنت أرى في سقوط الأنظمة تهاو لثقافة استبدادية يحملها على حد سواء الحاكم ورعيته «القابلة للاستبداد”.

إن الصراع ضد الاستبداد قد بدأ لتوه في بلادنا أين تحاول حفنة من الجزائريين التصدي لطفرة سياسية وأخلاقية: ترشح رجل مقعد بمرض معجز في ال 77 من عمره. وتحاول منع عودة ظهور أسطورة الرجل الواحد حتى وهو مقعد والوقوف ضد واحدة من أخر حالات عبادة الشخصية في العالم. من أجل الوقوف ضد حكم ميزته الرشوة وترقية المرتشينوضد خطر أن تتسبب العهدة الرابعة في تسليم مقاليد الحكم إلى مافيا سياسية-مالية.

جزء كبير من شعبا يحمل في ذاته “القابلية للاستعباد” كما كان يحمل في السابق “القابلية للاستعمار”. حتى بين الذين يتحلون بمظهر معاصر و عقلاني أو الذين الذين درسوا في مستويات عالية في الجزائر أو الخارج، نجد منهم من يغني و نحن في الألفية الثالثة أغنية الرجل الوحيد القديمة التي تقدم لنا رجلا مقعدا و صامتا في ال77 من العمر، على أنه الخيار الأحسن لمستقبل البلد و استقراره. من المسؤول عن هذه الوضعية التي نوجد عليها مند القدم؟ الله؟ التاريخ؟ اليد الأجنبية؟ أم بكل بساطة نحن أبا عن جد، عبر الأفكار الخاطئة التي تحركنا وتتحكم فينا دون أن نشعر.

حين ننظر إلى الأشياء من منظور القانون الدولي والأمم المتحدة أو باقي دول العالم فإننا نرى أننا شعب واحد. لكن عندما ننظر إليها بأعيننا نحن نرى أننا، تحت تأثير بعض الظروف، نصبح كأننا شعبين على الأقل (نجد أيضا انقسامات ثانوية أقل أهمية) يمكنهما الوصول إلى درجات عالية من التشدد والعنف. مثلما حدث في 1992 حيث أصبح هنالك من جهة “المسلمين”

ومن جهة أخرى “غير المسلمين”. كان الإسلاميون ينظرون إلى العلمانيين و الديمقراطيين على أنهم كفار و أعداء الإسلام، يجب قتالهم و لا يدفنون في مقابر المسلمين، كما سمعنا مؤخرا من الشيخ حمداش. في الجهة المقابلة يعتقد الآخرون أنه يجب إلقاء الإسلاميين في وسط البحر كما فعل الأمريكان ببن لادن.

والوقت الحاضر نجد أنفسنا مرة أخرى عدة شعوب داخل شعب واحد حيث يوجد في الوسط أغلبية غارقة في حياة يومية صعبة، لا تبالي بمن سيكون رئيسا في أفريل القادم لأنها تعتبر أن الانتخاب لم ولن يغير شيئا في حياتها. ويوجد فيإحدى الجهتين المعارضون للعهدة الرابعة الذين يتكلمون ويظهرون في الأحزاب و الجمعيات و المجتمع المدني. بينما يوجد في الجهة الأخرى المساندون لها، أعضاء النخبة السياسية و الاقتصادية و الأحزاب “الإدارية”.

كلاهما ينسب نفسه للشعب الذي صار بذلك لا يمثل كتلة منسجمة و جسدا موحدا و إنما صار متفرقا على شكل تياراتفكرية، طبقات اجتماعية, سكان مدن و سكان أرياف, شباب و كهول, مواطنون يرون في الرئيس المرشح مسيحا جديدا و آخرون يرون فيه شخصا مريضا و نرجسيا أضر بالبلد و المؤسسات و الإطارات النزيهة و المتمكنة.

المساندون لبوتفليقة ينظرون إليه كمجاهد ساهم في تحرير البلاد و يرون أنه مثل ما كان تاليران بالنسبة لبومدين، أو كيسنجر لنيكسون، أو شو أن لايلماو, و يرونه مثل أدينوير الذي أعاد بناء ألمانيا أو مانديلا الذي صالح البيض و السود. هم يحبون المبالغة والأساطير و يصورونه و يتصورونه رسولا و رجلا عظيما مسح ديوننا الخارجية و رفع احتياطات الصرف إلى أوجها. دفع من ماله ثمن الطرق والميترو و السدود التي شيدت. يلمحون أنه لو تخلى عن منصبه ستذوب احتياطات الصرف وتعود الحرب الأهلية و تتوقف مدا خيل النفط و تجف آباره ويكف المطر عن النزول.

الكثير من هؤلاء هم الذين كانوا بالأمس “القابلين للاستعمار” وهم اليوم وغدا وأبدا «القابلون للاستعباد”. في هذه الفئة من المواطنين الجاهلين، المرشحين للتواكل والسكن المجاني ومسح الديون؛ فيها يجد الداعون للعهدة الرابعة المساندة التي يبحثون عنها.

إن الحقيقة التي تأتي إلينا من بعيد والتي تطفو على سطحنا قادمة من أعماق التاريخ هي دائما الأفضل والأمتن. لكونها وصلت ألينا عبر العصور والأزمان فهي حتما “الحقيقة الحقيقية”. الفيلسوف الصيني “سونتزو” الدي أثقل سمعكم بذكره مند فترة قال قبل 25 قرنا: “العدد وحده لا يعطي التفوق”. هذه الحقيقة العسكرية صالحة أيضا في مجالات السياسة والعلم أين تأخذ أقلية صغيرة، بل بالغة الصغر، القرارات الصائبة والحاسمة التي تحل العقد وتحقق بدلك التقدم المادي والأخلاقي.

جيش التحرير لم يهزم الجيش الفرنسي بعدد الجنود أو كثرة السلاح أوحتى بالمعرفة الجيدة لميدان المعركة بل حقق النصر لأن قضيته كانت عادلة. فقد كان الشعب الجزائري يدافع عن أرضه وشرفه ويحارب في سبيل استقلاله، بينما جاء الجيش الفرنسي مطبقا لأوامر الجمهورية الرابعة بالحفاظ على مستعمرة يقيم فيها مليون أجنبي بين تسعة ملايين من الجزائريين. تعداد الجيش الفرنسي قارب المليون بينما لم يتجاوز عدد المجاهدين 30.000.

لكن عدد الجزائريين الذين كانوا يقاتلون إلى جانب فرنسا كان يفوق 100.000. كما أن الثورة لم تفجر من قبل كل الشعب ولا من قبل الأحزاب التي كانت تشكل الحركة الوطنية بل من قبل مجموعة من 22 جزائريا شكلت الجنة الثورية للوحدة والعمل CRUA. بعد ذلك فقط تم تجنيد الجماهير وفي بعض الأحيان إرغامها على المساهمة في تدعيم الثورة بالمال والمؤن و المخبأ إلى أن وصل استفتاء 3 جولية 1962 و الذي صوتت فيه الأغلبية الساحقة من الجزائريين البالغين لصالح الاستقلال.

يحمل مصطلح “الشعب” واحدا من أصعب المواضيع وأكثرها إبهاماوتميعا وهذا ما يجعله عرضة للمزايدة أو حتى الاحتيال. بالمفهوم النظري للكلمة، الشعب هو كل الناس بلا استثناء. لكن طريقة استعمالها في السياسة تسمح بتطبيقها على الناس كلهم أو جزء صغير منهم على حد سواء. والمستبدون الذين يتباهون دائما بوقوف الشعب معهم ما فتؤو يستغلون ويتلاعبون الضبابيةوالعمومية التي تميز الكلمة، فيسوقون صورة الرجل الواحد القائد وخلفه صفوف الجماهير المتراصة المتلاحمة. وبالتالي فان الفرد الذي يخرج من صفوف الجماهير مخالفا وواقفا لوحده يصبح هو الخصم و العدو.

لم يسبق و قامت واحدة من الثورات التحررية أو الاجتماعية التي عرفتها البشرية جمعاء عبر التاريخ بتجنيد الشعب بأكمله ليس لأن جميع أفراده لم يحملوا نفس الفكرة ولكن لأن جميعهم لا يقيمون بمكان واحد، ولا يستعدون في وقت واحد و لا يوجدون على نفس المستوى من المعلومات و لا يكون لديهم نفس درجة الوعي و التجند و ليس في صالحهم أن تتغير الأمور؛ ولعدة أسباب أخرى. حتما و دائما سيقف مقابلا للذين يريدون تغيير النظام السائد، أولئك الدين لهم مصلحة في الإبقاء عليه.

وكذلك دائما, فان المعارضون لشيء ما هم من يخرج للتظاهر ضده و ليس الذين معه, لكن هذا لا يعني أن الذين لا يخرجون يوافقون النظام أو يساندونه. من بين هؤلاء يوجد الذين لا يعرفون ما يحدث, و الذين يعرفون و لا يبالون به, و الذين يخشون تلقي ضربة أو رصاصة, و الذين يخشون على “خبزتهم” و الذين لا يرون ما يمكن أن يجنوه من ذلك.

استنتاجا منه فان ثورة شعبية أو تغييرا للنظام يمكن أن تحدثه الأقلية الصغرى, بل بالغة الصغر من الشعب, 1 أو 2 أو 3 بالمائة على الأكثر.

و لا يتطلب اكتساب مطلب اجتماعي أو إسقاط نظام فاسد أن ينتفض كل الشعب فهذا لن يعتبر ثورة بل طوفانا و نهاية للعالم. كم كان عدد التونسيين الذين أسقطوا بن علي؟ بضع مئات الآلاف من بين 10 ملايين تونسي. و كم من المصريين تمكنوا من ترحيل مبارك؟ مليون أو اثنين من أصل 80 مليونا,عندما وقف 5 أعضاء من حركة بركات على رصيف جامعة بوزريعة ليعبروا عن رفضهم للعهدة الرابعة ردت السلطة بابتسامة ساخرة, لكن هذا لم يمنعها من إرسال 10 أضعاف أو 20 ضعفا من قوى الأمن لتطويقهم. فمن أين يبدأ الحد الذي يمكن اعتباره كافيا لإنجاح معارضة كهذه؟ مع العلم أن 1 في المائة من الشعب فقط سيمثل 380.000 شخصا على الأقل.

ترجمة بوكروح وليد

جريدة الخبر21-3-2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى