أراء وتحاليلثقافة

  صالح بلعيد … باحث هاجسه الأمن اللغوي 

ثاموغلي

محمد أرزقي فراد 

ferradrezki@yahoo.fr

 2010.11.11

ملاحظة:

نشرت هذا المقال في ركن “ثاموغلي” سنة 2010م بجريدة الشروق اليومي. وبعد تعيين الدكتور صالح بلعيد رئيسا للمجلس الأعلى للغة العربية منذ أيام قليلة، ارتأيت أنه من المفيد إعادة نشره لتمكين الجمهور من الاطلاع على بعض أفكاره الخاصة بالمجال اللغوي في الجزائر. قراءة ممتعة.

 

عرفته منذ سنوات عن طريق نشاطات المجلس الأعلى للغة العربية، والتلاقي لدى دار الأمل للنشر بتيزي وزو. ثم تكررت اللقاءات فتدعم التعارف وتوثقت عرى الصداقة. صالح بلعيد باحث في اللسانيات وقضية الهوية، وصاحب قلم مكتاب، وفكر وقاد، يمارس وظيفة النقد بحثا عن الحقيقة، يكتب أكثر ممّا يتكلم، أثرى المكتبة الجزائرية بعدد هام من المؤلفات. يكون الدكتور صالح بلعيد حيث يكون النقاش حول مستقبل اللغة العربية، التي عشقها حتى النخاع، دون أن يفرّط في اللغة الأمازيغية التي يعالجها علاجا هادئا بغية إبعادها عن الطرح الإيديولوجي الذي يدمر أكثر مما يبني. صالح بلعيد يصدع بما يراه  صوابا، عندما يتعلق الأمر بمسألة علمية، متجاوزا بروتوكول المجاملة، لأنه يدرك أن النزاهة العلمية لا تفسد للود قضية. وسجية الدكتور صالح بلعيد أنه يجمع بين البحث العلمي والإبداع الأدبي ، فهو مغرم بكتابة المقامة الأدبية على طريقة الهمذاني والحريري. هذا ولم يخرج هذا الباحث من الفراغ، فهو ابن البويرة التي أسهم أبناؤها المشذاليون ( إمشذالن) في إثراء الحضارة الإسلامية  لقرون عديدة، وقد اعترف ابن خلدون أن العلامة ناصر الدين المشذالي قد ساهم إلى حد كبير في تجديد طرائق التدريس، بما أبدعه من الأساليب التربوية العقلانية طيلة مساره المهني. فهل نحن أمام مشروع مفكر يسم “ديوان الثقافة الجزائرية” ببصمته مستقبلا ؟

 

إشكالية الأمن اللغوي

لئن كانت  كلمة ” الأمن” مرتبطة في واقعنا إلى حد بعيد، بقضايا الغذاء والبيئة والطبيعة والعمران، فإن الباحث صالح بلعيد قد وسّع من مجالها، ليدرج فيه القضية اللغوية المرتبطة بالهوية الوطنية في كتابه الجديد الموسوم ” في الأمن اللغوي”. وقبل استعراض وجهة نظر الباحث لا بد من تقديم نبذة تاريخية عن حيثيات هذه القضية. فالمسألة اللغوية(الأمن اللغوي) تعدّ من تداعيات الانحطاط الذي أرخى سدوله على العالم الإسلامي، وقد زادها الاستعمار تفاقما خلال هيمنته على العرب والمسلمين، حين سعى في سياق تكريس سياسة ” فرّق تسد”، إلى تكسير اللغة العربية الفصحى الموحّدة، بحجة أنها لغة ” كلاسيكية” تعيش في ثنايا القواميس والمعاجم، أكثر من وجودها في الواقع المعيش، المتميّز بوجود لهجات عربية متنوعة رضعتها الأجيال من أثداء الأمهات، وأنها ( أي الفصحى) لغة مستعصية على العقل، تؤدي إلى تعطيله، إذ لا يمكن للإنسان أن يبدع إلا بلغة أمومته! والغاية من ذلك هو تفتيت اللغة العربية الفصحى، وتشجيع اللهجات الدارجة المرشّحة لتصير لغات وطنية – على غرار ما حدث للغة اللاتينية- لتكريس القطرية الضيقة التي تعد بمثابة إسفين في جدار الوحدة العربية. ولا تزال بعض الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري- كفرنسا مثلا- حاقدة على اللغة العربية، يتجلى ذلك بوضوح في وصف العاملين في نشر الكتاب العربي على أنهم إسلاميون متطرفون. هذا ولم تمر هذه السياسة الاستعمارية مرور الكرام على المجتمعات العربية، إذ عرفت الساحة ظهور أنصار هذه السياسة هنا وهناك، على امتداد الوطن العربي، يدعون إلى ترسيم الواقع اللغوي العربي المتعدد اللهجات، وإلى تقعيد عربية المغاربة، وعربية المشارقة كلتيهما على حدة.

 

تعدد مظاهر المسألة اللغوية

ومما زاد هذه القضية تفاقما أنها متشظية إلى حالات مختلفة، فقد اشتدت الدعوة في مطلع القرن الماضي بقيادة سلامة موسى إلى ترسيم اللهجة المصرية، وما زالت آثار ذلك قائمة في المجتمع المصري. أما  الجزيرة العربية وخليجها فإن المثل العربي القديم القائل” يداك أوكتا وفوك نفخ” ينطبق على أهلها الذين قصّروا في واجبهم إزاء لغتهم العربية، وبالغوا في تقديس اللغة الانجليزية إلى درجة أنهم جعلوها لغة الأعمال والتجارة وتربية أبنائهم في المنازل، والتواصل والتعليم، حتى تدحرجت اللغة العربية هناك إلى الخط الخلفي. وقد دقّ هناك الكثير من المثقفين ناقوس الخطر، إلى درجة أن أثيرت القضية في بعض خطب الجمعة، كما فعل الإمام صالح بن حميد سنة 2001، بالمسجد الحرام بمكة المكرمة حين قال:<< … يجب أن نُعلن ونُلقن ونرسم أننا بحاجة إلى الأمن اللغوي، كما أننا بحاجة إلى الأمن الفكري، والغذائي، والمائي، فكل أولئك من ضروريات الحياة، والعيش الكريم.>>

هذا ولم ينج المغرب الكبير من بدعة الدعوة إلى تقعيد اللهجات المغاربية، بحجة

تفجير الطاقات الإبداعية الساكنة في دواخل جداتنا وأمهاتنا ومجتمعنا العميق، وهو في الحقيقة حصاد لما زرعه الاستعمار في الماضي خاصة عندنا في الجزائر، أين أدرجت المخابر الفرنسية دراسة الألسن الأمازيغية والدارجة في المدارس العليا والجامعة للقضاء على اللغة العربية الموحّدة. والحاصل كما قال د/ صالح بلعيد أن اللغة العربية اليوم:<< تئن من أهلها الذين فقدوا ثقتهم في أنفسهم وفي لغتهم، فما سايروا اللغات، وما تقدموا بالأجنبيات، وما حصلت لهم الطفرات، فهم تبّع في كل الحالات(ص 8).>>

 

مقاربته للقضية اللغوية

يرى الدكتور صالح بلعيد أن سياسة الاستعمار من جهة، وتداعيات العولمة من جهة أخرى، قد تضافرت من أجل خلق المشكلة اللغوية في العالم العربي:<< ماذا أقول في موضوع الأمن اللغوي الذي كثر الحديث فيه منذ استفحال ظاهرة العولمة، وما تعرفه الهويات الوطنية والأصالة من تراجع،والشكوك التي تلحق اللغات الوطنية؛على أنها في طريق الانقراض، والسيطرة/الهيمنة الثقافية التي تتنامى بفعل لغات المستعمر القديم والحديث، واندفاع المواطنين لتعليم أبنائهم اللغات الأجنبية توهّما منهم أنها سبيل اللحاق بالركب (ص15.>>)

وفي الوقت الذي تشهد فيه التقارير الدولية بسمو مكانة اللغة العربية في عالم الحضارة، وتصنفها السلطات الأمريكية في خانة اللغات الإستراتيجية، وترسمها إسرائيل إلى جنب العبرية، فإن الأنظمة العربية والكثير من نخبنا، لا تعتبرها  حاملا طبيعيا لبناء مجتمع المعرفة في العالم العربي. وعبر الدكتور صالح بلعيد عن هذا الواقع المرّ بقوله:<< … ومن هنا يجب الإقرار بواقع مرّ، وهو اللامبالاة السائدة لدى عرب اليوم، والتي لا مثيل لها في تاريخ العرب والعربية،لامبالاة خلقت أزمة علاقة الأمة العربية بالعربية؛ حيث أصبحنا أمام سوء تقدير للغة العربية دون مراعاة أسبابها، ودون إبداء مقاومة التغيير، ورد الأمور إلى نصابها، فأين التغيير والمقاومة يا عرب اليوم؟! (ص15).>> وأكثر من ذلك فقد جعل الباحث صالح بلعيد هيبة الدولة في المحافل الدولية مرهونة بمدى اهتمامها بلغتها القومية:<< وهل قامت دولة في العالم دون لغة البلد، فإن قامت فهل حصلت لها قائمة بما قامت،وهل هي في قائمة الدول التي هي في قائمة القماقم، فأعدْ حسابك أيها القائل، فلا يمكن قيام دولة عربية دون لغة عربية يا بشر! (ص 18).>>

 

الأمن اللغوي وعلاقته بالقرار السياسي

كان الدكتور صالح بلعيد جريئا في الصدع بالنتيجة التي خلص إليها في أبحاثه، مؤداها أن هناك تلازما بين القرار السياسي، والأمن اللغوي المفضي إلى الأمن الحضاري والثقافي والفكري، لذا أشار بطريقته الخاصة إلى أن الإشكال يكمن في غياب قرار سياسي يعطي دفعا لتعميم استعمال العربية على مراحل:<< إذا دققنا في المصطلح” القرار السياسي” فيعنى به قرار السلطة الحاكمة في أعلى مستوياتها، والتي لها فعل الخميرة في العجين، حيث لها أثر التغيير الفعلي والسريع، فالناس على دين ملوكهم، وقد قال عثمان بن عفان(رضي الله عنه)) ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” وأؤكد القول وأضيف: إن الله يزع بالحاكم ما لايزع بالعالم(2)، وبالأمير ما لايزع بالأثير، وبالرئيس ما لا يزع بالكنيس، وبالملك ما لا يزع بالفلك، وبالزعيم ما لايزع بالعليم، وبالقائد ما لايزع بالرشيد… (ص41)>>

 

المسألة الأمازيغية

من الطبيعي أن تُهمّه المسالة الأمازيغية باعتبارها مكونا أساسا – إلى جنب العقيدة الإسلامية واللغة العربية- للهوية الجزائرية، وقد تناولها الدكتور صالح بلعيد بهدوء، منطلقا من موقعه كباحث، فطرح العلاقة بينهما طرحا تكامليا في وعاء الحضارة الإسلامية التي تحترم التنوع الثقافي والحضاري وتعتبر تعدد الألسن آية من آيات الله، وهذا خلافا للمقاربات الإيديولوجية الأحادية المتطرفة التي زرعت البغضاء والتنافر بين اللغتين. وهذه عيّنة ممّا كتبه الباحث عن البعد الحضاري الأمازيغي وعلاقته بالإسلام، في كتابه المخصص للقضية الأمازيغية(3) :<< نحن الأمازيغ الشعب الذي ينشد الحرية منذ وجوده على الأرض،وقد شحنته مختلف الأزمات بالثورات ضد الظلم، وثرنا على المستعمر الروماني والوندالي والفينيقي، والبيزنطي، وقاومنا العرب ثم رضينا بالإسلام دينا، وباللسان العربي لسانا… كما أن الإسلام لم ينكر ما أثبته التاريخ بأن الأصل أصل، والفرع فرع، والإسلام هو الذي علمنا التمسك بالإنيّة التي تعطي مستوى النّدية.(ص175.)>>.

ورغم كون الأمازيغية لغة أمومته، فهو لم يطلق العنان لعاطفته وذاتيته أثناء علاجها، بل تقيّد بشروط البحث العلمي التي تضع الموضوعية والنزاهة فوق الاعتبارات الذاتية، أو على الأقل هذا ما استخلصته من خلال مطالعتي للكتاب، الذي جاء في مقدمته قوله:<< وإن البحث في هذا المجال كان شغلنا منذ مدة بغية العمل على ترقية تراث هذه اللغة. والترقية هو العمل العلمي الهام الذي يخدم اللغات، فالحبّ وحده لا يكفي لحماية اللغة، فلا بدّ من سلاح الحماية، وهو البحث والدُّربة، وإجادة الاستعمال والعمل على التطور، وهذا كله لا يكون بالعَجَل، لأن العجل تارة يؤدي إلى الزلل، ولا يكون بالتعصب،لأن التعصب باب من أبواب الفتنة.(ص3)>>

 

مكامن الإشكال

أجمل الباحث صالح بلعيد  مشكلة الأمازيغية في ثلاثة محاور: أ- توطين الأمازيغية أي جعلها لغة وطنية. ب- ترسيمها الذي يعني – برأيه- إعطاءها البعد الدستوري لحمايتها من الإقصاء. ج- العناية بتدريسها في المنظومة التربوية، حتى تكون لغة قابلة للتعلم . وأولى أيضا أهمية خاصة لإشكالية كتابة الأمازيغية، فاستعرض الاحتمالات الثلاثة(حرف تيفيناغ / الحرف العربي / الحرف اللاتيني)، مع ذكر حجج كل طرف منها، فحجة أنصار تيفيناغ قائمة على اعتبار هذا الحرف جزء من الهوية الثقافية وبالتالي لا يمكن التفريط فيه. في حين يرى أنصار الحرف اللاتيني أنه يساعد على ربح الوقت والاستفادة من تكنولوجية الغرب، ويعفينا من بذل جهود إضافية لصناعة آلات جديدة ملائمة لكتابة الأمازيغية بحرف تيفيناغ.أما استعمال الحرف العربي في كتابتها فهو مبرّر بمقتضى رصيد الأربعة عشر قرنا من التعايش والمثاقفة بين الأمازيغية والعربية في بوتقة الحضارة الإسلامية.

 

اختيار الحرف العربي لكتابة الأمازيغية

وبعد استعراضه لإشكالية رسم اللغة الأمازيغية بطريقة موضوعية، أبدى رأيه في الطريقة المثلى التي يراها مناسبة لهذه اللغة، فانضم إلى الفئة التي ترى صلاحية الحرف العربي لها، لاعتبارات حضارية وعلمية يمكن أجمالها في النقاط التالية:

1- صلاحية الحرف العربي، مع وجود إمكانيات تحويره في بعض الأصوات.

2-  انتماء الأمازيغية إلى وعاء الحضارة الإسلامية،ووجود رصيد معرفي أمازيغي دُوّن بالحرف العربي خلال عهود الدول الإسلامية الأمازيغية في القرون الوسطى.

3- ارتباط الأمازيغية بالإسلام ، بحكم انتماء الناطقين بها إلى هذا الدين في  منطقة شمال إفريقيا.

4- اقتراض الأمازيغية نسبة كبيرة من رصيدها من اللغة العربية، خاصة في مجال المفاهيم المجردة.

5- كسر الحواجز النفسية بين المتعلمين واللغة الأمازيغية في حالة استعمال الحرف العربي.

6- تجاوز الحرف العربي لحدود الدول العربية، إذ صار مستعملا في العديد من الدول الأسيوية الإسلامية منذ القرون الوسطى لكتابة لغاتها.

وأشير في الأخير إلى أن الباحث صالح بلعيد قد تفطّن إلى غياب سياسة لغوية في الجزائر، وهو ما ذهب إليه السياسي المحنك عبد الحميد مهري، إذ سبق لهذا الأخير أن أشار إلى هذه النقطة في إحدى محاضراته التي ألقاها في مقر جمعية الجاحظية. والجدير بالذكر أيضا أن الباحثة خولة طالب الإبراهيمي قد تعرّضت  للقضية اللغوية في الجزائر، في أطروحة الدكتوراه في الآداب التي ناقشتها سنة 1991بجامعة ڤرونوبل بعنوان:” الجزائريون والمسالة اللغوية”. كما خصّص أيضا   الدكتور محمد العربي ولد خليفة كتابا لهذه القضية بعنوان:” المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية” صدر عن ديوان المطبوعات الجامعية ومؤسسة ثالة للنشر، سنة 2003. فمتى ستستفيد الطبقة السياسية من هذه الأعمال العلمية، الجديرة بالترجمة إلى قرارات سياسية مفيدة للأمن اللغوي؟

الهوامش

1-  صدر عن دار هومة بالجزائر العاصمة سنة 2010، جمع فيه ثلاث عشرة مقالة، تتمحور حول تعزيز وترقية اللغة العربية في الجزائر والعالم العربي.

2- صدر للدكتور صالح بلعيد كتاب بعنوان”… يزع بالحاكم ما لايزع بالعالم”

3- عنوانه ” في المسألة الأمازيغية”، صدر عن دار هومة سنة 1999، وهو عبارة عن دراسة علمية مفيدة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى