بين الفكر والسياسة

فكر مالك بن نبي (31):الإسلاموية و فكر مالك بن نبــي

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة س.عايـــدة

الجزائر محظوظة بإنجاب مفكر بقدر مالك بن نبي، لكنها  لم تستثمر فكره لتصبح بدورها منتجة للأفكار على الأقل لتستفيد هي منها ، مثلا في وقاية نفسها من المد الإسلاموي. لقد تعاملت معه كما تعاملت مع ثرواتها الطبيعية التي لم تحسن استغلالها أيضا لتصبح قوة اقتصادية. وباستثناء بعض العموميات و اللمحات كـ “القابلية للاستعمار” ، بقي فكره مجهولا لدى السواد الأعظم بما فيهم النخبة كما لو أنه لم يكن أبدا. الإسلاموية هي إثبات لانتصار الجهل ودليل على انحدار الإسلام إلى هاوية سحيقة إذا لم يتخلص من هذا المرض المزمن الذي تمكن منه، في حين أن فكر مالك بن نبي هو وعد للمستقبل وأفضل ترياق ضد هذه المصيبة بشرط أن يتحول إلى تيارٍ فكريٍّ في متناول العام والخاص.

 

عاصر بن نبي منظّرَ الإسلاموية، سيد قطب، بل و تواجه الاثنان بكتب متناظرة : فقد رد الثاني في كتابه “معالم في الطريق” على انتقادات الأول في”النزعة الإفريقية الأسيوية”. الأغلبية المسلمة اتبعت المصري الظلاميّ وليس الجزائري التنويري الذي لم يحظ بالإهتمام حتى من طرف جامعيي و مثقفي بلده.

امتزجت الحركة الإسلاموية مع الحركة الإصلاحية النهضوية  قبل أن يصبغها كل من المودودي و سيد قطب بطابع الأصولية المتطرفة. كانت لهذا الأخير نظرة مناوية (manichéenne ) للعالم الذي كان يراه مقسما بين دار الإسلام و دار الكفر، وبين مجتمع مسلم يطبق الإسلام بتشدد ومجتمع جاهلي يطبقه بفتور أولا يطبقه أصلا.

 

هل يمكننا الحديث عن علاقة سببية بين الفكر البنابي والإسلاموية التي خاطر البعض بتبنيها و دعمها؟ ولد بن نبي وقضى ست عشريات من بين السبع تقريبا التي عاشها في جزائر مستعمرة وعالم إسلامي مستعبد من طرف القوى العالمية، حيث كل انتفاضة فكرية أو سياسية تثير حماسة المسلمين و يرون فيها إشارة إلهية أو تيار تاريخي واعد. هكذا كان بن نبي يتلمس كل ما قد يحمل إشارة حياة في ما يحدث حوله، لذا كان إصلاحيا في شبابه (في سنوات العشرينيات 1920)، وهابيا في سنوات دراسته الباريسية (في سنوات الثلاثينيات1930) و معجبا بحسن البنا في نهاية سنوات الأربعينيات1940  قبل أن يسحب ثقته من الحركة التي كان يسيرها الإخوان المسلمون في 1954.

 

فقد بدا له الإصلاح حركة نهضة أخلاقية و ثقافية، و الوهابية ترجمة سياسية تهدف إلى إعادة مجد الإسلام في الأرض المقدسة، و “الإخوان المسلمين” قوة اجتماعية حاملة لمشروع حضاري، لكنه تراجع عن كل هذه الأوهام التي لا نجد لها أي أثر في كتبه.

 

تمحور فكر بن نبي حول الإسلام. لكن ماذا علينا أن نستنبط من هذا؟ هل كان باحثا إسلاميا، عالما، مصلحا، مفكرا إسلامويا ؟ في النهاية هو لا ينتمي إلى أي من هذه التصنيفات، هو ليس باحثا إسلاميا قام بدراسات أكاديمية لمحتوى و تاريخ الإسلام، هو ليس عالما دينيا خريج الجامعات الإسلامية، هو ليس مصلحا يقترح نظرة إسلامية للعالم أو مشعوذا إسلامويا ينادي بتأسيس نظام ديني لاهوتي.

 

ما يميز مالك بن نبي من المفكرين الإسلامويين هو نظرته و مقاربته التي تختلف عن الإشكاليات التي طرحوها و عن الحلول التي اقترحوها في آن… فلم يكن بن نبي عقلا تقليديا لكن عقلا تقنيا وعلميا، لم يكن تركيزه على الإسلام في حد ذاته بل كان يسعى لفهم إشكالية أوسع وأكبر، ألا وهي إشكالية “الحضارة”، وآثار الإنسان عبر الزمان والمكان لتحقيق مهمة الإنسانية في الأرض. لا يتعلق الأمر بفارق بسيط، لكن بانشغالين اثنين، و مجالين مختلفين تماما.

 

لم يأت بن نبي ليدافع عن الإسلام بل ليحلل مساره التاريخي ويقترح وسائل خاصة لتلهم سلوكات فكرية ، سياسية و اجتماعية قادرة على إخراجه من الانحطاط والتخلف الذي سقط فيه بعد ملحمة لامعة. فهو مفكر مسلم و ليس “مفكرا إسلاميّا”، اللقب الذي يناسب العديد من الشخصيات المبهمة. هو مفكر الحضارة الشاملة والاندماج الإنساني على الصعيد العالمي. لقد أصبح متخصصا في الغرب والروحانيات الأسيوية بنفس الدرجة التي تخصص بها في العالم الإسلامي. صار موضوعه “الحضارة الإنسانية” ولم يكن يحلم منذ أن ألف أول كتبه، “الظاهرة القرآنية”1947) )، سوى بالحضارة العالمية، بـ” الأومني–الإنسان” (Omni Homme ،عبارة لاتينية معناها كل البشر و كل الناس) والوصول بالديانات إلى “كلمة سواء”.

 

تتجه النماذج التي اختارها عبر كتبه أو المقالات الصحفية التي نشرها ما بين 1947 و وفاته في 31 أكتوبر1973 ، نحو تفسير عصري ومتحرر لقيم الإسلام، و تشير إلى مسعى متفتح ينادي بإصلاح نظرتنا للآخر. كما تقترح أن يعتبر المسلمون أنفسهم في “حالة ضرورة” و عليهم التصرف بناءا على ذلك لتحقيق التقارب بينهم و بين الديانات و الحضارات الأخرى.

 

حمل بن نبي مشروعا عنوانه السعي إلى نهضة العالم الإسلامي، ليس في شكله الثقافي والجيوسياسي القديم ، بل بتوجيهه نحو أشكال تنظيمية جديدة لم يشهدها من قبل و التي سماها منذ 1949 “العولمة”. كان يعتقد أن العالم الإسلامي لن ينهض من جديد انطلاقا من موروثة، بل يجب أن يتجدد، أن يتحول إلى أنماط أسمى في عالم توحد تقنيا و ثقافيا. كان يرى مساهمة العالم الإسلامي في هذا النظام الجديد من خلال مشاركة ذات طبيعة أخلاقية و روحية. لم يكن يطالب بأسلمة العالم، و لا توهم  أن تصير البلدان الإسلامية قوى عظمى.

 

بالنسبة لبن نبي، فالإسلام لم يُطبق على أصله الذي جاء به، بل تم تحريفه باكرا عن مساره. لم يكن يرى النهضة في أي شكل من أشكال العودة إلى الماضي، لكن  في مجهود فكري، أخلاقيّ و سياسي كبير يحضر العالم الإسلامي للدخول في سياق العولمة mondialisme (لقد كان سباقا في توظيف هذه العبارة في أواخر سنوات الأربعينيات).كتب في “وجهة العالم الإسلامي”(1954) :” لا يجب النظر للعالم الإسلامي كمجموعة اجتماعية معزولة، قادرة على استكمال تطورها بمفردها. بل دوره  في المسرح الإنساني هو دور الفاعل والشاهد في آن. لكن بدون شك، عليه أن يصل إلى مستوى الحضارة الحالية بأن يدرج في حساباته العصر الذري الذي يميزه العقل التقني بعمق “. لم يكن يتصور النهضة أو يطمح لأن تكون على شكل قوة عسكرية قادرة على الهيمنة على العالم، بل قوة أخلاقية و روحية: ” يبقى دوره (الإسلام)، خاصة، روحيا، كمعدل لشطط الفكر المادي و أنانية الفكر القومي“.

 

علينا أن نأخذ بمسلمة أولية مهمة بالنسبة له : فما نسميه “الحضارة الإسلامية” ما هو سوى نتاج انحراف  :”إن التطور الذي عُرف تحت تسمية”الحضارة الإسلامية” لم يكن سوى تكييفا للعقيدة الإسلامية مع الوضع الذي أعقب صفين. عانت المدارس الشرعية كثيرا لتحقيق التوافق مع سلطة حاكمة فرضت الوراثة كنظام حكم استبدادي – أي خارج المنطق الإسلامي الشوريّ-، و عليه فإن العقيدة الإسلامية ليست هي التي أفرزت الحضارة الإسلامية، بل بالعكس العقائد هي التي خضعت  لنظام  تم فرضه بالقوة. إن أي إعادة بناء للحضارة الإسلامية لابد أن يعيد سمو العقيدة النقية الذي دنسته صفين. إعادة البناء تلك تنطوي على ضرورة العودة إلى الإسلام، بمعنى و خصوصا تجريد النص القرآني من الشوائب الثلاثة: اللاهوتية القانونية و الفلسفية”.

كما يعتبر بن نبي أن الحركات التي صنفتها المذاهب السنية كحركات انشقاق مثل “الخوارج” و “المعتزلة “لم تكن سوى محاولات للرجوع إلى الفكرة القرآنية، الأولى على الصعيد السياسي و الثانية على الصعيد الفكري” (“وجهة العالم الإسلامي”).

 

ما معنى عبارة ” العودة إلى الإسلام” عند بن نبي؟ لقد رد على هذا السؤال في “شروط النهضة” (1949) :” تكمن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الجزائري في الإسلام، لكن في الإسلام المعاد النظر فيه، في الإسلام الاجتماعي”. العودة إلى المنبع، أي القرآن و السنة، تعني إعادة النظر في القواعد التي وضعها العلم القديم والفقه، و تأسيس نظرة للعالم تتكيف مع الآفاق الجديدة التي فتحتها الحياة، التقدم، العلم، والأوضاع الدولية المفروضة…

 

لا يجب و نحن نتابع فكر بن نبي أن ننتظر جرأة متمردة، لكنه كسر العديد من الطابوهات و فكك عُرى تاريخ العالم الإسلامي و نزع عنه القداسة التي أحاطه بها الفكر التقليدي. لم يكن بن نبي يصبو إلى إصلاح الإسلام بل الثقافة الإسلامية، و إصلاح الروح و نظرة إلى العالم التي تسيرها هذه الثقافة. هو لم يقترح مخططا لإعادة بناء العالم الإسلامي أو نموذج للإنسان المسلم، لكنه بيّن مجموعة من السبل و المقاصد  لذلك. لقد كان يتوقع من الاحتكاك مع العالم المعاصر شرارة ينطلق منها مسار نهضة فكرية، و حافز يحيي أجسادَ و أرواح المسلمين الخاملة والمحبوسة  في تطبيق حرفي وفردي لشعائر الإسلام، جاهلة بدورها وواجباتها تجاه العالم.

 

لقد رأى ظاهرة كهذه في الهند ،حيث” يبدو أن أول بارقة للنهضة الروحية  انفجرت في الروح الهندوسية مع اتصالها بالثقافة الغربية: هذه البارقة أضاءت خصوصا، حياة و آثار فيفيكاننادا“، الأمر الذي أكسبها  تجاوب و اهتمام الهند. و يواصل في نفس المقال : “ في بداية القرن، بُعث الفكر التقليدي من جديد، أي في الوقت الذي كان يجب أن يبعث، فكان قدرا محتوما أن يكون تمهيدا للفكر السياسي الذي شكل الهند المعاصرة… أعيد بعث روح الهند الأصيلة في جسد جديد. فاستعادت الهند الفتية الفكر الفاديكي لإحداث ثورتها“(” عالمية اللاعنف”،”الجمهورية الجزائرية” في 12ديسمبر1953) (« Universalité de la non-violence », « La République algérienne » du 12 décembre 1953).

 

كان بن نبي واقعيا و دقيقا، إذ كتب في”ميلاد مجتمع”(1962) :”لابد من إيجاد “فكرة” سامية تلحم الروحانية  بالجانب الاجتماعي، و تصنع مجددا تركيبة “الذات” المسلمة بطريقة تصير فيها هذه الأخيرة هي هي في المسجد أو في الشارع… يجب أن تصبح إعادة التنظيم و التوجيه هذه هي المهمة الأساسية في مخطط النهضة الإسلامية. فتحقيقها يمثل الشرط الأول أو فلنقل الشرط المسبق الذي يجعل من كل جهد سيبذل في إطار هذه النهضة فعالا“.

 

في حين اعتقد الإصلاح الإسلامي أنه وجد حل إشكالية التخلف في العودة إلى الماضي، رآه بن نبي في وثبة إلى الإمام، في توليفة بين القيم الروحية للإسلام والقيم الدنيوية في القرن العشرين، بين الأصالة والفعالية، بين روح القرآن والفكر الديكارتي. لم يؤمن أبدا بإمكانية انبعاث العالم الإسلامي خارج إطار شامل توحد فيه الوسائل الروحية والمادية للإنسانية: “العودة إلى السلف، كما تطرحه الحركة الإصلاحية الكلاسيكية، لا يسير في اتجاه سياق الأحداث التاريخية. فهو يطمح إلى انزلاق لا يأخذ بالإنسان إلى عهد الوعي، لكن إلى عهد العلوم اللاهوتية، بمعنى أن يرجعه إلى نموذج الماضي، إلى فترة ما بعد معركة صفين. هو إذن إصلاح علماء دين، يمس قليلا أو لا تمس إطلاقا الجماهير الإنسانية“(“وجهة العالم الإسلامي”).

 

لقد كان يدين الميل المرضي لتقديس الإسلام التاريخي، و قام بتمييز واضح بين الإسلام و ترجمته الاجتماعية :”هذا التمييز ضروري للحديث عن النقائص بدون “الرعب” الذي يتملك المسلم عندما يريد الخوض في الجوانب المرضية لإشكاليات العالم الإسلامي…غالبا ما يستسلم عقله لهذا الرعب ويجد نفسه مندفعا للتبرير، ومبتعدا بذلك عن هذه الإشكاليات وفحواها الحقيقي. هو يعتقد نفسه مجبرا – وهو يتقاسم هذا العيب مع كل مؤمني باقي الملل – أن يجعل من هذا المحتوى مثاليا، أن يجمله بمعطيات ذاتية، ليركب إجمالا في روحه صورة مداهنة لدينه…  يحدث هذا التبرير بكيفيتين- إما باستبدال الشيء الموضوعي بالإحساس الذاتي، أو باستبدال حاضر محروم بماض رائع –  وهو ما يجعل العلاج الاجتماعي مستحيلا… إن .استبدال حقيقة من الحاضر بصورة من الماضي بدهاء، يمكن أن يحوّل الحل من الناحية النفسية استحالة حقيقية“(“النزعة الإفريقية الآسيوية”1956).

رفض بن نبي تقزيم الرسالة النبوية إلى مجرد دور الفقيه الذي يتشبث بالأحكام حرفيا، إذ كتب في مقاله ( “محمد المقدس” في “الجمهورية الجزائرية” عدد 17 جويلية 1950): (« Mohammed le saint », « La République Algérienne » du 17 juillet 1950) ” إن مجتمعا بدائيا لم يكتشف بعد قيمه الأخلاقية، ومجتمع منحط فقد تلك القيم، يلصق كليهما صورة الفقيه بالرسول. يفتقد كليهما لمعنى القدسية، فالأول ينتظر التعاليم والثاني يريد المحافظة على تعاليمه. في كل مجتمع متخلف، يحتل “الفقه” و الشرع مكانة جد مرموقة… لا ينحصر دور الرسول في مجرد حمل للأحكام الفقهية من حلال و حرام، هو يحمل أكثر من هذا. لم يدِن المسيح خطيئة السامرية التي أنكرها المنافقون كي تعاقب وفق” الشرع”. كما لم يدن محمد الآثم الذي يُتهم أمامه و عليه علامات التوبة… كانت تعاليمه تحدد، بأمثلة دامغة، القيم الإسلامية و التي لم تكن لا في باب العقيدة و لا الشرائع… إلى كل عباد العصور المنافقة، إلى”فقه” المجتمعات المتخلفة، إلى كل من ينظرون إلى الرسول كمجرد فقيه، يوجه القرآن تعنيفا لهذا المرض الفتاك :” فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ”(سور ة الماعون 4-7)”.

يمكن أن نضيف أن  هذا المعنى بالضبط الذي أراد المسيح نفسه تبليغه من خلال هذه الرسالة :”إليكم أنتم أيضا،أيّها الفقهاء، الويل لكم ! لأنكم تكلفون البشر أكثر مما يطيقون، في حين لا تمسكم أنتم هذه الأعباء قيد أنملة” (الإنجيل  II،46-47 )”.

 

كتب بن نبي في مقال آخر(“ماذا أعرف عن الإسلام”العدد 8، جانفي 1972) («  Que sais-je de l’islam » N° 8, janvier 1972):”عندما يصبح الدين عبارة عن تشكيلة من العبارات التي تحفظ عن ظهر قلب، مجرد مجموعة حركات تُؤدَّى آليا، ممكن أن يفرغ بسهولة من محتواه الحقيقي إلى مجرد عبادات لرموزه و معجزاته، بدل الانشغال بدلالاتها. إذن، عندما يغتصب الدال مكان المدلول ، فهي عودة إلى السحر،هي هيمنة الناسك ، ثم المتعصب ،و بالنهاية المشعوذ. ومن المفيد هنا التذكير بالحكمة الصينية التي قالها غارودي (Garaudy) و التي استقاها من الفكر البوذي :”عندما يشير الإصبع إلى القمر، ينظر الأحمق إلى الأصبع”، بمعنى أن تأخذ الإشارة مكان المشار إليه، هي الحماقة بعينيها عندما تأخذ اسم ثقافة “.

 

كان بن نبي متمكنا من الوسائل الفكرية والعلمية لفهم أسباب الوضع الاجتماعي والتاريخي للإسلام، أثار عمل البشر عليه وعدم قدرة المسلمين على العيش بالإسلام بشكل أكثر احتراما :“ليس على الإسلام الخالد أن يغطي أو يبرر بطريقة أو بأخرى ضعف نظام اعتبر مسلما… لقد فقد المسلم الممارسة الاجتماعية للإسلام“(“النزعة الإفريقية الأسيوية”).

لفت بن نبي النظر في “ميلاد مجتمع” إلى”انبهار المصلين بالحقيقة الإسلامية وهم يستمعون لخطب الجمعة، ملتفين حول المنبر. كلمات الإمام المتساقطة على آذانهم الخاشعة تزعزعهم. و أكثر من مرة نرى مصليا يغرق في دموعه حين يتأثر الإمام نفسه ويرتعش صوته. لكن بمجرد أن يفرغ المصلي من صلاته، فإن”الحقيقة” التي هزته بقيت في المسجد، للأسف هي لا تتبعه إلى الشارع. فمع مغادرته المسجد ينتقل المسلم من حال إلى حال. وهذا يقودنا إلى إثبات حقيقة الإنفصال بين الجانبين الروحي و الاجتماعي، والقطيعة بين الحياة والمبدأ. دون شك، يعود تاريخ هذه القطيعة إلى أمد بعيد. فقد بدأت بقطيعة بين ما هو روحي و ما هو سياسي، بين الدولة و الفكرة الدينية. يمكن أن نؤرخ لها بمعركة صفين بين علي و معاوية… لكن آثارها امتدت في العالم الإسلامي كمرض استفحل لأنه لم يعالج من البداية. كل حقيقة لا تؤثر على الثلاثية الاجتماعية للأشخاص، الأفكار و الأشياء، هي حقيقة ميتة. كل كلمة لا تحمل بذرة فكرة تتحول إلى سلوك هي كلمة بلا معنى، كلمة ميتة مدفونة فيما يشبه المقبرة و التي نسميها نحن  قاموسا“.

هكذا يبدو المسلم لبن نبي :” الجاهل الوحيد بقيم الآخرين“،و”الضمير الوحيد الذي لا يشارك في القضايا العالمية.لا نجده لا في المناقشات الدولية، و لا في دوامة الأفكار الناتجة عن صراع المذاهب الاجتماعية و الفلسفية التي تتقاسمها الإنسانية في الوقت الراهن. هذه النفسية المنفردة تبلور انعدام فعاليّة العالم الإسلامي على الصعيد العالمي” .

 

لم يغذِ بن نبي نفسه و لا غيره بالأوهام، من منطلق وعيه بخطورة وضع العالم الإسلامي. و ربما ما كبحهُ للمضيّ إلى عمق فكره من خلال كتاباته هو خوفه من أن يُعارض، أن يصدِم ، أن يُسبب اليأس و الإحباط، لكنه لم ينخدع أبدا بواقع العالم الإسلامي.

في أكتوبر 1959 بالقاهرة و ردا على سؤال طالب سوداني حول “حتمية” هداية العالم للإسلام، قال بأسلوب لبق:”لا ينتظر العالم منا الرسالة الإسلامية بل كل رسالة تحمل له الخير. إذن الإشكالية هي معرفة إذا ما كانت الحالة المادية والمعنوية للإنسانية الحالية تستوجب ضرورة أساسية قد يستوفيها الإسلام. إذا ما كان هذا هو الوضع سأقول إن العالم ينتظر رسالتنا. و بالتالي لابد علينا التأكد من وجود هذه الضرورة“.

ربما بن نبي هو المفكر الأول الذي ربط علاقة متبادلة بين”المؤمن” و “المواطن”. كتب في”فكرة كمنويلث إسلامي” في أواخر سنوات الخمسينيات:”من المؤكد أن المؤمن الجيد هو بالضرورة مواطن صالح، حتى فيما يتعلق بمواطنين من عقائد أخرى… المؤمن يحمل في نفسه المشاكل التي تواجه المواطن… عالم أفكارنا هو ما يحمل الشر وأسباب أزمة العالم الإسلامي. هذه الملاحظة يمكن إن تترجم بطريقة مختلفة هنا بالقول إن المؤمن يحمل في نفسه المشاكل التي يواجهها المواطن… إذن اليوم مشكل مواطن أي بلد إسلامي يطرح من نفس العمق الاجتماعي الذي يطرح به مشكل أخيه في الدين في وطن آخر. إذن المشكل الذي يطرح بالأساس هو مشكل” المؤمن“.

لو بحثنا عن معنى حياة بن نبي، نجده قد لخصها في مدونة في 13 فيفري 1958:”إذا أردت تلخيص حياتي منذ سنة 1936، أعتقد إن المفهوم الأصلح الذي أراه هو طبيعة الحب الذي طالما حملته للصور السامية للحياة والتي أوجزها في كلمة الحضارة. دائما ما أثر فيّ مشهد الحضارة. وإذا لخصت حياتي الآن فهي عبارة عن محاولة لتمرير هذه العاطفة، أي حب الحضارة هذا إلى من حولي“.

 

يمكن أن نسمي” البنابية” تلك النظرة الإنسانية التي أرادت التقريب ليس فقط بين ديانات الكتب السماوية لكن بين كل روحانيات العالم بالنظر إلى إنسانية موحدة بثقافة عالمية أساسها القبول المتبادل والتعاون من أجل الخير المشترك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى