بين الفكر والسياسة

فكر مالك بن نبي(34):الأفكار الميِّتــة والأفكار المُمِيتة

بقلم: نور الدين بوكروح.

ترجمة: عبد الحميد بن حسان.                

إنّ الأفكار ليست هائمة على وجهها في التاريخ بمفردها، لأنها بحاجة إلى وسط. فلا وجود لها إلاّ في عقل الإنسان، ولا أثر لها إلاّ عليه، والفكرة الواحدة يمكن أن تولد في عقل فرد واحد، ثمّ تنتشر بعد ذلك لتشمل الجماعة كلها. وهذا ينطبق على الأنبياء والزعماء السياسيين مثل ( الإسكندر الأكبر، وماركس، وهتلر، وماو…)، كما ينطبق على أصحاب العبقرية العلمية. وكثيرا ما تنتج عن انتشار الفكرة حروبٌ، و اكتشافات، وفلسفات مثالية أو تقدّم اجتماعي كبير. و هذه هي النقطة التي أراد بن نبي أن يقف عندها لأنه لم يكن يسعى إلى التنظير بقدر ما كان يسعى إلى إيجاد حلول لمشاكل ملموسة.

 

وبن نبي يتراءى له في مجال فكرةٍ ما، كالإسلام مثلاً، عدد معين من “الأفكار الميِّتة” (التي لمْ تَعُدْ عمليَّةً، و لم تعد قادرة على تمثيل التطور، و تسُدُّ الطريق أمام التطور، ولم تَعُدْ تُنْتِجُ غير وضعيات متدهورة)، وبجانبها مباشرة مجموعة من “الأفكار المُمِيتة” (التي تمّ استيرادها من محيط ثقافي آخر، والتي لا تقبل الاندماج مع المحيط الذي اقتُرِحَتْ عليه أو فُرِضَتْ عليه، والتي تمسّ بالتوازنات الموجودة في المجتمع).

 

إنّ “الأفكارالميِّتة” تأتي من العامل الوراثي الإجتماعي، أما “الأفكار المميتة” فهي تلك التي استُعيرَتْ من ثقافات أخرى بدون ترشيح. يقول بن نبي: “لكنه إذا كان لا بدّ من التمييز، فإننا نقول إنّ الأفكار الميتة الموروثة عن مجتمع ما بعد الموحدين ستبدو لنا أكثر فتكاً بكياننا… فهذه أفكار وُلِدتْ تحت منارات جامع القرويين والزيتونة والأزهر خلال القرون التي جاءت بعد الموحِّدين. وما دُمنا لم نتخلص منها بمجهود شامل، فإنها ستمثِّلُ الفيروسات التي تنخر عظام الكيان الإسلاميِّ من الداخل. والفكرة الميّتة هي التي تؤدّي إلى الفكرة المُميتة في المجتمع الإسلاميِّ… وعقلية ما بعد الموحِّدين هي التي تقوم بإفراز الأفكار الميِّتة من جهة و تمتص الأفكار المُميتة من  جهة أخرى. إن خاصية التبادل الشعريّ هذه تطرح بوجهها الثاني مشكلة ينبغي الاحتراز من طرحها بشكل مقلوب. فالأمر لا يتعلق بالتساؤل عن سبب وجود عناصر مميتة في الثقافة الغربية، بل بالتساؤل عن السبب الذي يدفع بالنخبة المسلمة إلى الجري وراء تلك العناصر. والعنصر المُميت الذي نصادفه في هذا السياق الثقافي ليس إلاّ نوعا من النفايات، أو هو الجزء الميِّت من تلك الحضارة الغربية. وإذا كانت عقلية ما بعد الموحِّدين تتجه إلى جمع تلك النفايات من العواصم الغربية، فاللوم يجب أن يُوجَّه إلى تلك النخبة وحدها “(“مشكلة الأفكار”).

 

وإذا ما تُرْجمَتْ هذه الكلمات إلى لغة البيولوجيا فإنها تجد ما يُكافئها في حياة الخلايا. وقد سجّل جوناس سالك (Jonas Salk) ،صاحب جائزة نوبل، في كتابه ( “استعارات بيولوجية”) : “إنه بالإضافة إلى الأنظمة المُعدِّلة على مستوى الخلية نفسها وعلى مستوى الجسم الحي، والتي يتمثل دورها في الحفاظ على نظام الإستمرارية في المحيط الداخلي، فإنَّ هناك أنظمة كاملة من الخلايا تتمثل مهمتها في معالجة مشاكل التكيّف مع المحيط الخارجيّ. ذلك أن بعض التأثيرات الخارجية تكون ضارّة، فيتوجّب التعرّف عليها بوصفها ضارّة ومعالجتها على ذلك الأساس. وإنّ الخلايا التي تتكفل بهذا النوع من العلاقة بالمحيط الخارجي هي خلايا الجهاز العصبي وخلايا جهاز المناعة… وهذا الجهاز الأخير هو الذي يحمي الجسم ضد الغُزاة الأجانب وضد الأجسام الأجنبية عن ذلك الجسم مهما كان نوعها. إنه جهاز يسهر على سلامة الجسم. وهو يردّ الفعل بطريقة غريزية ضد التأثيرات التي بدا عليها أنها ضارة خلال ما مضى من مسار التطوّر، لكنه ليس بالنظام الذي لا يخطىء في أحكامه، إذ يمكن أن يلتفّ ضدَّ أنسجة الجسم الذي ينتمي إليه هو”.

 

إنَّ المسلمين، في جهلهم بهذه الاعتبارات، قد وجدوا أنفسهم في وضعية فَقَدوا فيها كُلاًّ مِنْ أصالتهم وفعّاليتهم، ذلك أنهم لم يبقوا أوفياء لنماذجهم الكلية الأصلية، ولم يتبنَّوا أفكار الغير. يقول بن نبي: “إنّ المجتمع الإسلامي يُعاني من السخط الإلهي  Némésis الصادر من النماذج الكُلِّية في محيطه الثقافي بالذات، كما يعاني من الانتقام الشديد على يد الأفكار التي استعارها من أوروبا دون نظر في الشروط التي من شأنها أن تُحافظ لها على قيمتها الإجتماعية. وينجم عن ذلك فقدان الحيوية في الأفكار الموروثة وفي الأفكار المُكْتَسَبَةِ، وهو الأمر الذي يُخِلُّ إخلالاً خطيرا بالتطور المعنوي والمادي في العالم الإسلامي. والنتائج الإجتماعية لهذا الإنهيار القيمي هي التي نُشاهدُها في شكل غياب تام للفعالية، ونقَص مُتعدِّدِ الأوجه في أنشطتنا الاجتماعية. إننا نجد من جهة أن تلك الأفكار التي أثبتت فعاليتها في تشييد الحضارة الإسلامية منذ ألف سنة صارت اليوم غير فعّالة وكأنها فقدتْ صلتها بالحقيقة الواقعة. ومن جهة أخرى نجد أن أفكار أوروبا التي شيّدتْ ما نُسمّيه بالحضارة الأوروبية قد فقدتْ فعاليتها في العالم الإسلامي الحالي. وسلوكنا اليوم مُدَنَّسٌ بخيانة مزدوجة. فقد انفصل المسلمون عن النماذج الكُلِّيَّةِ لمحيطهم الثقافي الأصلي، كما لم يُرْسوا قواعد الإتصال بالمحيط الثقافي الأوروبي بَعْدُ كما فعلت اليابان… إنّ المجتمع الإسلامي اليوم يدفع ثمن خيانة النماذج الكُلِّيَّة… وهي اللحظة الأليمة التي يشهد فيها المسلم تمزُّقاً إلى شطرين: فهو المسلم الملتزم الذي يقيم صلواته في المسجد، ويخرج من المسجد ليصير ذلك المسلم العمليّ الغارق في عالم آخر” (“مشكلة الأفكار”)

ليس من السهل أن يُغيِّر المجتمع أفكاره. فلوْ فُرِضَ عليه تحوّلٌ جذريٌّ يعتدي على معتقداته وإيمانه تَظَاهَرَ بالتكيف، لكنه في الحقيقة منغلق على نفسه، وهو ينتظر اللحظة المناسبة ليفكَّ كل الأغلال المفروضة عليه. وهذا ما حدث في تركيا مع مصطفى كمال، وفي إيران مع الشاه، وفي أفغانستان مع النظام الشيوعيّ، أي في تلك البلدان التي انهارتْ فيها البُنى الإيديولوجية المفروضة من الخارج والتي لا تتناسب مع النماذج الكلِّيَّة والأفكار المطبوعة في اللاّوعْيِ الجماعيّ الإسلاميّ.

 

وممّا سجّله أحدُ المُلاحظين في الفترة التي كان فيها أتاتورك يطبق إصلاحاته الهادفة إلى إخراج تركيا من الإسلام: “إنّ الأتراك سيبقون مسلمين من وجهة النظر النفسية حتى ولو فقدوا إيمانهم كله: فقد كوّنهم الإسلام. وهذا بالضبط هو السبب الذي دعاني إلى الإعتقاد القاطع بوجود وحدة إسلامية جديدة قائمة على التشابه النفسيّ ووحدة التقاليد، وليس على العقيدة الدينية”. وبعد هذا بستين سنة أثبتت الحياة السياسية في تركيا صحة هذا الرأي. وهذه الأسباب نفسها هي التي كانت وراء اكتساح الخطاب الإسلاموي لكل الإيديولوجيات اللائكية (الإشتراكية، البعثية، والشيوعية) في البلدان الإسلامية التي شهدتْ نوعا من الإنفتاح في حياتها السياسية خلال العشريات الأخيرة. فقد عاشت البلدان الإسلامية كُلاًّ من اللائكية والاشتراكية والشيوعية والبعثية كأصنافٍ من العنف الذي مورس عليها. ذلك أن الشعوب رفضت تلك الإيديولوجيات التي وجدتْ أنها ليست “أصيلة”، بل إنها أثبتت أنها لم تكن “فعالة” من الناحية الاقتصادية.

 

وبن نبي يُطْلِق على هذه الأنواع من الفشل اسم ” لعنة الأفكار المخدوعة” la Némésis des idées trahies ، ويقول في “مشلكة الأفكار”: “الفكرة الميتة هي الفكرة التي تمّتْ خيانة أصولها، وهي الفكرة التي حادتْ عن نهج نموذجها الأصلي، وهي بذلك فاقدة لجذورها التي كانت تربطها ببلازماها الثقافي الأصلي. والفكرة المميتة هي الفكرة التي فقدتْ هويتها وقيمتها الثقافية بعد أنْ فقدتْ جذورها التي بقيت في مكانها، أي في محيطها الثقافي الأصلي. ومن كلا الوجهين فالأمر يتعلق بخيانة الأفكار لتصير سلبية أو رديئة… إنّ الأفكار المقتولة والأفكار المخدوعة ينتقم بعضها من الآخر. ومن المجازفة أن نأخذ منذ البدء بحل أمريكي أو حل ماركسي لنطبقه على مشكلة مطروحة في العالم الإسلامي لأننا بإزاء مجتمعيْن إمَّا أنهما مُتباينان في العمر، وإما أنهما متجهان في اتجاهين مختلفين“. ومثل هذه الوضعيات وُجِدَتْ في أماكن أخرى: فالإتحاد السوفياتي فَقَدَ عِلَّةَ وجوده بعد أن ثبت بطلان الفكرة الشيوعية، ومثل ذلك يوغسلافيا. فكلتا هاتين الدولتين انهارت كما ينهار قصر من ورق. أما الجزء الشيوعي من ألمانيا فقد انضمَّ إلى الدولة الأمّ، كما ستعود الكوريتان يوماً إلى وحدتهما.

 

إنّ أورتيغا إي غاست Ortega Y Gasset يتحدث عن “تمويه تاريخي” بخصوص الأفكار التي لا جذور لها في (الأنا) العميق للشعوب التي فُرِضَتْ عليها، ويقول في كتاب “انتفاضة الجماهير”: “إنّ كل حدث قائم على تمويه تاريخي فيه حقيقتان تعلو الواحدة منهما الأخرى: فإحداهما عميقة، فعلية وملموسة، والأخرى ظاهرة، عَرَضِيَّة وسطحيّة… والشعوب الجديدة لا أفكار لها. فعندما تنمو هذه الشعوب في وسط تنتشر فيه أو ماتت فيه ثقافة قديمة، فهي تحتمي وراء الفكرة التي توفرها لها تلك الثقافة القديمة الميت”’. وعلى هذا الأساس فـ أورتيغا يرى أن روسيا هي ” شعب في طور النشأة” ، وأنّ أمريكا ” شعب بدائي، مُمَوَّهٌ بالابتكارات الأخيرة “.

 

وإلى هذا الرأي يذهب جوستاف لوبون Gustave Le Bon ، إذ يقول:  “إنّ دور الأفكار الرائدة كان دوما من الرجحان بحيث لم تستطع الشعوب أبداً أن تُغيِّرها دون أن تُغيِّر مجرى تاريخها كذلك…”. وقبل هذا المقال ببعض العشريات كان جوستاف لوبون قد سجل هذه الملاحظة في كتاب (سيكولوجية الجماهير Psychologie des foules):  “إنّ الهيجانات الكبرى التي تسبق تحوُّلاَت الحضارة تبدو لأول وهلة مُحدَّدةً بتحوّلات سياسية معتبرة، مثل غزو الشعوب أو بالمقابل قيام أسرٍ حاكمة. لكن الدراسة المتأنِّية لهذه الأحداث تكشف عادة عن أنّ السبب الحقيقي الذي يقف وراء الأسباب الظاهرية هو تعديل عميق في أفكار الشعوب… فالتحوّلات الوحيدة التي تكتسي أهمية، وهي التي يأتي منها تجديد الحضارات، هي التي تحدث في الآراء والمفاهيم والمعتقدات“. وكان فرويد (Freud) كثيرا ما يذكر جوستاف لوبون، هذا الطبيب، الأنثروبولوجي وعالِم الاجتماع، ومؤسس علم نفس الجماعات. وبعد فرويد كتب خوسيه أورتيغا إي غاست (José Ortega Y Gasset  ) يقول: “إنّ التحولات المصيرية في الإنسانية هي تحولات في المعتقدات(4)’’. لكن مونتيسكيو كان قد حذَّر قبلهم بزمن ليس بالقصير عندما قال: ” حَرِيٌّ بنا أنْ نتفادى تغيير الروح العامة لوطنٍ ما”.

 

وإنْ لم تجد الأفكار ـ الصحيحة أو الخاطئة على السواء ـ في منبتها إطارا مناسبا تتحقق فيه، فهي تبحث في أماكن أخرى عن الشروط المناسبة لترويجها. إنها تبحث عن منفى آمن كما فعلت البوذية في الصين والمسيحية في أوروبا والشيوعية في روسيا…إلخ. فقد اضطرت البوذية التي وُلِدتْ في الهند أن تهاجر إلى الصين لعجزها عن منافسة الهندوسية. والمسيحية لم تتمكن من فرض نفسها على اليهود في بيت المقدس فاضطرتْ للهجرة إلى أوروبا بحثا عن نفوس لا تزال على فطرتها. وهي لم تتجذر في المشرق (مصر وتركيا والمغرب) حتى قبل ظهورالإسلام. وتلك البلدان هي التي شهدت أخطر الانشقاقات، مثل “الدوناتية”(donatisme) في إفريقيا الشمالية، و”الأريانية”(arianisme) في مصر خلال القرن 4 م، والنستورية (nestorianisme) بعد ذلك بنصف قرن. وهذا المذهب الأخير هو الذي أدى إلى القطيعة بين الكنيسة البيزنطية وروما… أما الشيوعية، فبعد أن نظّرلها ماركس وأنجلز في أوروبا الغربية، وجدت أرضا مناسبة في روسيا وفي الصين، وليس في البلدان التي كانت فيها الرأسمالية بالفعل.

 

لقد أولت الدول والحركات السياسية خلال القرن العشرين عناية خاصة بالإيديولوجيا. وبن نبي يتبنى تعريفا خاصا به إذ يقول:  “إنها سهم موجَّهٌ صوب هدفٍ، أو هي المُرْشد إلى اتجاه مُعيَّن، حتى لو كان ذاك الهدف يتمثل في التدمير، وحتى لو كان ذاك الاتجاه يؤدي إلى انتحار وطن. فقد جاءت الإيديولوجيا الهتليرية لتشد الشعب الألماني إلى ما هو أعلى من طاقة البشر، لكننا نعرف الهوة التي دفعته إليها في النهاية. هذا دون أن نذكر آثارها المعنوية في العالم لو أنها خرجت منتصرة من الحرب “. وهكذا فهو يُدْخِل مقياسا آخر لفعالية الفكرة، وهو أن تسير في نفس الإتجاه مع التاريخ:  “ينبغي أنْ يكون الهدف مناسبا للتطور العادي للوطن، وأن يتناسب كذلك مع التوجهات العالمية، ذلك أنه إذا كان من المستحيل أن تكون السياسة المقطوعة عن روح العالم سياسةً فعّالة، فإنها كذلك لن تكون إلاّ خطراً إضافياًّ في العالم” .

 

وفي الوقت الذي نُشرت فيه الأسطر السابقة في كتاب “مشكلة الأفكار” سنة 1971، كان الاتحاد السوفياتي في أوجّ قوته. لكن بن نبي استطاع أنْ يتبيّن منذ زمن طويل علامات الانهيار الذي سيأتي بعد ذلك بعشرين سنة، إذ يقول:  “إن المجتمع السوفياتي فَقَد بعض النّوتات المطبوعة التي كانت مصدر إلهام خلال اللحظات التاريخية التي شهدت تأسيس ذاك المجتمع على عهد لينين وستالين، كما فَقَدَ الدفع الروحي الذي ساعده على التجذر في ستالينجراد. فبعد نصف قرن من التأسيس  بدأ المجتمع السوفياتي يدخل في المرحلة الثانية من عمر أية حضارة، وهي المرحلة التي تصبح النوتات الرئيسية باهتة على قرص عالمها الثقافي الأصلي“.

 

وبن نبي يُعبِّر عن هذا بشكل أوضح في كتاب “المسلم في عالم الاقتصاد ” سنة 1972، إذ يقول:  “ينبغي تَوَقُّع أفول المجتمع الشيوعيّ الحديث. إنه سيعرف نفس المصير الذي عرفته المجتمعات الشيوعية في الماضي. ومثال ذلك القرامطة الذين ذهب نظامهم هباء منثورا في زمن قصير جداًّ بعد أن كان يهدد الدولة العباسية وهي في أوج قوتها. والمجتمع الفارسي قبل مجيء الإسلام  هو المثال الثاني عن ذلك “.

 

إن تكهّنات مفكرنا تعود في الحقيقة إلى الخمسينيات، بعد المؤتمر الذي أخرج الإتحاد السوفياتي عن نهج ستالين. فقد رأى بن نبي في ذلك قطيعة إيديولوجية ـ مثل قطيعة صفّين ـ مسّتْ العالم الشيوعي الذي كان يشكو قبل ذلك من الإنقسام إلى ثلاثة أقطاب: الإتحاد السوفياتي، الصين، ويوغسلافيا.

 

لقد مر المجتمع السوفياتي من “مرحلة النفس” إلى “مرحلة العقل”. وخروتشوف هو الذي تجرّأ على الإعتراف علناً بأن العامل المعنوي وحده لا يكفي للتحفيز على العمل، وأن بإمكان الإتحاد السوفياتي أن يتعلّم أشياءً كثيرة من العالم الرأسمالي حول الإنتاج الزراعيّ. فتحريم “الفائدة”(profit) في الشيوعية هي ما يقابل محو”الخطيئة الأولى” (péché originel) في المسيحية بالتزام رجال الدين بالعزوبة. وبن نبي لم يكن راضيا عن هذا المرور من “الفكرة” إلى “الشيء”، وكان يفضّل مواقف بكين.

 

وخلال شهر ماي سنة 1973 ألقى بن نبي ما يمكن اعتباره آخر سلسلة من محاضراته. ففي محاضرة ألقاها في إحدى المدارس العسكرية وصف الأفكار بأنها مثل “الأسلحة غير المرئية، وهي غير مرئية أكثر من الأشعة غير المرئية. فبتصرفنا في عدد معيّنٍ من الأفكار يمكن لنا أن نحقق من الأهداف ما تعجز القوة المادية عن تحقيقه“. ويضيف قائلاً: “لا يمكن للاستعمار أن يُبْقِي على حالة التخلف في بلداننا إلاّ بِحَبْسِنا في عالم مجرَّدٍ من الأفكار، وعلى عكس ذلك، لا يمكن لنا أن نتخلّص من تأخرنا إلاّ بتخلّصنا من الأفكار الدنيئة التي تمثّل العالم الإيديولوجي الذي ورثناه عن قرون الإنحطاط“.

 

وقد استبق بن نبي الأحداث، إذ أعْلن عن أزمة المجتمع الجزائري عشرين سنة قبل وقوعها في نهاية الثمانينيات، وهي الأزمة التي قسمت المجتمع إلى إيديولوجيتين وإلى مجتمعين، ومفكرنا يصور ذلك فيما يأتي: “إن الواقع الجزائري متكون منذ الإستقلال من مجتمعين أحدهما فوق الآخر… فمن جهة توجد أفكار على نمط مرحلة ما بعد الموحِّدين، وهو مجتمع أفكاره المطبوعة فيها التباس، مثل ما يحدث على شريط فيلم أو قرصٍ لم تبق فيه حوافز إثبات الوجود. ومن جهة ثانية توجد الأفكار المُعبّر عنها والتي لا تُعبِّر عن أي شيء، مثل القرص الذي لم تبق فيه إلاَّ تنغيمات منفصلة للأفكار الأساسية التي تكون قد بقيت في قرص عالم ثقافي آخر. وفي هذه الجهة تمثل الأفكار المعبّر عنها مادة فكرية أكثر التباساً ، وهي عاجزة عن الإتيان بإجراءات عملية فعالة… فمِنْ جهة لدينا الشكل الذاتي المباشر، ومن جهة أخرى لدينا الشكل المُدّعى انه موضوعي والمُدّعى أنه علمي. من جهة لدينا المجتمع المتشنج الذي يفرض عاداته وأحكامه المسبقة وخرافاته باعتبارها سُنناً أصيلة، ومن جهة أخرى لدينا المجتمع الذي يدّعي أنه ثوري وينتفض بالفعل، لكن ليس ضد القيم الخاطئة بل ضد أكثر القيم أصالةً. من جهة تقف الفكرة التي فقدتْ إشعاعها الاجتماعي، ومن جهة ثانية تقف الفكرة التي لديها إشعاع قاتل. الجمود والإستقرار من جهة، والديناميكية المزعومة مع الفوضى العارمة من جهة ثانية… إن بلادنا لم تكن فيها نخبتان فقط، بل كان فيها مجتمعان، الواحد منهما فوق الآخر. أحدهما يمثل البعد التقليدي والتاريخي والآخر كان يريد أن يصنع تاريخه انطلاقا من الصفر. ولم يكن بالإمكان إيجاد تعايش بين الأفكار المطبوعة الصادرة من أحدهما والأفكار المعبر عنها الصادرة عن الآخر، في نفس المحيط الثقافي. وهذان المجتمعان يتكلمان بلغتين مختلفتين. فإذا أمكن اعتبار ما يُقال في الإذاعة أو في الصحافة، أو حتى في بعض الكتب المدرسية بمثابة أفكار معبّر عنها لدى أحد هذين المجتمعيْن، فإن ذلك لا يعني أي شيء قياسا بالأفكار المطبوعة لدى الآخر…” (“مشكلة الأفكار”). وسينتهي الأمر بانفجار دفعت الجزائر ثمنه بنحو مائتي ألف ضحية، بالإضافة إلى آثار نفسية عميقة.

 

وبعد أن أنهى بن نبي تحرير كتاب “وجهة العالم الإسلامي” اطّلع على كتاب المستشرق البريطاني جيب Gibb ، حيث فسَّر هذا الأخير سبب عدم تكيف العقل الإسلامي بطبيعته الذرية ( يقصد بن نبي بالذريّة (atomisme) نزوع الفرد إلى تجزئة و تفتيت المشكلة فيتناولها ذرة ذرة)،-وجدت الترجمة مع هذا التعقيب بهذه الصيغة في كتاب دار الفكر-. وهذه النزعة الذرية تظهر في شكل ميلٍ إلى “النظر إلى الأحداث منعزلاً بعضها عن الآخر“، وإلى “رفض البنايات التركيبية“، وأهم من ذلك الميل إلى “الهلع من النزعة العقلية“. وهو يضيف أنه “بدلا من استعمال عقولهم في وضع أسس التأويل الإسلامي للكون بصياغته في لغة عصرية، فالمسلمون يستعملون تلك العقول لخدمة ردود الأفعال الوجدانية الصادرة عنهم إزاء التحدي الذي يواجه العقل الإسلامي .

 

وبن نبي يعتبر هذا الحكم نسبياًّ عندما يبيِّن أن هذه الميزة ليست خاصة بالعقل الإسلاميّ، بل هي من آثار التدهور. وجاء الردّ الذي وجهه إلى المستشرق البريطاني في تمهيد كتاب “وجهة العالم الأسلامي”بهذه الصيغة: “لا أظن أن نزعة الذرية هذا التجعّد العقلي الذي لا يقبل التعميم ـ هي تجعيدة خاصة بالعقل العربي، كما ذهب إلى ذلك المستشرق الأنجليزي المحترم. فالأحرى أن نقول إن الأمر يتعلق بوضع من أوضاع العقل البشري بصفة عامة، عندما يكون ذلك العقل دون مرتبة التطور والنضج الفكري ـ أو عندما يكون قد تجاوزها . وإذا أردنا الدقة أكثر قلنا إن روح الحوار تكون في غضون التطور التاريخي بين مرحلتين من مراحل نزعة الذرية. ولهذا يكون الفكر بالضرورة (ذريا) في خُطاهُ الأولى كما حدث في أوروبا خلال الفترة السابقة للفكر الديكارتي، وهو يعود ثانية إلى نزعة الذرية  إذا ما توقف كل مجهود فكريّ، كما حدث في فترة ما بعد الموحِّدين في العالم الإسلاميّ. لكن أهم ميراث ثقافي تركته الحضارة الإسلامية للحضارة الحديثة  يبقى ذلك الإشهاد على التوجه الجديد الذي سار فيه العقل الإسلاميّ خلال فترات ازدهاره وانفتاحه. فالمجهودات التي بذلها هذا العقل في مختلف الميادين طَبَعَتها روح (القانون) التي تفترض القدرة على التركيب. والمذاهب التشريعية صيغتْ حسب موضوعات رئيسية، وهي الأصول. والفقه الإسلامي هو الذي ظهر لأول مرة في تاريخ التشريع في صورة نظام فلسفي متطور انطلاقا من مبادىء أساسية، بينما لم يكن القانون الروماني إلاّ ركاماً اعتباطيا لـ (وجبات) قانونية. ويمكن لنا كذلك أن نشير في علم الفلك إلى اكتشاف (الاختلاف)، أو عدم الاستواء الثاني في حركة القمر، وذلك على يد أبي الوفاء، أو أنْ نُذكِّر بأن الفضل يعود إلى ابن خلدون في وضع قوانين عامة لحركة التاريخ وعلاقة تلك القوانين بأنشطة المجتمع. نحن مَدينون لهذه الحضارة باكتشاف النظام العشريّ وتطبيق المنهج التجريبي، وخاصة في الطب، وكذا إدخال المفهوم الرياضي للزمن (فالعرب هم أول من استعمل ما يسمى بالساعات القانونية أو الشرعية)، وتلك هي النقاط الإشارية الأولى للفكر التقني. وقد يتكشّف لنا يوما أن (تفاحة نيوتن) لم تكن مفصولة تماما عن الأعمال التي قام بها الإخوة بنو موسى (إذ كتب كبيرهما، المتوفى سنة 873 م، (دراسة حول قوة الجاذبية)“.

 

إن بن نبي في هذا النص، وفي نصوص أخرى من أعماله، يجيب على المستشرق جيب وكأنه أول من اتّهم العقل الإسلامي بنزعة الذرية ، والواقع أن قبل هذا المستشرق كان هناك مستشرقون أخرون اتهموا العقل الإسلامي بهذا العيب. فلويس ماسينيون تكلّم  منذ 1929 عن “النظرة الذرية  وغير المتصلة إلى التاريخ” عند المسلمين. وفي سنة 1943 يذكر  في أحد نصوصه “نزعة الذرية المُناسباتية في الفكر العربي(1). وفي سنة 1945 عاد بحيوية أكثر إلى هذه المسألة بقوله “إننا نعرف بما فيه الكفاية ذلك الميل إلى النزعة المناسباتية والذرية  التي تأتي في صيغة أحاديث منعزلة عن المذهب النبوي“. وفي سنة 1952 عاد ليصدح بهذا الحكم قائلا “إن الزمن عند عالم الدين المسلم ليس مدة متواصلة، بل هو شتات، أو درب تَبَّانة من اللحظات”(2).

 

إنّ أول مَنْ وَصَمَ العقل العربي بهذه الوصمة هو الأمريكي دونكن بلاك ماك دونالد Duncan Black Macdonald سنة   1906 في محاضرة ألقاها بشيكاغو تحت عنوان: (السلوك الديني والحياة في الإسلام The religious attitude and life in Islam) . وإنصافا للمستشرق الأنجليزي جيب، يمكن لنا أن نذكر هذه الفقرة من كتابه الذي يبين أنه في النهاية لم يكن بعيدا إطلاقا عن نفس النتائج التي وقف عليها بن نبي، إذ يقول: “الإسلام دين حي وحيوي… الإسلام ليس هو الذي تجمّد وتسمَّر، لكن الصيغ الأرثدوكسية التي صيغ بها هي التي تجمدت، وعلومه الدينية في مجملها  وكذا دعوته الإجتماعية هي التي تسمّرتْ“. ولا شك أن بن نبي وضع الثقة في مترجم جيب  وصاحب مقدمة كتابه، الكاتب ب. فيرنيي B. Vernier الذي  كتب يقول في تقديمه للكتاب: “إنّ جيب يُبْرِزُ قاسما مشتركاً بين المفكرين المسلمين، ويُرْجِعُ ذلك إلى تشبعهم بالقرآن وتأثرهم به… وهذا ما يطلق عليه اسم نزعة الذريّة”’.

 

مراجع

 

1) “كيف يمكن إخضاع الدراسة النصية للثقافتين، العربية واليونانية اللاتينية، لقاعدة واحدة”.

2)  أوبيرا مينورا Opera Minora  ج 2.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى