بين الفكر والسياسة

فكـر مالك بن نبي(33):الأفكار الأصيلة والأفكار الفعّالة

بقلم نورالدين بوكروح                                                                                                    

ترجمة عبدالحميد بن حسان                                                                             

» إنّ الحوافز التي يتَحَدّثَ عنها بن نبي هي نفسها “الوظائف” التي اكتشفها جوناس سالك (Jonas Salk) ، مخترع المصل المضاد للكساح ، إذ يقول:  ” إن الوظيفة في لغة البيولوجي هي محاولة البنية الحيّة المرور إلى حالة أخرى والمُضيِّ إلى المستقبل، أو، إذا أردنا التبسيط قلنا:  الاضطلاع بوظيفة… فكل شيء في العالم البيولوجي إنّما وُجِدَ لكي يقوم بعمل ما… وإذا ما وُجِدتْ بنية بدون وظيفة فهي تهدم نفسها لأنها أصبحتْ بدون أيّ مشروع… عندما أقول إن هناك نظاماً يخضع له الكون، مثل النظام الذي يسير عليه عالم الإنسان، فإنني أُضمِّنُ كلامي ما يعنيه الآخرون بكلمة (الله)… إن الأفكار بحد ذاتها هي كيانات مستقلة مزوّدة بالقدرة على التأثير، بل وحتى على تعديل مسار الحياة الإنسانية. إنها لا تختلف عن الغذاء والفيتامينات والأمصال… إن لدى الأفكار ميزة شديدة الشبه بميزة العناصر المادية، وهي القدرة على إحداث تأثيرات في الإنسان وفي الحياة على السواء… إن أثر الأفكار والعواطف والابتكارات فينا كأثر المواد الكيماوية… فللمحيط الثقافي أثره على الدماغ، وبالتالي على العقل الذي يكون ذا طواعية ومرونة في أصل تكوينه’’(1).

إن أقوال جوناس سالك حول الآثار الفيزيائية والكيميائية للأفكار، والتي جاءت بعد وفاة بن نبي، كان يمكن أن يرتاح لها هذا الأخير لأنها جاءت متضمنة للمقاربة التي تبناها والمصطلحات التي استعملها عندما تحدث عن الآثار النفسية الجسمية للأفكار في كتاب “الصراع الفكري”، وذهب إلى أن الأفكار هي  “كيانات بيولوجية تؤدي دورها في ظروف عضوية مُعيَّنة“. وبعد ذلك بمدة عاد إلى هذا الموضوع في كتاب “مشكلة الأفكار”، إذ يقول: “إن للأفكار أثرا مُتكَيِّفاً يميّز بين شخص أمِّيٍّ وشخصٍ سبق له أن استخدم الحروف من أجل قراءة فكرة أو تبليغ فكرته هو… فإنسان المدينة يمكن التعرف عليه حتى ولو ارتدى لباس الريف، فهو فلاّح مُزَوَّر. والفلاح يكون مدنياًّ مُزوّرا لو ارتدى لباس الحضريّ. والأخوان الخارجان من ميراث جيني واحد سيتمايزان بعلامات ظاهرة لو أن أحدهما استفاد من التمدرس والآخر لم يستفد“.

ولكي يكون للفكرة وقعها في مجال واسع لا بد أن تتمتع بثلاث مميزات، هي: قدرة الضغط، وقدرة الإدماج، وقدرة التوجيه. تلك هي القدرات التي تتيح للفكرة أن تلعب دور الرابط بين الأفراد لكي تجعل منهم مجتمعا، أي جماعة منسجمة، وحضارة. وقدرة الضغط في الفكرة متعلقة بارتكازها على و”عدٍ أصغر” (في الحياة الدنيا)، وعلى و”عدٍ أكبر” (في العالم الآخر). فالوعد الأول يبرهن يوميا أن هذه الفكرة فعالة، والثاني يشهد على صحتها، ويلتحم الوعدان لكي يُعْطِيا للفكرة ـ سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم سياسية ـ انسجاما مع المجتمع واستمرارا في النفسية الإنسانية.

إن الوعد الأكبر” هو ما يُسمِّيه المُسلمون بـ (الجنة)، والمسيحيون بـ (مملكة السماء)، والبوذيون بـ (النيرفانا)، والشيوعيون بـ (مجتمع بدون طبقات)…إلخ. إنه يُحيل على فكرةِ خشيةِ اللهِ أو الدولة القادرة على كل شيء (l’Etat démiurge)،  وعلى فكرة الجزاء والعقاب. ويقابل ذلك في الفكر أللائكي كل من “العدالة الاجتماعية” و”الروح الوطنية” و”الشرف” و”قوة القانون”… أما “الوعد الأصغر” فيُحيل على فكرة الحياة الطيبة، والأهداف المطلوب تحقيقها، والمرامي الاقتصادية المرجو بلوغها، والفوائد المنتظر جنيُها من غزو أو اكتشاف. إنها الفائدة والجزاء الدنيوي… وبن نبي يعود إلى “بيعة العقبة الثانية ” لكي يمثِّل لفكرته، فهذه البيعة هي الوعد الذي قدمه سبعون رجلاً من أهل المدينة للنبي (ص) بعد أن أخبرهم بعزمه على الانتقال إلى الدعوة بقوة السلاح، وكان ذلك عاماً واحداً قبل الهجرة إلى المدينة.

فبعد أن سألهم عن استعدادهم لإتباعه قبِلوا وأعطوه عهداً على التضحية بالنفس في سبيل الدين الجديد. وعاهدهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) بدوره قائلاً ( في الحديث الشريف): ” بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم‏” ، فسأله أحدهم: ” فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك‏؟‏” فأجابه النبي (ص): ’’الجنة !“. هذا هو الفصل الذي عاد إليه بن نبي عندما تحدث عن التآخي في “وجهة العالم الإسلامي”. وبالفعل فقد تشكلت أخوّة بين أولئك الرجال السبعين ليُصْبِحوا إخوانا، وهي التسمية، من بين خيارات أخرى، التي ستُطْلَقُ حديثا على تلك الحركة التي أسسها حسن البنَّا (1906-1949) تحت اسم “الإخوان المسلمين”.

والأفكارالتي لا تحمل سوى “وعداً أصغر” (مثل حرب التحرير) يتوقف تأثيرها في الناس بمجرَّدِ تحقيق الغاية. وهي تتوقف كذلك عن تحفيز أفراد الجماعة عندما يُدْرِكون أن هذه الأفكار لا توصِلُ إلى أي هدف (مثل الشيوعية). أما الأفكار التي لا تحمل إلاّ “وعدا أكبر” دون أن ترمي إلى أهداف إجرائية، فهي أفكار لا يهتمّ بها إلا النزر القليل من الناس عموما، مثل: القدِّيسين، المتصوفة والزُّهَّاد. والناس يُعْرضون بوجوههم عن تلك الفئات، ولا يُبْدون لهم من الاحترام إلاّ ما تفرضه اللياقة. وتلك هي حال كل الفلسفات التي تتبنّى مذهب الانصراف عن الحياة. و التاريخ حافل بأمثلة كثيرة من ذلك، على غرار: أتباع مملكة المسيح millénarisme، أتباع الاعتكاف في المعابد، والجماعات الانتحارية…

ويقوم بن نبي بعملية إسقاط لهذه المعطيات على الحياة السياسية للشعوب فيقول: “إن الإيديولوجيا التي لا تنطوي إلاَّ على المصالح العاجلة كقوة فكرية، وحتى لو كانت تلك المصالح هامة جدا، فهي إيديولوجيا لا تفتح الطريق إلاّ لسياسة محدودة بحدود شعاراتها… فالإيديولوجيا يجب أن تنطوي إذاَ وأيضاً على مادة أخرى لكي تحفظ لعمل الدولة والفرد تلك الوحدة الضرورية للاضطلاع بالمهام العظيمة. إنّ هذه المادة الإضافية هي التي تمثل الثراء الإيديولوجي أو الفقر في السياسة أمام محكمة التاريخ. والحال أن هذه المادة هي بالأساس من جوهر أخلاقي أو ميتافيزيقي، أي أنها تنتمي إلى عالَمِ النفس. فالقوة الفكرية في السياسة الجديرة بمواجهة امتحان التاريخ يجب أن تكون من هذا النوع لأن المجهود الذي لا تُسانده إلاّ المصلحة العاجلة قد يفشل ويخور، ليس فقط بسبب الفشل الذي يولّد الخيبة والانسحاب، بل وحتى في حال تحقيق المصلحة إلى درجة التشبع الذي يؤدي إلى الميوعة واللاَّمبالاة. وفي كلتا الحالتين فإن المصير هو النزعة الفردية وتفتيت المجتمع. والمجهود الذي يحدوه الاقتناع هو وحده القادر على الخروج من امتحانات الدهر منتصرا. والتاريخ، بدءا بـ (سراديب الموت Catacombes)، ومرورا بغزوة بدر، ووصولا إلى ستالينغراد(Stalingrad)، ما هو إلاّ شاهد على هذا الواقع’’(3).

 أما هيجل (Hegel)فقد سجل من جهته أنَّ الحق؟؟ قد يُفيدُ في تحقيق غايات أخرى كذلك. فإننا نستطيع القول: (إنّ الله مُفيد) ، لكننا نجد أن هذه العبارة مُدَنِّسَةٌ وغير مناسبة “’(4).

وابن خلدون في نظريته الاجتماعية يفترض أن الناس بأمسّ الحاجة إلى سلطة ليعيشوا مجتمعين، وإلى “وازعٍ”  من أجل التخفيف من ميلهم إلى الصراع. فهذا الأخير يمكن أن يصدر عن حُكْمٍ ديني، والشعب يطيعه لأنه يؤمن بأنه سينال جزاءه أو عقابه  يوم القيامة، ويمكن أن يصدر عن سياسة عقلية، وفي هذه الحالة تكون طاعته  طمعا في المكافأة في الحياة الدنيا. وينتهي ابن خلدون إلى هذه النتيجة:  “النظام الأول يصلح للدنيا وللآخرة  كون الشارع يعرف الغايات القصوى لدى شعبه، وهو الذي يتولى الخلاص الأبديّ للإنسان. أما النظام الثاني فلا يصلح إلاّ لهذه الحياة الدنيا’’(5). وابن خلدون يرى أن المسلمين ينتمون إلى “الوِجْهةِ السامية” vocation sémitique) التي تعطي الأولوية لـ” الوعد الأكبر”، ويذكر حديث النبي (ص) الذي قال فيه :”إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا…”.

وحتى نيتشه(Nietzsche) المعروف بتحفُّظه الشديد من المبدأ الديني اعترف بأهمية “الوعد الأكبر” عندما أكّد أنَّ  “ميتافيزيقا الجزاء والعقاب ضرورية“. وعلى عكس الصورة التي أُريدَ إلصاقُها به، لم يكن مُعارضاً للمبدإ الدينيّ بحدّ ذاته، بل كان على العكس إذ يعترف بضرورته في قوله: ” ما أعظمَ أهميّة الحقيقة عند الناس ! إن أعلى درجات الحياة وأقربها إلى الصفاء أنْ تكون لدينا الحقيقة فيما نؤمن به. فالإيمان بالحقيقة ضروريّ للإنسان “(6) .

ومع ذلك فهناك مِن المفكرين الدينيين مَنْ أنكر ضرورة “الوعد الأكبر”. فالمُعلِّم إيكهارت Maître Eckhart  (1260-1328) يرى أن المؤمن الحقَّ هو الذي يؤمن دون أن ينتظر جزاءً. هكذا فإنّ أب التصوّف الألماني الذي أنكر كلّ تميُّزٍ لله وأعلن أثناء محاكمته في آفينيون (Avignon)أنَّ ” الله واحد !” . قد تجرّأ وأعلن أنه لا فائدة من “ميتافيزيقا الجزاء“، وهو الأمر الذي كان بمثابة فضيحة في الكنيسة، إذ يقول:  “إن أولئك الذين لا يسعون إلى أي مكسب، لا التشريفات ولا النفعية ولا التضحية الداخلية بالنفس، ولا القداسة، ولا الجزاء، ولا ملكوت السماوات، وزهدوا في كل هذه الأشياء، بما في ذلك الأشياء التي هي لهم فعلاً، أولئك هم الرجال الذين يتشرف بهم الله… والمسألة عند منْ يعلم هي مسألة عِلْمٍ، وعند أولي العقول القاصرة هي مسألة إيمان” (7). وقد اقتبس جوناس سالك هذه الفكرة وتبناها ثُمَّ عبّر عنها بشكل آخر في قوله:  ” إنّ أنظمة أخلاقية مبنية على وعودٍ لا يمكن إثباتها بالدليل، ولا الجزاء المنتظر، هذه الأنظمة تسمح باستغلال سذاجة العوامّ، إلى درجة أنْ يفقد الإنسان كلّ فاعلية لأنه مُضْطَهَدٌ في التعبير عن ذاته وفي تطويرها “(8).

يرى بن نبي أنَّ مُحرِّك التاريخ، أي الفكرة، يجب أن تكون “أصيلة” و”فعَّالة” في ذات الوقت. ومع ذلك فيمكن للفكرة أن تكون “أصيلة” وهي فاقدة لـ”فعاليتها”، أي عاجزة عن إنتاج الآثار الإيجابية في حياة الناس، كما أنه يمكن ألاّ تكون “أصيلة” لكنها تقود إلى إنجازات تاريخية عظمى. إنّ المردود الاجتماعي والثقافي للفكرة مرتبط بشروط غير الشروط التي تفقد بها فعاليتها. يقول بن نبي:  “إنَّ الفكرة الأصيلة ليست دائما فعّالة . والفكرة الفعالة ليست دائما حقيقية… ذلك أن الفكرة تولد حقيقية أو مزيفة. فعندما تكون حقيقية تحافظ على أصالتها إلى آخر الزمن. بينما يمكن أنْ تفقد فعاليتها خلال مسار حياتها حتى ولو كانت حقيقية. وإنّ لِفاعلية الفكرة تاريخها الذي يبدأ بلحظتها الأرخميدسية(moment d’Archimède) ، أي عندما يؤدي دفعها إلى تحريك العالم، أو عندما يبدو لنا أننا وجدنا فيها نقطة الاستناد الضرورية لرفع العالم إلى أعلى… إن الفكرة تكون حقيقية أو مُزيّفة على المستوى التيولوجي والمنطقي والعلمي والاجتماعي. لكن مسيرتها التاريخية لن تبقى مرتبطة بميزتها الداخلية، بل سترتبط بديناميكية الفكرة وسلطتها في المحيط الثقافي، ثُمّ بالظرف المحيط’’ (“مشكلة الأفكار”).

ويضرب بن نبي لذلك بعض الأمثلة كفكرة سريان الدم التي أثبتها طبيب عربي من ق12 م (ابن النفيس)، لكنها لم تجد رواجا إلاّ مع الطبيب الأنجليزي هارفاي Harvey     (9) و يقول : “وفي كلمة واحدة كانت هذه الفكرة حقيقية دون أن تكون فعالة طيلة أربعة قرون . والمثال الثاني هو فكرة توسُّع العالم التي بدأ بها لوماتر Lemaître، لكنها لم تؤخذ بعين الاعتبار إلاّ بعد أنشتاين. والمثال الثالث هو تلك الملاحظات التي جاء بها مندل Mendel حول علم الوراثة، والتي لم تشدّ اهتمام الأوساط العلمية إلاّ خلال الأربعينيات…

لكن بن نبي يلاحظ من جهة أخرى أنَّ  “التاريخ حافل بالأفكار التي وُلِدَتْ خاطئة، ومع ذلك كانت لها فعالية كبيرة في مختلف مجالات الحياة. وهذه الأفكار تكون في الغالب مخفية ومُضطرّة إلى ارتداء قناع الأصالة لكي تدخل في التاريخ كما يدخل اللص إلى أحد البيوت بمفتاح مزيّف… وأحيانا تكون فعالية الفكرة في ظرف محدد سببا في اكتسائها رداء القداسة في نظر جيل آخر“. وسجل مفكرنا في كتاب “مشكلة الثقافة” أنّ  “فعالية الفكرة مرتبطة بشروط نفسية واجتماعية تختلف باختلاف الزمان والمكان. وإذا ما تتبعنا تاريخ مجتمع ما، فإننا نلاحظ في الغالب انه كما أن لدى المجتمع مقبرة يدفن فيها موتاه، ففيه مقبرة يدفن فيها أفكاره الميتة، أي تلك التي لم يعد لديها أي دور في المجتمع”.

كان القرن العشرون هو قرن الإيديولوجيات، ففيه ظهرت الفاشية، والاشتراكية الوطنية (النازية)، والشيوعية، والإسلاموية… وكان أثر هذه الإيديولوجيات كبيرا على العالم الإسلامي، أما الإسلام فقد اعتُبِر عند (التقدّميين) وفي دواليب الصراع الإيديولوجي كسبب رئيسي في تخلف المسلمين. وكان بن نبي نفسه أحد ممثلي تلك المعركة، إذ كانت كتاباته حول هذا الموضوع كثيرةً. كان يريد أن يتصدّى لهذا التزوير وأن يأتي بالإضاءات الكافية، وهو الذي يقول في كتاب “مشكلة الأفكار”:  “إنه لا يكفي أن تقول الحقيقة كي تكون على حق في هذا القرن الذي هو قرن الإنتاجية. فمن غير المفيد أن تقول إن اثنين وإثنين يساويان أربعة وأنت تتضوّر جوعاً، في مواجهة من يقول ” إن الحاصل هو ثلاثة فقط” لكنه متمكّنٌ مِنْ سدِّ رَمَقِهِ. إنّ روح هذا العصر العاصفة ستُخَطِّىءُ الأول وتُعْطِي الحق للثاني بكلِّ تأكيد. إننا في عصرٍ لمْ تَعُدْ فيه للحُجّة الفلسفية والأخلاقية قيمة، أمّا الحجج العملية فهي صحيحة إذا كانت قادرة على فرض نجاحها “.

وبن نبي يرى أنّ على الإسلام أن يأخذ بعين الاعتبار هذه البراجماتية التي فرضها العصر الحديث، إذ يقول:  “لا يكفي أن نعلن عن قيم الإسلام المقدَّسة، بل لا بد أن نُعْطِي تلك القيم ما تواجه به روح العصر… ولكي نُفْحِم العالم بالحُجَّة الدَّامغة  والدالة على صحة أفكار الإسلام، فعلى المجتمع الإسلاميّ أنْ يثْبِتَ أنه قادر على ضمان القوت اليوميّ لكل فرد… الأمر لا يتعلق بالدفاع عن أصالة الإسلام، بل بتمكينه من استرجاع فعّاليته بِبَثِّ الحركة في قواه المُنْتِجَةِ “.

ومُفَكِّرُنا يرى أنَّ أسباب عدم فعّالية أي مجتمع يجب العثور عليها في عالم أفكاره، وليس المقصود هنا هو الأفكار الصّرفة، بل “أفكاره المدمجة”(idées intégrées)، أي تلك الأفكار التي صارت خُطّةً عامة لنشاطه الاجتماعي. وقد عبّر عن ذلك في كتابه  “مشكلة الأفكار/ مسودة 1960) بقوله: “عندما نحكم على عدم فعّالية المجتمع الإسلاميّ المعاصر فإننا بذلك لا نحكم على الإسلام ـ باعتباره نموذجاً كُلِّياًّ أثبت جدارته بحضارته العظيمة ـ بل نحكم على الطريقة التي يفهمه بها ويؤوِّله بها المسلمون حالياً، أي كفكرة مُدْمجةٍ. لكننا في ذات الوقت نعرف أن هذه الفكرة المدمجة ـ وهي الفكرة التي أصابها ما أصابها اليوم من تدهور قياسا بنموذجها الكُلِّيِّ ـ هذه الفكرة قابلة لإعادة التوليد كما حدث للفكر الجمهوري على يد الحضارة الأوروبية التي مكّنتْها من استرجاع قيمتها وشبابها ، وأحْيَتْها ـ بشكلٍ ما ـ بعد أن دُفِنَتْ بانهيار أثينا وروما. وإننا نعرف كذلك أن هناك أفكارا أخرى لا يمكن إعادتها إلى الحياة بعد موتها لأنها ليست صادرة من نموذج كُلِّيٍّ، أو ـ إنْ شئنا ـ لأنّ نموذجها الكُلِّي نفسه قد مات كما حدث مع نموذج نظام الرِّقِّ “.

لقد انكبّ بن نبي في كتاب “مشكلة الأفكار/ مسودة 1960) على دراسة الظروف التي يمكن أن تؤدي إلى موت مؤسسات مثل الجمهورية الرومانية. فبدأ باستعراضِ الطرق الثلاثة المحتملة والتي يمكن أنْ يُؤوَّل بها هذا الحدث: فإمّا أن تكون تلك المؤسسة قد ماتت لأنها باطلة، وإما أن يكون ذلك بسبب مجيء يوليوس قيصر  (Jules César)الذي كان يريد أن يستولي على السلطة، أو أن الشعب الروماني أصبح لا يتواءم مع النظام الجمهوري.

وبعد ذلك يمضي بن نبي إلى تعليل اختياره بقوله:  “إنّ التأويل الأول غير مقبول لأنَّ المؤسسة الجمهورية في القرن العشرين لا تزال حيّة وشابة أكثر من أيّ وقت مضى، بل ويبدو أنها مرشحة لإعداد قاعدة لحكومة عالمية تبدو هي بدورها كنهاية حتمية لتطور العالم الحالي. المؤكد أن هناك مؤسسات تشيخ وتموت، ومثال ذلك نظام الرِّقّ. فلو أنّ الناس لم يلغوا هذا النظام في القرن 19، فإنّ الآلات التي انتشرت في القرن 20 ستقضي عليه بالتأكيد. لكن هناك مؤسسات، مثل الجمهورية ومثل الزواج، هي بمثابة مكاسب نهائية. ولو أن الزواج أٌلْغِي في مجتمع ما، فإننا لا نقول إن هذه المؤسسة شاختْ، بل نقول إن ذلك المجتمع هو الذي يشكو من مرض معيّنٍ. وكذلك التأويل الثاني، فهو غير صالح، لأنّ الإقرار بأن رجلاً واحدا، وهو هنا يوليوس قيصر، يصنع التاريخ كما يهوى، هو بمثابة إلغاءٍ لكل العوامل الحقيقية التي لا يمكن أن تُفرض قوانينُها بواسطة أية إرادة فردية. فالتأويل الوحيد الذي يبقى ممكناً هو كون الشعب الروماني لم يعد صالحا للنظام الجمهوري”.

عندما تعمّقْتُ في هذا الموضوع ظهرَتْ لي تشابهات مُدْهِشة بين المسارين التاريخيين اللذين مرّت بهما الحضارة الإسلامية والحضارة الرومانية. وبالفعل، فقد عرف العقل الروماني أولى انكساراته مع تاركينTarquin  الذي كان أول ملك غير مُنْتَخَب. ونظرا لبُعْدِ هذا الملك وابنه سيكستوس Sextus عن استحقاق منصبهما، فقد صارت الوظيفة الملكية منبوذة لدى الشعب الروماني. أما تاركين فكان سادس ملك، مثل معاوية الذي كان سادس خليفة (بعد الحسن بن علي)، وكلاهما لم يتم انتخابه، كما أن كليهما جعل الحكم وراثيا.

وستشهد كلتا الحضارتين (الإسلامية والرومانية) انهيارهما ستة قرون بعد (الانحراف)الذي وقع. وما قام به الطبري في العالم الإسلامي قام به شيشرون Cicéron عندما أشار إلى “هذا الطور من الثورات التي أريدُ أن تتعلموا معرفة حركتها الطبيعية ومراحلها بدءاً بأصولها(10). أما حكم الأمويين والعباسيين فيُذَكِّرُ بحكم القياصرة. وقد كتب تاسيت Tacite الذي عاش في سياق مشابه للسياق الذي عاش فيه ابن خلدون، يقول:  “إنني أباشر عملاً خصباً بالكوارث، مليئا بالمعارك الضارية، والخلافات والتمرّد، وحتى السلام فيه تتخلله الأهوال “(11) .

إن بن نبي لم يطرح مشكلة الخلافة كمؤسسة، كما فعل مع النظام الجمهوري. والمعروف أن معاوية بن أبي سفيان هو الذي أفرغها من جوهرها، غير أن مفكرنا يعطي الأحروية للتأويل الثاني إذ حمّل مسؤولية كل ما وقع في صفِّين لهذا الرجل. فهل تراجع مفكرنا عن التأويلين الآخرين بسبب تداخل العامل الإلهي والعامل البشري إلى درجة استحال معها عليه أن يحكم ببطلان الخلافة بعد زمن قصير من تأسيسها، ولا أن يفعل كما فعل علي عبد الرازق فيقول بأنها لم تكن مطابقة لتعاليم القرآن والسُّنة النبوية، كما أنها لم تكن بالضرورية، ولا أن يتَّهم الجماعة الإسلامية بأنها صارت غير مهتمّة بالخلافة بعض العشرات من السنين بعد ظهورها؟

أما برهان غليون فيبدو أنه يميل إلى التأويل الثالث عندما يقول عن معركة صفّين:  ” إنها اللحظة التي انتصرت فيها السلطة الزمانية على الخلافة الموحاة لأن النبي، الذي جاءت الخلافة امتدادا له، كان دولة استثنائية، ولحظة مُجْتَباةً، وانبجاساً لما هو فوق الطبيعة، وهو الأمر الذي وُجِدَ لكي لا يدوم… إن الدولة الإسلامية التي كانت في البدء منتوجا فرعياًّ للعامل الدينيّ، تلك الدولة وجدتْ صعوبة في توظيف الدين وإخضاعه لمنطقها السلطوي. فبدلاً من أن تكون الدولة تابعة للدين، سيكون الدين تابعا لها... “(12) .

كان بن نبي ينظر إلى “الأفكار الميِّتة” و”الأفكار الخاطئة” كما ينظر الطبيب إلى الجراثيم. وهو يرى أن البلدان الإسلامية كلها تعاني من كامل الأفكار المسببة للأمراض، والتي سادت في مرحلة ما بعد الموحِّدين. وهذا المرض يظهر من خلال طريقة تفكير المسلمين وسلوكهم وتُميِّزهم عن الشعوب المتحضِّرة أو الشعوب التي هي في طريق إعادة الرسكلة التاريخية. وهو يكشف عن هذا المرض ليقف على عدة صور مرضية: التشتت، القابلية للاستعمار، التشبُّث بعادات متعفّنة… وتلك هي العيوب الثقافية والفكرية والنفسية التي تُفسِّرُ الطابع العاطفي والوجداني في السياسات المنتهجة عموما في البلدان الإسلامية.

والفرق الذي يُقِيمُهُ بن نبي بين الفكرة الأصيلة والفكرة الفعَّالة قد نبّهَ إليه كُتَّابٌ آخرون يرون أن الفكرة لا تكمن قيمتها في مضمونها الميتافيزيقيّ بقدر ما تكمن في النتائج الإجتماعية والإقتصادية التي تُوَلِّدُها. فابن خلدون سجّل منذ قرون أنّه ” لكي نُثْبِتَ صحة فكرة يجب أن نضعها على محكّ العالم الخارجيّ“. أما سبينوزا Spinoza فقد كتب يقول في كتابه (الربوبية – الأخلاق-ll  Théodicée (Ethique-II)): ” إنَّ الذي أقصده بالفكرة المناسبة هو الفكرة التي تتمتع بكل خصوصيات الفكرة الصحيحة أو تبدو عليها الإشارات الخاصة بالفكرة الصحيحة، وهذا بالنظر إلى تلك الفكرة بحدّ ذاتها، ودون النظر إلى علاقتها بغيرها من الأشياء”’. ويقول ليبنتز Leibniz على لسان فيلاليت Philalèthe : “إنّ الأفكار في علاقتها بالأشياء تكون حقيقية أو وهمية، تامة أو ناقصة، صحيحة أو خاطئة. وأنا أقصد بالأفكار الحقيقية تلك التي لها أساس في الطبيعة والتي هي مُطابقة للكائن الحقيقي ولوجود الأشياء أو النماذج الكُلِّيَّة. وإلاَّ فهي لا تعدو أن تكون أفكارا عجيبة أو وهمية… والأفكار الممكنة صحيحة، أما الأفكار غير الممكنة فهي خاطئة “(13).

أما مونتيسكيو Montesquieu فيقول في “روح القوانين L’Esprit des lois):   “يمكن أن نجد من بين الديانات الخاطئة تلك التي تستجيب أكثر لخيرِ المجتمع، وتلك التي تستطيع أكثر من غيرها أنْ تُساهم في إسعاد المجتمع مع أنها لا تميل إلى قيادة الناس إلى نعيم الحياة الأخرى. ولهذا فإنني لن أدرس مختلف الديانات في العالم إلاّ بالقياس مع ما فيها من فائدة للدولة المدنية، سواء أتعلَّقَ الأمرُ بحديثي عن الديانات السماوية أم عن تلك الديانات التي نبتت في أرض الواقع’”. أما ستيوارت ميل Stuart Mill فهو يُمَيِّزُ بين “العقائد الحيَّة” و”العقائد الميِّتة”. وماركس (Marx) من جهته يقول في كتاب “الإيديولوجيا الألمانية L’idéologie allemande):  “إنّ الإنسان لا يُبرْهِنُ عن الحقيقة إلاّ من الناحية العمليّة“.

أما اورتيغا إي غاست Ortéga Y Gasset فيذكر “العقيدة الحيّة” و “العقيدة الجامدة“. وجوستاف لوبون Gustave Le Bon يرى أنّ  “قوة الفكرة لا تُثْبِتُ قيمتها العقلانية. فكثير من العقائد الدينية والسياسية قد أقامت الدنيا وأقعدتْها مع أنها خاطئة… والأفكار الخاطئة هي أكبر مُخرِّبٍ للتاريخ. ومُحاربتها يجب ألاّ تكون بالأسلحة المادية، فالمدفع ما هو إلاّ خادم للفكر”’ (14). أما إيرنيست يونجر Ernst Jünger فيلاحظ من جهته أنَّ  “الإيديولوجيا الأكثر ذكاءً ليست هي الأحسن، بل أحسنُها هي تلك التي تُساير مجريات الأحداث في الأرض بسهولة وتكتسي صبغة إنسانية”’ (15). ووليام جيمس William James يعتبر أنّ الأفكار لا قيمة لها إلاّ إذا أثبتت صحتها في العمل، فكل ما لا يقبل التطبيق، وكل ما لا تتولّد عنه حقائق فعليّة ليست عنده إلاّ مساومة فارغة… لكن ما حققه بن نبي في دراسة هذه “الأجسام المُصغَّرة” حسب تعبيره لم يُحقِّقْهُ أيٌّ مِنْ هؤلاء الكُتَّاب.

وإذا كانت الأفكار تأتي من السماء أو من الكتب وتمُرُّ على خبرات الإنسان النفسية، فإنّ نتائجها تنعكس في الحياة وفي الشارع… فقد كان مصدر الفكرتين الخاطئتين اللتيْن سادتا خلال القرن 20 ، أي الشيوعية والنازية، هو عقل ماركس وعقل هتلر، لكن الشعوب هي التي دفعتْ ثمنها، حيث يزيد عدد الضحايا في الحرب العالمية الثانية ، إضافة إلى جرائم الشيوعية في الإتحاد السوفياتي، والصين، و كومبوديا وغيرها، عن مائة مليون ضحية. فسواء أكانت الأفكار صحيحة أم خاطئة، حسنة أم سيئة، فهي لا تتحقق إلاّ إذا تبناها الفكر الخصب، والإبداع وروح الابتكار لدى العلماء، والقوة الاقتصادية، والرأي العام، والقوة المسلَّحة. وهذه الوسائل بدورها تُولِّدُ أفكاراً جديدة، وهكذا تستمر ديناميكية التطوُّر.

والفكرة الخاطئة يُتَخَلَّى عنها إذا لم تأتِ بأية فائدة. وكذلك الفكرة الصحيحة إنْ لم تكن فعالة. فهما في هذا المقياس سواء. والفكرة الخاطئة، شأنها شأن الفكرة الصحيحة، تبدأ بنيل الإعجاب وجلب الأتباع، ثُمّ إنها تلتقي بالمصالح النفسية والإجتماعية والسياسية لدُعاتها أو للذين يفرضونها فرضا، وتنتهي في الأخير إلى كارثة. وقد رأينا هذا النموذج مع الشيوعية والنازية والبعثية، ونراه اليوم مع الإسلاموية. فهذه الفئة الأخيرة تتبنى قناعات مجرَّدة من الوسائل الكفيلة بفرضها، وهي لذلك تتضوّر غيظاً وضغينةً، مما يجعل أتباعها أشخاصا قانطين، حقودين وعنيفين.

مراجع :

1) عن (تحوّلات بيولوجية  Métamorphoses biologiques)، دار النشر Calman-Lévy ، باريس 1975.

– حوار في مجلة  « Le Point »  ، الصادرة بتاريخ 21 أفريل 1975.

2) ذكر بن نبي مفهوم (الوعد) لأول مرة في كتاب “الظاهرة القرآنية”، ويرى فيه “أساس الأخلاق الجزائية في الديانات السماوية“. وفي موضع آخر من هذا الكتاب يكشف عن أن “الجزاء عاجل بالنسبة للجماعة: فهو يرتبط بمصلحتها في هذه الحياة الدنيا”. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن الوعد الأكبر يُخاطب الفرد والوعد الأصغر يخاطب الجماعة.

3) ( السياسة والإيديولوجيا Politique et idéologie )، مقال صادر في مجلة Révolution africaine بتاريخ 09 أكتوبر 1965.

4) عن ( العقل في التاريخ La raison dans l’histoire ).

5) مقدمة ابن خلدون.

6) عن ( كتاب الفيلسوف Le livre du philosophe )، دار النشر  Flammarion ، باريس 1969.

7) ج.أ. هوستاش J.A.Hustache: (المُعلِّم أوكهارت  والتصوف الريناني Maître Eckhart et la mystique rhénane)، دار النشر Le seuil ، باريس 1956.

8) عن “مَنْ سيبقى على قيد الحياة؟”  Qui survivra ?).

9) هذا دون أن نذكر تلك الهموم التي تعرض لها هذا الأخير بسبب نظريته: فقد أقيل من مهامه كطبيب لملك أنجلترا، شارلز، وسُحِب منه لقب الدكتور، وقضى آخر أيامه في الفقر والعوز. وقبله كان الإسباني ميشال سيرفات Michel Servet قد أُحْرِقَ حياًّ في جنيف سنة 1553 بطلب من كالفين Calvin ، وذلك بسبب تمييزه بين القلب الأيمن والقلب الأيسر.

10) شيشرون : (حول الجمهورية  De la république)، دار النشر Flammarion ، باريس 1965.

11) تاسيت ] Tacite: ( تواريــخ Histoires )، دار النشر LGF، باريس 1963.

12) برهان غليون: ( الإسلام والسياسة: الحداثة المغدورة  Islam et politique : la modernité trahie)، دار النشر القصبة، الجزائر 1997.

13) عن ( مقالات جديدة حول المنطق/ الإدراك؟؟ الإنساني  Nouveaux essais sur l’entendement humain)، دار النشر GF، باريس 1966.

[14] Cf. « Premières conséquences de la guerre : transformation mentale des peuples », Ed. Flammarion, Paris 1920.

14) عن ( أولى نتائج الحرب: التحوُّل الذهني للشعوب  Premières conséquences de la guerre : transformation mentale des peuples)، دار النشر Flammarion ، باريس 1920.

[15] Cf. « Le mur du temps », Ed. Gallimard, Paris 1963.

15) عن (جدار الزمن Le mur du temps)، دار النشر Gallimard، باريس 1963.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى