بين الفكر والسياسة

 مالك بن نبي 13) آفــاق جــزائــريــة

بقلم نورالدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان.

كان مالك بن نبي مترددا في العودة إلى الجزائر عندما أُعلِن الاستقلال في 03 جويلية 1962 وبدأ الصراع على السلطة يتخذ شكل المواجهة الدامية. وبما أنه لم يهتمّ أبدا بالسعي إلى اكتساب السلطة فإنه لم ينضمّ إلى أي طرف من الأطراف المتصارعة، لكنه لم يتردد في التعبير عن رأيه بالكتابة كعادته، وذلك من أجل التنديد بإنزلاقات هذا الطرف أو ذاك. وهكذا واصل حياته وأنشطته في القاهرة و في ليبيا. وفي 03 جانفي 1963 وضع اللمسة الأخيرة لدراسة في 24 صفحة، عنوانها: “الثورة و الثورات المزعومة في العالم الإسلامي Révolution et pseudo-révolutions dans le monde musulman).

وكانت كلمة “الثورة” في تلك الفترة كلمة سحرية تُبَلْوِرُ تطلُّعات الشعوب المستعمرة أو المتأخرة إلى الاستقلال والرقيّ الاقتصاديّ والعدالة الاجتماعية. وكل الأنظمة “التقدّميّة” كانت تدّعي أنها ثورية. ولذلك عَرَض بن نبي مفهوم الثورة على التحليل لكي يميِّزه عن الثورات المزعومة التي من شأنها الإرهاص بالثورات الحقيقية. يقول: “إنّ العِلْمَ الثوري ينبغي أوَّلاً أن يقف على المقياس العام الذي يُتيح إخضاع كل الثورات إلى مخطط عام للمفهوم، إلى نموذج يسمح بالتمييز منذ البدء بين الثورة والثورة المزعومة، وبالتعرّف على اللحظة التي يمكن أن تنحرف الثورة لتتحوّل إلى ثورة مزعومة تحت تأثير عوامل مُعيَّنة. إنّ هذا النموذج يسمح خاصّةً بقياس عمق الفعل الثوري ومعرفة ما إذا كان ينتمي فعلاً إلى المسار الثوري، أو أنه لا يعدو أنْ يكون ثورة مزعومة، أو حتى ثورة مُضادّة مُمَوَّهة بالمظاهر“.

عاد بن نبي إلى الجزائر في 18 أوت 1963 عبر مركز بوشبكة الحدوديّ آتياً من ليبيا. عاد إلى وطنه بعد سبع سنوات من المنفى، وقد صار رجلا ناضجاً يجُرُّ أذيال الخيبة لأنه يعرف كل شيء عن الماضي ومُطّلع على كل شاردة وواردة في الحاضر. وكان الظرف السياسي في الجزائر العاصمة في غاية التشنّج. في 03 سبتمبر اسْتقْبلَه  بن بلّة مع صديقه الدكتور عبد العزيز خالدي، وأبى إلاّ أنْ يُشاركاه وجبة الغداء، ثُمّ التقى به ثانيةً في 11 سبتمبر. وكان 15 سبتمبر هو تاريخ انتخاب بن بلة رئيسا للجمهورية. وفي 10 أكتوبر أنهى بن نبي تحرير دراسة حول (الإيديولوجيا) وسلّمها لابن بلة الذي كان قد أعلن منذ وقت قصير في إحدى خُطَبِهِ: ” لدينا برنامج، لكننا بدون إيديولوجيا”.

في الوقت الذي دخلتْ فيه الجزائر في مرحلة البناء دون أن تكون لديها أية فكرة عن مشروعها المستقبليّ، كان بن نبي يقيس مقدار تجرّدها من الرؤية الصحيحة التي كان من شانها أنْ تضمن النجاح في العمل المخطط له. كان يريد أنْ يسدّ هذا النقص بإثبات ترابط المشاكل: الاقتصاد مع الحالة النفسية، والسياسة مع الأخلاقيات، والثقافة مع العمل…

فالسياسة عنده ليست وظيفة بل هي مَهَمَّة، وملمح رجل السياسة يجب أن يكون أقرب إلى ملمح الدَّاعية منه إلى ملمح الموظَّف، ولا معنى للسياسة إذا كانت لا تتجه إلى الحضارة. كتب بن نبي في دفاتره بتاريخ 25 أكتوبر 1963 يقول: ” إنّ كل نشاط بشريّ خارج هذا الإطار هو مجرد تضييع للوقت: فالسياسة تصير كذبةً، والاقتصاد يصير قضية أشخاص، والثقافة تصير حُلْيةَ تتزيّن بها بعض الأرواح المتميّزة…”.

ولمّا طلب منه بن بلّة أن يُدْليَ برأيه حول الحالة العامة في البلاد سلّم له في بداية نوفمبر مذكرة عُثِرَ على مخطوطتها، وفيها يمكن أن نقرأ ما يأتي: ” إنّ واجب المثقف ليس أنْ يقول ما يروق له أو لغيره، بل أن يقول ما يبدو له حقيقةً. ولا شك أن ذلك هو ما دفع بكم إلى استشارتي في أول لقاء تشرفتُ به معكم“.

ويلي ذلك تحليل يصف فيه بدقة تلك الإعوجاجات التي كان يرى أنها ستكون سببا في فشل السياسة المُزمع انتهاجها. وهو ينطلق من فرضية أن النظام السياسي في بلد خارجٍ من الاستعمار يمكن أن تواجهه وضعيتان: فإمّا أنْ يُعاني من الضغط الخارجي ( وهي فرضية استبعدها بن نبي)، أو من (الفساد) من الداخل. وينبّه بن نبي أن للفساد أسباباً، هي:

ـ تعليق المبادرات والقرارات الثورية أو تشويهها بحيث تصير غير مفهومة أو غير مقبولة لدى الشعب إلى درجة يخبو فيها حماسه تجاهها.

ـ إحداث اكتظاظ في الجهاز الإداري بما يزيد عن حاجته، مما يجعل الإجراءات تتحوّل إلى بيروقراطية وتتسبب في سد الطريق في وجه المسار الثوريّ.

ـ توريط ذلك الجهاز من وجهة النظر الأخلاقية بفتح الباب فيه لأكبر عدد من عديمي الكفاءات وعديمي الأخلاق والانسجام.

ـ تعكير الحياة اليومية بمختلف الوسائل، وذلك بالإفراط في تحرّي التفاصيل التي تؤدي إلى تعويد الروح الشعبية على الفوضى وانعدام النظام من جهة، وإلى تحميل السلطة الثورية تبعات هذه الفوضى في أعين الرأي العام السليم.

ـ فسح المجال لأشخاص مشكوك فيهم ليسيطروا على جهاز الأمن أو ليبثوا فيه أذنابهم بغاية تجريد النظام من كل وسيلة لمراقبة مسيرة سياسته، مع محاولة إعطاء هذا الجهاز صبغة أولوية الأولويات. إنّ الأمر يمكن أنْ يتطوّر إلى درجة ظهور دولة داخل دولة.

ـ إنّ الأوساط المُعادية للثورة يمكن أن تعمد إلى خلق شقاقات في البلاد أو على حدودها من أجل صرف انتباه السلطة عن المشاكل الحقيقية، وهم يقومون بذلك لكي يعطوا للأسباب السابقة الوقت الكافي لتُأتِي ثمارَها.

وقد أرسل بن نبي بهذه الوثيقة نفسها إلى هواري بومدين في ديسمبر 1969 أملاً في أن يستفيد منها كتوجيهات مفيدة لمشاريعه، وهو يُحدِّثه عن “استفحال الفساد منذ 1965”. وفي الوثيقة يمكن لك أن نقرأ مثلاً: ” إنَّ تسيير دولة ليس كتسيير مطعم أو محلّ تجاريّ، ولا حتى مصنع. فحصيلة أي نشاط تجاريّ بسيطة، وهي تُعدّ بعمليتين. والميزان يبيِّن على الفور ما إذا كانت التجارة رائجة أو كاسدة. أمّا ميزان بلدٍ فهو في غاية التعقيد. والحقيقة أنه لا وجود لآلة يمكن لها أن تحسب لهذا الميزان حسابه، التاريخ وحده هو الذي يقوم بذلك. إنه مُحاسب لا يرحم ولا يُهمل أيّ تفصيل. فهو يقدم أحيانا فاتورات ثقيلة جدا وتحتوي على حسابات قد نسيناها وغلطات لم نصححها وأخطاء لم نُصْلِحْها وفضائح غَضَضْنَا الطّرْفَ عنها أو أسْكتْناها. وينبغي ألاّ نتعجب عندما نرى دولاً موازينها التجارية رابحة، لكنها تنهار لأول هزّة من الخارج أو من الداخل. إن هذه الدول لم تأخذ حسابات التاريخ بعين الاعتبار، وسيّرتْ شؤونها كما يُسَيَّر المحلّ التجاريّ. وللتذكير، ففي عشية الغزو الماغولي أواخر القرن 12 كانت أغنى دولة إسلامية وأقواها على ما يبدو هي خوارزم. لقد انهارت هذه الدولة في ظرف أسابيع تحت ضربات جنكيزخان، بينما لجأ الشاه محمد الخوارزمي إلى إحدى جزر بحر قزوين التي مات فيها. ومن المفيد التذكير بهذه المآسي التاريخية في وقت تتجه فيه النزعة الاقتصادية إلى السيطرة على السياسة، وصار الاعتقاد السائد هو أن كل مشاكل البشر يمكن أن تُعالَج بحلول اقتصادية “.

وفي الأخير كشف بن نبي عن أهم ما في هذه الوثيقة لعامة الناس بمناسبة المحاضرة التي ألقاها في جانفي 1970 (والتي حضرها كاتب هذه السطور)، وأعطاها عنوان: ” معنى المرحلة الحالية”. إنّ هذا النص يكشف عن بن نبي واعٍ، شجاع، على علم تام بالدور الذي يمكن أن يلعبه، وهو الدور الذي يصبو إليه رجال الفكر في كل العصور، أي أن يكون: مستشار الأمير أو رجل السياسة، أو صاحب القرار. وهو الدور الذي لن يُسْنَدَ إليه على الإطلاق، باستثناء فترات قصيرة عند أنور السادات عندما كان على رأس المؤتمر الإسلاميّ، أو عند شريف بلقاسم في وزارة التوجيه، أو عند القذافي.

وبعد تسليمه لابن بلة عرضاً عن حالة البلاد بأسبوع، اقترح عليه هذا الأخير، كتابيا، إنشاء “مركز للتوجيه الثقافي”، واصفا هذه المؤسسة بأنها “مخبر حقيقي يتم فيه إعداد صيغة لثقافة وطنية تستجيب لكل متطلبات مرحلتنا التاريخية“. واقترح أن تكون المؤسسة تحت إشراف رئاسة الجامعة. وفي ديسمبر 1963 وضعت رئاسة الجمهورية تحت تصرّفه شُقَّة في 50، شارع روزفلت من أجل اتخاذها مقراًّ للمركز المذكور ومسكناً له. كما عُيِّن كذلك مستشاراً تقنياًّ في وزارة التوجيه التي كان على رأسها شريف بلقاسم.

اقتُرِح عليه منصب إدارة التعليم العالي، وقد قبِل به وهو على علم بصعوبة المهمة: ” حياتنا العامة كلها قائمة على قاعدة انعدام الثقافة التي تُشوِّه كل مؤسساتنا وتُعقمها. وقد وُلدتْ حركتُنا الوطنية قبل الثورة على أرضية انعدام الثقافة، فكان لا بد ألاّ تجد غير مصالي ممثلا لها… وكذلك بطولتنا التي أُسِّست على هذه القاعدة كان لا بدّ أنْ تُفْضي في النهاية إلى الاستقلال…”.

وحولَ حَدَثٍ من أحداث تلك الساعة، وهو العقارات الشاغرة biens vacants التي غادرها أصحابها الفرنسيون الفارون والتي أصبح الجزائريون يتشاجرون عليها، يسجل بن نبي هذه الأفكار الحزينة: ” إنه وباء الجزائر الحديث. إنّ الاستعمار الذي كان بمثابة ستار لكل جمودنا الاجتماعي والأخلاقي والسياسي قد انصرف. لكنه ترك لنا ممتلكاته التي كدّسها على مدى قرن من الزمن. وهذه العقارات الشاغرة أصبحت اليوم سببا في ظهور مرض أخلاقيّ اجتماعي وسياسي، وهو أخطر من الاستعمار نفسه… إننا نعيش كما يعيش الأبناء العاطلين الذين ترك لهم أبوهم إرثا كبيرا… إننا نعيش برأسمال متحصل عليه بطريقة غير شرعية، والحكمة القديمة تُذكِّرنا بأنَّ: الممتلكات المتحصل عليها لاشرعيا لا فائدة فيها إطلاقا Bien mal acquis ne profite jamais.. تلك هي العقارات الشاغرة”.

كانت الجزائر خلال السنوات الأولى من الاستقلال ساحة معركة ثقافية وسياسية يجري فيها الخلاف الشديد حول قضية هامة هي توجُّهها الإيديولوجي. كما كانت الجزائر العاصمة تعُجُّ بالمتعاونين والمستشارين من مختلف التخصصات. أمّا بن نبي فلم يكتفِ بالانزواء في برجه العاجي ليتأمل العراك من فوق. كان على نقيض ذلك، إذ ارتمى في المعركة ارتماءً. كان راضيا عن “برنامج طرابلس”، وكان يرى في “الإجراءات المتخذة في مجال الإصلاح الزراعي وإعادة التشجير والتنقيب المعدني، نيةً في طرح مشكلة الأرض“.

بل إنه كان يعتقد أنه يرى طوراً من أطوار الحضارة آخِذاً في الحركة، ويسجل في (مشكلة الحضارة) نصاًّ مُوَجَّهاً إلى إحدى الندوات شهرَ ديسمبر 1963 قائلاً: ” إنّ عملية التركيب بين الإنسان والأرض والزمن آخذةٌ في التحقُّقِ رغم الصعوبات المعتادة في أيِّ تحوُّلٍ اجتماعيٍّ خلال خطواته الأولى”.

كان بن نبي متحفِّزاً، متفائلاً ومتطوِّعاً. وكان يرى أن بإمكانه أنْ يؤثِّر في التوجُّه الإيديولوجيِّ في بلده، تحدوه في ذلك إرادة تامة لمساعدة وطنه على بناء أفكاره، وبُناه التحتية الذهنية، ورؤيته حول معركة التخلف. وراح يُجنِّدُ كلَّ ما تعلَّمه: فالحضارة ليست رُكاماً من المنتوجات، والثقافة ليست برنامجاً للترفيه، والتأخر ليس نقصاً في الوسائل، بل هو نقص في الأفكار…

كان يسعى إلى كسب السلطات العمومية وضمّها إلى نظريته المتمثلة في: جعل الإنسان فعَّالاً، والزمن مفيداً، والأرض مُنتجةً. كان متحمّسا إلى درجة الاندفاع. وقد كتب في نص آخر موجّه إلى إحدى الندوات عنوانه ” مشكلة الثقافة”، يقول: ” يجب أن تكون حياتنا كلها لوحة جميلة، وأغنية شجية، وقصيدة مؤثرة، وحركة منسجمة، ورائحة جذَّابة… يجب أن تتحوّل الجزائر إلى ورشةٍ ثقافية، ومدرسةٍ يكون كل واحد فيها معلِّما ومتعلِّما، ومخبرٍ تُعَدُّ فيه القيم الثقافية المطابقة لضرورات التطور، وندوةٍ يناقش فيها الشعب مسائل الحقيقة والجمال والفاعلية والإفادة… “.

ولم يكتف بن نبي بالكتابة والنشر، بل راح يساهم بكلمته من خلال سلسلة المحاضرات التي ألقاها في قاعة Les actes في شهري جانفي وفيفري 1964 حول مواضيع الحضارة والثقافة والإيديولوجيا. ومن هذه المحاضرات تكون كتيِّبه المعنون ” آفاق جزائرية Perspectives algériennes (1) التي حرَّرَ مقدمتها الدكتور خالدي. وفي شهر مارس 1964 نُشِرتْ وثيقة (ميثاق الجزائر)، وهي الوثيقة المرجعية للاشتراكية الجزائرية. وجاء في تمهيدها نقدٌ يُقْصَدُ به بن نبي عندما وردت الإشارة إلى ” إضفاء طابع الخرافة على مصطلح القابلية للاستعمار”.

إننا نحس بعمق الجرح في هذه المسألة عندما ندرك أن مفهوم بن نبي تمّ إدماجه لاشعوريا كـ “قبول لواقع الاستعمار”. أما اللوم الذي وجهه له المثقفون الموصوفون بأنهم (تقدّميون) فكان أكثر عنفاً وفظاظةً من اللوم الذي وجهوه للاستعمار نفسه، لا لسببٍ إلاّ لأنَّ بن نبي اكتشف في الإنسان الجزائريّ ميزة ما بعد الموحدين، وطرح عن وجهه قناع الضحية الذي كان يتستّر وراءه، لقد عرَّاه ووضعه وجها لوجه أمام مسؤولياته التاريخية التي تحملها أخيراً عندما حقق حريته. وهذا المفهوم لم يَحْظَ بالقبول إلى يومنا.

وقد كان على بن نبي أن يسافر إلى الخارج أحيانا في إطار مهامه كمدير للتعليم العالي، لكنه كان يُستقبَل كمفكر أكثر مما يُستقبل بصفته الإدارية. زار الاتحاد السوفياتي واندونيسيا وكندا وأوروبا وعددا كبيرا من البلدان العربية. وتنقَّل إلى الصين على رأس وفد رسميٍّ كان من أعضائه الدكتور خالدي، واستُقْبِلَ من طرف الوزير الأول شو أن لاي والرئيس ماو تسي تونغ الذي حكى له الأحداث المتتالية في مسيرته الكبرى، وأسرَّ له قائلا: ” في البداية كُنَّا 300.000 فردا، وعند الوصول لم يبق منا إلاّ 20.000. إنّ مَنْ كان وراء كثير من خيباتنا الكبرى ليسوا أعداءنا في جميع الحالات، بل أخطاءنا نحن”.

قام بن نبي بافتتاح (مركز التوجيه) على الرغم من أن المرسوم الخاص بذلك لم يصدر بعد (2). كان يستقبل الطلبة المفرنسين يوم السبت، وابتداء من سنة 1969 صار يستقبل الطلبة المعرّبين يوم الأحد. وكثيرون هم الطلبة، ومن بينهم كاتب هذه السطور، والمعلمون كانوا يحضرون لديه، إضافة إلى شخصيات شهيرة في عالم الفكر والسياسة مثل ياسر عرفات، وبينوا ميشان، وبيار روسي، وبيار بيرنار، وهوبار نيسان، ولويس قاردي، وجاك بيرك… وكان الدكتور خالدي كثير النشاط، حيث نشر عدة مقالات قصيرة في الصحافة لأنه كان مكلفاً بالعلاقات مع جمهور بن نبي.

وفي فيفري 1965 عُيِّن كلٌّ من بن نبي والدكتور خالدي للتوجه إلى الفاتيكان من أجل حضور تعيين مجموعة من الكاردينالات، ومن بينهم الكاردينال دوفال رئيس أساقفة الجزائر(3). وقد حظِيَ بن نبي باستقبال رسمي من البابا. وفي شهر مارس كُلِّف برئاسة الوفد الجزائري المشارك في المؤتمر الإسلاميّ الأفروآسيوي الذي انعقد في باندونغ، وفي المؤتمر ألقى بن نبي خطابا باسم الجزائر.

وقد اطّلعنا على نص ذلك الخطاب وعلى مسودة “تقرير الوفد الجزائري حول المؤتمر الإسلاميّ الأفروآسيوي في باندونغ” مكتوبيْن بخطّ يده. وقد ترأس أشغال المؤتمر رئيس دولة أندونيسيا أحمد سوكارنو. وفي النص الذي قرأه بن نبي مِنْ على المنبر الرسمي نصادف أفكاره الشخصية، كما نجد فيه بعض الصيغ التي لا نجدها إلاَّ نادراً في لغة الديبلوماسيين.

إنه يرى أن المجتمع الإسلامي هو ” الجماعة البشرية التي خصَّها الله من بين كل جماعات العالم الأخرى بواجب الشهادة”. وهو يستشهد بالآية التي تُكرّس هذا الواجب، ويعلِّق قائلاً: ” لو أننا اكتفينا بتقييم موضوع هذا المؤتمر بالقياس مع البعد الأخلاقي لهذه الآية وحدها، ومع انعكاساتها الاجتماعية، فإنّ هذا الموضوع سيبدو لنا على درجة متميزة من الأهمية سواء أكان على الصعيد التاريخي أو على الصعيد التقنيّ“.

إنّ الكلمة التي ألقاها بن نبي لم تكن خطابا مناسباتيا، بل هي شذرات من فكره عرضها على متلقّين يمثلون العالم الإسلامي برُمّته، يقول: ” إذا أردنا وضع الواجب الأخلاقي والسلوك الاجتماعي عند المسلم في مستوى هذا التكليف العظيم الوارد في الآية، فعلينا اليوم أن نُجري في نفوس المسلمين تغييرات تتطلب تجنيد مجهودات زبدة عقول الجيل المسلم الحاضر. ذلك أن كل تغييرٍ مطلوبٍ كشرطٍ ضروريٍّ لتمكين المسلم من استرجاع بُعْدٍ واحد من أبعاده، وهو بُعْدُ الشهادة، هذا التغيير يطرح مشكلة تقنية ذات طابع نفسي واجتماعي، بل واقتصاديّ كذلك“.

إنّ العرض الذي حرره عند عودته من المؤتمر هو نموذج عن التقرير الصحيح، فهو مبني حسب خطة واضحة ودقيقة، وهي: التحضير للمهمة (ومعها ثماني فقرات مرقمة)، الاستقبال (في جاكرتا)، افتتاح المؤتمر ( خلاصة عن خطاب الرئيس سوكارنو)، مجريات أشغال المؤتمر (خلاصة عن تدخلات الممثلين، تنظيم العمل في لجان، توجهات المؤتمر، أحداث غير متوقعة…)، نشاطات الوفد الجزائري، تحليل أشغال المؤتمر، وخاتمة.

قام الماريشال تيتو بزيارة رسمية للجزائر في أفريل 1965. وقد قررت الحكومة تكريمه بمنحه شهادة دكتوراه شرفية. وكان بن نبي هو الذي تلا الخطاب الذي استُقبِل به، وهو الذي سلّمه الشهادة بحضور الرئيس بن بلّة. إنّ هذه الأنشطة المكثَّفة لم تصرفه عن العمل الذي واصل فيه بنفس الدفع الذي كان عليه قبل تلك الفترة. وهكذا يُستفاد من دفاتره أنه كان في الصفحة 103 من مخطوطة (مذكرات شاهد على القرن: الطفل)، الكتاب1، وذلك خلال شهر جوان 1965.

وغداة الانقلاب سجل في دفاتره: ” بلغني أن نظام بن بلة سقط وأنّ الجيش استولى على السلطة… السلطة الجديدة يظهر أنها تنوي اكتساب شرعيتها من الاستمرارية. في الوقت الذي تنتظر فيه البلاد جديدا، يُقال لها إننا نواصل بالقديم: الاشتراكية على وجه التحديد. إنه الخطأ الأول الذي يرتكبه النظام”. ثُمَّ سجَّل في 27 جوان: ” أنهيتُ الجزء الأول من مذكراتي التي أنوي نشرها في أجزاء منفصلة، وهي مرتبة حسب المراحل الثلاثة من حياتي” ( الطفل، الطالب، الكاتب).

عُيِّنَ أحمد طالب الإبراهيمي وزيرا للتربية الوطنية واستدعى ابن نبي الذي سجل بتاريخ 16 جويلية 1965: ” كان الموعد المضروب هو الساعة العاشرة. عندما أُدْخِلْتُ بقي طالب أحمد وراء مكتبه. إنه لا يستقبل مثل سابقه. استقباله (رسمي). هل يدل هذا على ميول سلطوية؟ أمْ هو الغرور؟ “. وخلال الاجتماعات التي كان يُستدْعى إليها مديرو التعليم الابتدائي والثانوي والعالي لم يكن الوزير يعطيه الكلمة، وكان يستفزه ولا يُضيِّع أية فرصة لإهانته. لم يكن يعامله ككاتب أو مفكر، أو كحاضر يكبره سناًّ، بل يعامله كموظف أقل منه رتبةً أو كتابع له. وفي شهر سبتمبر أمر الوزير باسترجاع سيارة الوظيفة التي كانت عند بن نبي.

و بالإضافة إلى أنشطته المتنوعة فقد بدأ بن نبي المشاركة في أسبوعية Révolution africaine، وكانت كل المقالات التي يقترحها لا تحظى بالقبول. وكان على وعي بالحدود المفروضة على تعبيره عن أفكاره، ويسجل ذلك في 18 سبتمبر قائلا: ” عندما كنت أكتب في عهد بن بلة ، كنت أضطر، إذا أردْتُ بثَّ بعض أفكاري في الوسط الجزائري، إلى أنْ أضعها تحت رعاية هذه الشخصية. أكاد أكون مضطرا للتصريح بأنه هو صاحب هذه الأفكار. إنها الضريبة التي كنت أدين بها للزعيم، في مجال الأفكار، وفي بلد يتعذر فيه التعبير عن الأفكار حتى ولو دُفِعَتْ هذه الضريبة. وعلى أيّة حال فقد كنت أدفعها حتى في القاهرة عندما كنت أُضطرُّ لأقول إنّ أفكاري كلها من وحي زعيم الزعماء جمال عبد الناصر. واليوم أنا مضطرٌّ للحديث عن 19 جوان في كل مقال من مقالاتي التي أنشرها في Révolution africaine… بل وحتى بهذا الثمن فإنًّ أفكاري لا تمر بكاملها، إذ كُلّما عبّرْتُ عن نقدٍ جادِّ، أي ضروريّ ومفيد، يتمُّ حذفه.… “.

صدر الجزء الأول من كتاب “مذكرات شاهد على القرن: الطفل” في شهر نوفمبر. وفي جانفي 1966 أخبره طالب أحمد بأنه سيعزله من إدارة التعليم العالي، فسجّل بن نبي هذه الملاحظة في 19 جانفي 1966: ” إنّ طالب أحمد في غبائه يعتقد أن بن نبي علا شأنه، فيجب إنزاله “. وفي آخر هذا الشهر توجه ثانيةً إلى أندونيسيا في مهمة، وهناك استقبله سوكارنو. وعند عودته شرع في تحرير الجزء الثاني من مذكراته تحت عنوان “الطالب”. وفي شهر مارس أخبره شريف بلقاسم بأن بومدين ينوي تعيينه سفيرا للجزائر في الفاتيكان، فأجابه بن نبي بأن هذا التعيين لا يهمّه(4).

وفي شهر ماي كان في بيروت، حيث التقى بتلميذه عمر مسقاوي، والتقى بالدكتور عبد المجيد الذي أنهى ترجمة الجزء الأول من “مذكرات شاهد على القرن”، ومن هناك توجّه إلى العراق التي زار فيها معاقل العصور الإسلامية الأولى، وهي: الكوفة، النجف وكربلاء…

وعندما عاد من سفره سجل هذه الملاحظة بتاريخ 19 أوت 1966: ” أخبرني الأمين العام بأن السيد طالب أحمد عوّضني في إدارة التعليم العالي، ويقترح علي بديلا يتمثل في منصب مستشار تقني”. و بالفعل، فسرعان ما تلقى بن نبي رسالة من الوزير تُخبره بأنه قد تمّ إنهاء مهامه في إدارة التعليم العالي. وقد رفض التعيين الجديد، ووجّه هذه الرسالة إلى بومدين بتاريخ 29 سبتمبر: ” لقد صدر مرسوم ينهي مهامي في إدارة التعليم العالي. سيادة الرئيس، إنّ كون هذا النص غير موقع من طرفكم ليس شذوذا بسيطا، فهو يبدو موقعا من طرف وزير، ويمكنكم الاطلاع على ذلك بإلقاء نظرة على الجريدة الرسمية. وعلى أية حال، فأنا واع بأني مثَّلْتُ الجامعة الجزائرية أحسن تمثيل داخل الوطن وخارجه في ظروف تبقى خالدة في ذاكرة التاريخ، كما أنها ستبقى حاضرة في حياتي الخاصة. وحرصاً مني على الوفاء لتقاليد العمل ارتأيت ألاَّ أضطلع بالمهام الجديدة المسندة إليّ والتي لن أتمكن من إعطائها حقها في الظروف التي عُيِّنْتُ فيها. تفضَّلوا(5) “.

وهكذا اضطرَّ بن نبي إلى التنقل في الحافلة لأنَّ سيارة الخدمة أُخِذَتْ منه. وفي 20 أوت يُستفاد من كلامه أنه وصل إلى الصفحة 149 من مذكراته في جزئها الثاني “الطالب”. كان وحيدا في بيته، فراح يفكر في وضعيته: لقد غادر مهامه، وهو يخشى أن يُحْرم من مرتبه ومسكنه، ويخشى على مصير بناته صغيرات السن، فيبوح بما يأتي في دفاتره: ” قضيت ثلاثين سنة وأنا أمرُّ على مأساة بلا نهاية. أقضي أيامي الآن أمام نافذتي حينا وأنام حينا آخر مثلما كنت في زنزانتي بسجن شارتر… وفي الوقت الذي تمرِّر فيه أصابعي حبّات التسبيحة يكون عقلي منهمكا في استظهار تناقضات حياتي. فأثناء الثلاثين سنة التي عشتها منذ إنهاء دراساتي كان الاستعمار يريد أن يقتل براعم أفكاري. ولم ينجح في ذلك، فأفكاري اليوم آخذة في الانتشار عبر العالم الإسلامي مثل بذرة المستقبل… “.

وكان بن نبي يعيش بين المطرقة والسندان في شقة واقعة في الطابق الثاني من عمارة متكونة من ثلاثة طوابق. كان يعاني من صخب جيرانه المتواصل ليلاً من فوقه ومن تحته. وحتى شكاواه لم تُجْدِ نفعاً. وكثيرا ما كان يُقْطع عليه الماء والكهرباء والهاتف. صار يعتقد أنهم يريدون أنْ يحْرموه من النوم وكذلك من ضرورات الحياة لمنعه من استكمال عمله الفكريّ وإيصاله إلى الطلبة الذين كانوا يأتون لحضور ندواته.

وأكثر من ذلك فقد عَلِمَ بأن مسكنه مُنِحَ لشخص آخر. وهنا نَفَدَ صبرُه فوجَّه رسالة بنبرة تهديد إلى الرئيس بومدين يقول فيها: ” إنّ المناورات التي واجهتُها منذ عودتي إلى الجزائر المستقلة، والإجراءات التي اتُّخِذَتْ ضدّي مصدرها من الخارج. وأخصّ بالذكر تجربتي الطويلة التي أعتقد أنها فريدة في الجزائر في مجال الصراع الإيديولوجي بجوهره ووسائله، تلك التجربة لم يكن لها أن تترك مكانا للدهشة لو أن التحقيقات التي طلبْتُ إجراءها تمّتْ: ولم يكن بالإمكان أنْ تتمَّ… منذ سنتين، ومنذ سنة، ارتُكِبَتْ جرائم تفاديْتُ إعلام الأطراف المعنية بها. وأصِلُ الآن إلى آخر جريمة. فقد بلغني إشعار من مصلحة الإسكان التي فتحتْ منذ خمس سنوات بيتا للدعارة تحت شقتي بطلب من اليهودي سيدني ناتان  Sydney Nathan، والإشعار مفاده أن المصلحة مَنَحتْ بيتي الذي اقطنه لساكن آخر …. وكدليل على أنه وصل إلى حد فقدَ فيه كل مقاومة وصبر كتب هذه الأسطر المُدْهِشة: وفي وعي تام بخطورة وجلال ما أنوي القيام به، فإني أجد نفسي ـ إنْ لم يُلْغَ هذا الإجراء الخسيس في ظرف 24 ساعة ـ  ملتزما بإعلان الجهاد في كل مكان وفي كل الظروف التي بإمكاني القيام بذلك إلى أنْ أُقتَلَ أو أُعْتَقَل على أيدي أذناب الصهاينة في الجزائر. تفضلوا….

في 19 أوت أرسل برسالة إلى شريف بلقاسم يقول فيها: ” لقد أدركت أنكما، أنتم وبومدين، لم تشعرا بدرجة التعفن في الإدارة نفسها، وأخص بالذكر جهاز الأمن”. وفي 10 سبتمبر تم إعدام سيد قطب (1906 – 1966) شنقاً في القاهرة، فسجل بن نبي ما يأتي: ” مات هذا الوجه النيِّر في حركة الإخوان المسلمين. والجلادون الذين أعدموه لا يدركون أنهم حرّروا النّفَس التي ستتحوّل عن قريب إلى عاصفة فوق رؤوسهم: وهي العاصفة التي ستقضي عليهم”.

المراجع :

1) منشورات النهضة: En-Nahda, Alger 1964.

2) يُذكِّر بن نبي في مقال تحت عنوان: (رأسمال الأفكار) المنشور في: Révolution africaine du 24 avril 1968، وفي نبرة فيها تضايق، بأنه: ” اسْتُقْدِمَ من الخارج من طرف الحكومة الجزائرية من أجل تأسيس مركز للتوجيه الثقافي”، ويضيف قائلاً: ” قمتُ بتأسيسه فعلاً في الزاوية الضيقة التي أعيش فيها. وهو يشتغل منذ أربع سنوات. وبرنامجه موجود في مقدمة المرسوم الذي ينصّ على تأسيسه، والمرسوم لم يصدرْ بعْدُ في الجريدة الرسمية... “.

3) عندما توفي بن نبي أرسل الكاردينال دوفال رسالة إلى أرملته يُحيِّي فيها ” سُمُوَّ أفكاره، ورهافة  قلبه، وتفتُّحَ مشاعره”، ويضيف قائلاً: ” كان شديد الإيمان بالحوار بين المسلمين والمسيحيين. ولن أنسى أبداً أنه أتى إلى روما كموفود عن الحكومة رفقة الفقيد الدكتور خالدي، من أجل تعييني كاردينالا، وأنه استُقْبِل بهذه المناسبة من طرف البابا بول السادس. ومنذ ذلك الوقت تأسست بيننا قرابة روحية”.

4) لكنه سعى سنة 1969 للحصول على منصب سفير في بلد عربي (بيروت او القاهرة)، لكن بدون جدوى.

5) وفي رسالة أخرى موجهة إلى الرئيس بومدين، مؤرخة في 17 فيفري 1968، كتب يقول: “لقد تمكنت السلطة الموازية من إنهاء مهامّي في مديرية التعليم العالي لأن وجودي في هذه المديرية كان يضايق مختلف المناورات المضادة لترقية الإطارات التي تنتظرها البلاد“. وهذه الإضاءات تُفَنِّد الادعاء القائل إن بن نبي قد استقال من مهامه كمدير للتعليم الثانوي. ولن يتولّى أية مهمة أخرى. فالدولة الجزائرية لم توظفه إذنْ أكثر من ثلاث سنوات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى