مبادرة سياسية للسيد نورالدين بوكروح:4) التحضير لانتقال تاريخي
1) الحل يكمن في ثورة مواطنة اليوم و أكثر من أي وقت مضى
إن القرار الذي جعل من رأس السنة الأمازيغية يوم عطلة مدفوعة الأجر لا يمثل هدية من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الشعب الجزائري: فهو لم يؤمن يوما بالقضية ولا حتّى الشعب طالب بذلك أبدا.
لقد أتى القرار من رجل يشعر بالقلق إزاء عواقب تجدد التوتر وما يمكنها أن تُفرز من انعكاسات على العهدة الخامسة التي يستعد لها، فوجد في هذه المبادرة سبيلا لمواجهة الخطر وفي ذات الوقت للتظاهر بأنه خص المسألة الأمازيغية بصفة عامة والقبائل بصفة خاصة، بالتفاتة كريمة وشجاعة.
هذا المكسب ليس في الواقع أكثر أو أقل من انتصار للقضية الأمازيغية التي حملتها أساسا منطقة القبائل.
فهذه المنطقة شهدت مع مرور الزمن وتوالي المحن نشأة ضمير مواطنة، في حين تسود الولايات الأخرى سلبية أزلية تتنكّر من حين لآخر خلف قناع من حلقات أعمال العنف أو الشغب التي تندلع لتحقيق مجرد “مطالب” قطاعية لا علاقة لها بالوعي المدني. هذا ويبقى أنّ الأحداث التي شهدناها مؤخرا تسمح ببصيص أمل إزاء إمكانية أن تتطوّر الأمور في هذا السياق.
إن القرار الذي أجبرت السلطة مكرهة على اتخاذه ليمثّل الدليل القطعي أن بإمكان حركية مواطنة، حتى وإن كانت تحملها وتدافع عنها أقلية فقط، بأن تؤدي إلى تحقيق مُثُل وغايات سامية مثل التحرر من الاستعمار أو إعادة إثبات الهوية.
فأغلبية وعامة الجزائريين صاروا اليوم يتفقون مع فكرة أنهم في الأصل أمازيغ، وأنهم يمتلكون لغة أصلية سيعودون تدريجيا إلى استخدامها، وأن تاريخهم سيعدُّ بعد بضعة أيام العام 2968 الموافق لعام 2018 من التقويم العالمي و1438 من التقويم الإسلامي.
أربعة ولايات فقط من أصل ثمانية وأربعين انتزعت من السلطة الاعتراف الرسمي بالبعد الأمازيغي للشخصية الجزائرية، وبعد ذلك فرضت تكفّل الدولة بإدراج الأمازيغية في التعليم، ثم دسترة الاعتراف بها كلغة وطنية ورسمية، وأخيرا الاعتراف الرسمي بالتقويم الأمازيغي.
رغم هذا فليس مستبعدا أن تتمكن حيل السلطة من الانتصار مرة أخرى على روح السذاجة والنية الطيبة اللتان ترتبطان عادة بجميع الحركات المواطنة. في هذه الحالة ستكون السلطة الجزائرية قد تنازلت لأنصار القضية الأمازيغية عن الماضي مقابل حاضرهم ومستقبلهم. وتكون قد استولت على الفريسة وتركت لهم ظلّها، واستحوذت على واقعهم تاركة لهُم الأوهام والولائم والاحتفالات المتفاخرة.
2) الانتقال التاريخي و الأمازيغية
الانتقال التاريخي قبل أن يكون مطلبا سياسيا هو اليوم ضرورة تفرضها علينا حتمية التطور ويلزمنا بها الترتيب الطبيعي للأشياء.
فيجب علينا الانتقال إلى مرحلة جديدة من تاريخ الجزائر وفي نفس الوقت استخلاص الدروس من المرحلة الأولى (19622018-)، التي تميزت بتولي قادة ينتمون إلى نفس الجيل للسلطة دون أن يكونوا مؤهلين أو مستعدين لذلك، فمارسوها في بعض الأحيان بذهنية تسيير ملكهم الخاص، ولم يتوانى بعضهم في ترسيم التزوير الانتخابي والجهوية والعشائرية والفساد للحفاظ عليها مهما كلّف الثمن.
إنّ الانتقال التاريخي موضوع هذه المبادرة السياسية يتجاوز أفق التداول على السلطة أو مفهوم البديل السياسي البحت، كما يتجاوز أيضا فكرة مجرد التعاقب في الأجيال. فالانتقال الذي نقصده يصبو إلى تأمين شروط البقاء والاستمرار في التاريخ للجزائر كأمة مستدامة ودولة عصرية، ويجب من أجل تحقق ذلك أن يُترجم إلى تغيير شامل في البرامج الذهنية وأنماط التفكير، وفي طرق الحياة والحكم.
الشرط الأساسي ليتحقق الانتقال التاريخي هو الوحدة الوطنية، لكن المسألة الأمازيغية قد تعرضت منذ زمن طويل إلى محاولات الاستخدام والزج بها في التلاعبات السياسوية من طرف الاستعمار الأجنبي أولا، ثم السلطة ثم الأحزاب السياسية. وجميع هؤلاء سعوا لأن يجعلوا منها خط انكسار لا يُصلَح بين النّواة المدافعة عن هذه القضية وباقي البلاد.
النقاش حول الهوية الجزائرية ظهر داخل الحركة الوطنية قبل بدأ الكفاح من أجل الاستقلال لكنه سرعان ما دفن في المهد، وكان مصير أنصار مراعاة البعد البربري للشخصية الجزائرية إما العقاب أو الإبعاد من المسؤوليات. وبعد الاستقلال طفت المشكلة إلى السطح من جديد لكنها صُوّرت لباقي مناطق الوطن كتهديد للوحدة الوطنية وأمن الدولة يجب اجتثاثه وقمعه.
فالسلطة لم تعالج هذه المشكلة الوجودية في الجوهر وبنزاهة وجدية، بل تعاملت مع سطحياتها فقط بالرجوع إلى الخلف تارة وبالاستسلام مكرهة لتنازلات انتزعت منها تارة أخرى. كذلك هي لم تولي اهتمامها للقضية بعد أكتوبر 1988 إلا من أجل تحقيق منفعة خاصة وهي أن تجعل منها “عصبيّة” تحارب بها تفشي “العصبية” الإسلاموية التي كانت تهددها. وحالما مرّ خطر هذه الأخيرة عليها بعد هزيمة الإرهاب، بدأت السلطة تفعل العكس حيث أصبحت تواجه القضية الأمازيغية بالقيم “العربية الإسلامية”.
الجديد في تاريخ القضية الأمازيغية اليوم هو أنها تمكنت من الإفلات من المصير الذي أراد أن يجرها إليه تواليا الاستعمار ثم السلطة ثم دعاة الانفصال. فقد نجحت في التحرر من المنابر السياسية على اختلافها لصالح روح المواطنة التي تصبو إلى مصلحة الجزائر جمعاء والجزائريين ككلّ. فلم يعد بإمكان السلطة أن تعتمد على القوة لاجتثاثها، كما أن مصداقية دعاة الانفصال تتضاءل تدريجيا.
قبل عامين، في 4جافني 2016، كتبت مقالا بعنوان “ماذا لو كانت القبائل هي كل الجزائر؟ “، وهذا المقال كان بدوره صدى لمقال سابق نشرته في أبريل 1981 يتعلق في نفس السياق بمطالب القضية البربرية وحمل عنوان “أصل وغاية الجزائري”. النصّان اللذان يفصلهما أربعون عاما من الزمن يعكسان استمرارية لنفس الفكر حول تاريخ ومستقبل هذه الأمة.
فإذا كان قد تم البت في مسألة الأصل فإنه لا يزال علينا اليوم الفصل في مسألة الغاية. وقد اتفقنا على من نكون اسميّا لكننا بحاجة لأن نتّفق على ما يجب أن نفعله لنستحق حقيقةً صفة الأمازيغ أو “الرجال الأحرار”، فنحن الآن لسنا كذلك لأننا نعيش تحت وطأة استبداد خبيث وشرير.
إن كان “الربيع العربي” لم يخلف أيما تأثير على الجزائر فإن “الربيع الأمازيغي” يمثل موضوعيا الطريق الذي قد يأتي عبره التغيير المنشود، لكن بشرطين:
أن تفكّ عزلة القضية الأمازيغية من إطار مناطق معينة فقط من الوطن وأن لا تقتصر على المطالبة بتعليم اللغة في المدارس، و كذلك أن تتبنى حلا مقبولا وعمليا لمشكلة أبجديات كتابتها.
أن تُترجَمَ القيم الثقافية والسياسية التي تستند إليها الهوية الأمازيغية إلى “مشروع مجتمع” توافقي. فإضافةً إلى اللغة وبالموازاة معها، يجب أن نعيد بعث هذه القيم ونعيد لها الحياة حتى نجعل منها مراجعا وقواعدا لنموذج صالح للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
3) كيف نجسد الانتقال التاريخي :
يحلم جميع الجزائريون بنفس الشيء بتسميات مختلفة وهو إنشاء دولة القانون الحقيقية منذ 1962، منذ عهد الأتراك، منذ يوغرطة، ومنذ ظهورهم على وجه الأرض. هل سيعرفونها في يوم ما؟ هذا هو التحدي الذي يواجههم في مطلع هذه السنة الجديدة، أيا كان التقويم التاريخي الذي نحدّدها به.
لا يزال يفصلنا عن موعد أبريل 2019 متسع من الوقت يكفي للتحضير لهذا الانتقال الذي إمّا سيفتح عهدا جديدا أمام بلادنا، أو سيحكم عليها بالعودة إلى عصر “الوصاية” كما كانت بالأمس تحت حكم الأتراك، أو غد تُعرف فيه كمجرد “جمهورية نفطية” تكون قد دامت حوالي ستين سنة.
ونحن نقف على مشارف سنة عالمية وأمازيغية جديدتين، يجدر بنا تذكير جزائريي الداخل والخارج بأنهم يستعدون لسنة حرجة سيكون عليهم خلالها أن يختاروا بين عهدة خامسة من المؤكد أن عواقبها ستكون كارثية على المستوى الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، وبين أفق جديد بكل ما يسمح به تحقيق انتقال تاريخي من وعود وآمال.
نتيجة هذا الخيار ستكون بالنسبة لهم إما بداية انطلاقة جديدة في التاريخ؛ وإما الاستسلام لاستعمار داخلي سيولد من رحم التحالف الذي يجمع منذ السنوات القليلة الماضية استبدادا سياسيا من عصر آخر، مع أوليغارشيا مالية اغتنت من المحسوبية والصفقات العمومية وتضخيم الفواتير بالعملة الصعبة والفساد والاقتصاد الموازي.
إن الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي قد أظهرت أمام أعين العالم الصورة المتناقضة بين بلد قديم يقوده شاب يافع، وبلد شاب يقوده شيخ عاجز يتشبث بالسلطة في صورة لا يقبلها العقل ولا الحياء. الأول خاطب الشباب الجزائري عن مستقبل العالم بينما يحدثه الثاني عن الماضي الاستعماري، وذلك رغم أن إصراره على البقاء في السلطة هو ما يضعف البلاد حاليا وسيدفعها غدا إلى شكل أو آخر من الاستعباد عندما ينتهي عهد المحروقات أو عندما يتحول الدينار إلى مجرد أوراق يطبعها البنك المركزي.
فعلا فما هو الفرق بين أن نكون ملكية لقوة استعمارية أجنبية، وأن نكون ملكية لعصابة لا تكترث سوى بمصالح أفرادها؟ هذا هو حال الجزائر حاليا: ملكية خاصة لمجموعة من الأشخاص، سلطنة ودولتها «بيلك”، بقرة حلوب تستغلها مختلف العصابات التي تدور في فلك السلطة.
يقال أنّ “الذي يستطيع إنجاز الكثير قادر على إنجاز القليل”، كما لا ننسى بأن معني مصطلح “الأمازيغ” هو “الرجال الأحرار”. مع ذلك فقد بقي ينقص الرجال والنساء الذين نجحوا في تغيير أسس معادلة هوية كانت تعتبر غير قابلة للمساس أن يستحقوا فعلا المعنى الذي يحمله هذا المصطلح. بعبارة أخرى بقي عليهم انتزاع الحريات التي تحق لهم بموجب دستورهم؛ وأن يتحرروا من الاستبداد الخبيث الذي عاث في الأمة فسادا ونهب ولا يزال ينهب الثروة الوطنية داخل دوائره المغلقة؛ وأخيرا أن يتزودوا بدولة يسودها القانون والانتخابات الديمقراطية والعدالة المستقلة، كما هو حال الأغلبية الساحقة من شعوب العالم المعاصر.
4) الجهات الفاعلة المجسدة للانتقال
هي أولا وقبل كل شيء الأجيال الجديدة من جزائريي الداخل والخارج، من مختلف التيارات السياسية، ومن النخب الفكرية والاجتماعية، ومن الجيش وقوات الأمن الذين يجب عليهم التخلي عن فكرة أنهم في خدمة السلطة كما كان الانكشاريون في عهد الدّاي والباي.
فجهود الجميع لازمة ومرحب بها في معركة المصير هذه، والتي يمكن خوضها عبر مسار يتشكل من سلسلة من الأعمال الجماعية مثل:
إبراز إرادة ثابتة للتغيير والتي يُعبّر عنها بشتى أشكال التعبير السلمية؛
هيكلة وتنظيم هذه الإرادة في تيار موحد من الآراء تشكّله هذه الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والحياة السياسية؛
تبلور هذه التعبئة حول رفض العهدة الخامسة بصفتها تهديدا للبلاد، وكذلك رفض خلافة مرتبة؛
صياغة برنامج يترجم إرادة التغيير هذه إلى محاور للعمل، والتزامات وأهداف محددة؛
وضع كيفية توافقية تمكن من تعيين مرشح مشترك لجميع قوى الانتقال التاريخي في الانتخابات الرئاسية 2019.
سنعود إلى ذلك في المرحلة الخامسة والمقبلة من هذه المبادرة السياسية.
الفاتح يناير 2968