بين الفكر والسياسة

 من أين جاء الإسلاميون؟

بقلم :نور الدين بوكروح

ترجمة : بوكروح وليد

حاولت في كتاب نشرته سنة 1997: “الجزائر بين السيئ و الأسوأ” (دار القصبة للنشر) أَن أُبين كَونَ الإسلاموية الجزائرية أيديولوجيةً شعبويةً تَعودُ جذورُها إلى أعماق تاريخنا البعيد. و أن أثرها على نفوس الجزائريين و ذهنياتهم كان أقوى و أعمق من المكتسبات السياسية و السوسيولوجية و الاقتصادية و الثقافية الأخرى التي تكتلت فيها على مر العصور، عبر الإحتكاك مع العالم المتحضر قبل و بعد الإستقلال.

فعندما نتصفح تاريخ المنطقة نَجدُ أن رجال الدين هم من تصدَّرَ في أغلب الأحيان طليعةَ الحركات الثورية التي تشكلت للتصدي للاستعمار الأجنبي، أو انتفضت ضد الاستبداد الذاتي بأشكاله. و نلاحظ أيضا أنه غالبا ما تسلل وسط هؤلاء “علماءٌ” جهلة و مشعوذون متعطشون للسلطة، متشبعون بروح الانتقام الاجتماعي و تصفية الحسابات. يدركون جيدا السذاجة التي يتميز بها شعبهم، و ميوله للعاطفية، و إذعانه اللامشروط لمقدساته. يعرفون بالغريزة كيف يجب أن يخاطبوه عن عذاب القبر و جهنم و الآخرة ليتحكموا في روحه، و كيف يستعملون النبرة المناسبة لتخويفه و تجنيده. كذلك يحرصون أيما حرص على التلاعب بالمظاهر، لأنهم يعرفون جيدا أن التقدم إلى الجمهور بمظهر الشيخ المتواضع، رث الهندام بالي الثياب، بالعباءة و اللحية و البلغة أقرب إلى نفسيته و أَفيَدُ لهم من التقدم إليه في صورة عقلانية.

و عرف المغرب العربي طوال تاريخه سلسلةً طويلةً من “الدعاة”، الذين يظهرون فجأة من العدم، ليخطبوا في الناس بعنف و يرافعوا ضد استتباب الظلم و تفشي الفساد و الانحلال الأخلاقي و ترك الدين، و يحثوهم على “الرجوع إلى الأصل”. ثم ينقضون على الدولة التي يدعون الجماهير لإسقاطها و إقامة “الدولة الإسلامية” التي ستحكم وفقا للتشريع الإسلامي، و ستعرف كيف تفرض العدل و المساواة. لكن ما أن تسقط تلك الدولة حتى يسارعون بإقامة سلالة حاكمة جديدة تدوم لبعض الوقت، و سرعان ما ينتفض ضدها “شيخ” أو “مهدي” آخر و يواجهها بنفس الحجج، و هكذا دواليك عبر التاريخ.

قبل اثني عشر قرنا جاء “ميسرة”، و هو حمال ماء من الخوارج، ليحشد جيشا شعبيا هاجم به أول خلافة عربية قامت في المغرب العربي (الأغالبة)، ثم ينصب نفسه خليفة بعد الانتصار عليها. ثم جاء داعية آخر، أبو عبد الله، و هو شيعي إسماعيلي جلبه من الحجاز بعض حجيج كتامة ضمن متاع سفرهم ليعلّمهم “الإسلام الحقيقي”، و أقام خلافة الفاطميين على أنقاض مملكة الرستميين.

بعد ذلك كان الدور للميزابي أبي يزيد الملقّب “بصاحب الحمار”، في إعلان الجهاد ضد دولة الفاطميين. و قد كتب عنه ابن حماد، و هو مؤرخ عاش في تلك الحقبة، ما يلي: “عندما بدأ يدعوا الناس إلى التمرد كان يحمل عصا لا تفارق يده و لم يكن يلبس غير الصوف الخشن، لا يملك في الدنيا متاعا غير لقب الشيخ الذي يتقلده. أما في ما بعد فلم يعد يلبس إلا القطيفة و الحرير، و لا يمتطي إلا الخيول الأصيلة… شَجَّعَت القسوة التي عرف بها أتباعهُ من البربر لأن يذبحوا دون هوادة أو شفقة كلَّ من وقعَ تحت رحمتهم” (محفوظ قداش: جزائر القرون الوسطى)

ثم أتى ابن تومرت مؤسسُ خلافة الموحدين، الذي استورد من المشرق الأفكارَ الأشعريةَ التي بقت إلى اليوم تغذي الخطاب الإسلاموي. فنسب لنفسه صفة “المهدي” في 1121م و بدأ في الدعوة لإسقاط دولة المرابطين التي كانت تهيمن على المغرب العربي. كان ابن تومرت يعرف بفتواه بأن: “طاعة المهدي من طاعة الله”، و أن القتل جزاءُ كل من خرج عنها و كذلك جزاء تارك الصلاة. هو أيضا من منعَ اختلاط النساء و الرجال في الشارع، و كان أحيانا يضرب المخالفين لذلك بنفسه.

لقد عُرفَ أسلافُنا الأمازيغ منذ قديم الزمان بسرعة تأثر نفسيتهم بالأفكار المتشددة و المعارضة للثراء و الرخاء و الترف. و هذا ما جعل منهم طرفا فاعلا عبر التاريخ في جميع حركات التمرد و الانشقاقات الدينية التي عرفتها المنطقة منذ قرون ( السيركنسليون و الدوناتيين في عهد الرومان، الشيعة و الخوارج في الإسلام…). و ذلك ما دفعهم لإتباع الإمام ابن رستم و الإمام يعقوب و الإمام عبيد الله و الشيخ أبو يزيد.. الخ.

ضف إلى ذلك أن رجال الدين هم الذين قادوا أيضا الحركات الثورية التي انتفضت ضد الاستعمار في المغرب العربي: عمر المختار في ليبيا؛ الأمير عبد القادر، بومعزة، بوبغلة، الشيخ الحداد، المقراني و بوعمامة في الجزائر.

لهذا السبب سعى زعماء الحركةُ الوطنية التي تشكلت في القرن العشرين لمواجهة الاستعمار، لأن يحلّوا محلّ الشيوخ في المخيلة الشعبية، و حرصوا على إحاطة شخصياتهم بنفس المظاهر و الحماس اللذان يتمتع بهما هؤلاء ليضمنوا تجاوب الشعب معهم. يقال أن بعض العائلات لا زالت تحتفظ ببعض الشعرات من لحية مصالي حاج إلى يومنا هذا، و تحافظ عليها مثل التحف القيمة و تعتبرها مصدرا للبركة.

عندما استعادت الجزائر السيادة على مصيرها في 1962 لم تكن تحوز في جعبتها غير فكرة واحدة هي الوطنية. و قد تمكنت هذه الفكرة من شد حبل الشعب و جعله يلتحم حولها منذ الثلاثينيات إلى غاية الاستقلال، و شكلت مصدرا كافيا لتحفيزه و إيصاله إلى التحرر من هيمنة الاستعمار. لكن الوطنية ليست منبعا فكريا دائما، فمع الإخفاقات و خيبة الأمل و التجاوزات المتكررة و المتراكمة بعد الاستقلال، ارتخى الحبل و تلاشى الشعور الوطني حتى لم يعد يربط الشعبَ بدولته المستقلة.
فما كان الشعب ينتظره بعد الاستقلال هو القليل من الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و احترام شخصيته. كان يعتقد أن حكامه الذين ظلوا ينتسبون في خطابهم إلى الثورة العظيمة، أشخاصٌ شجعان و نزهاء يحرصون على خدمة البلد الذي حرروه، حتى اكتشف مع مضي الوقت و تعاقب الأحداث و الفضائح أن أغلبهم لم يكونوا سوى مستبدين عديمي الكفاءة مصابين بجنون العظمة و النرجسية، و لا تهمهم غير مصالحهم الفردية فقط. فبدأت خيبة الأمل تحط رحالها بدئا من السبعينيات، و انقشعت أوهام الشعب الذي صار يتوق صراحةً إلى أشياء أخرى مختلفة عن الاشتراكية و الثورة الزراعية اللتان فُرضتا عليه، فأخذ يبحث عن جديد يعيدُ تحفيزَهُ و يمكّنُهُ من وضع نظام اجتماعي و أخلاقي أكثر عدلا في البلاد. هذه هي السنوات هي التي شهدت بداية ظهور الإسلاموية في الجزائر، و التي خرجت بذلك من نفسيتنا القديمة لتدخلَ في واقعنا السياسي.

و شهدَ بروزُ التيار الإسلامي السياسي نهايةَ الثمانينيات، عهد الرجوع إلى إتباع “الدعاة” و الشيوخ و الأمراء كما جرت العادة منذ قرون، ثم وصلَ إلى النتيجة الحتمية التي لا مفر منها، و هي الدعوة للتمرد على دولة “الطاغوت” و إسقاطها، و إقامة الدولة الإسلامية على أنقاضها. حاولوا أن تتذكروا ما كانت عليه ساحتنا السياسية قبل عشرين سنة، و تأملوا جيدا في الشخصيات التي كانت تُكَوّنها: كم من “ميسرة” أو من “ذي الحمار” ستستعيد ذاكرتكم؟ عشرة، عشرون؟ لاحظوا جيدا و احذروا أن تغركم البذلة الإيطالية و ربطة العنق عند بعضهم، فتلك مجرد ملابس عمل، و ثياب تمويه.

كان أغلب الجزائريين إبّان الاستعمار أميين، و لم تكن الوسائل التي جندتها جمعية العلماء المسلمين كافية لتربية كافة المجتمع. من جهة أخرى كانت السلطات الاستعمارية تحرصُ على تشجيع الشعوذة و تمويلها. لكن المجهودات التي بذلتها الجزائر المستقلة أيضا لتعليم المجتمع (تعليمه و ليس تربيته) لم تتمكن بدورها من تغيير الوضع تغييرا جذريا. فما أن جاءت أوّلُ انتخابات حرة و نزيهة في 1990 (البلديات) حتى استحوذ الإسلاميون على الحصة الكبرى من نتائجها. و كذلك كانت الأمور في تونس، أين لم يصدق أحد كيف كَنَسَت أوّلُ انتخابات حرة نُظّمَت على عَجَل بُعَيدَ ثورة 2011، مسيرةَ ستين عاما من التربية و التعليم قادها بورقيبة ثم بن علي بعده. لقد أخطأ التونسيون عندما ألقوا باللوم على قطر لتمويلها المفترض لحزب النهضة، أو لوجود تلاعب في تنظيم الاقتراع، فهذه التفسيرات أتت فقط من هول الصدمة التي أحدثتها في نفوسهم النتائج. الضربة لم تأت من الخارج بل من الداخل، من الأعماق التي لم تُستَكشَف داخلَ شخصية الشعب التونسي. و ما الذي يمكن قولُهُ عن مصر التي ذهبت فيها 85 بالمائة من الأصوات (ما عدا الأقباط) ليس فقط للإخوان بل لكل ما تلون بالأخضر.

يجب أن ندرك أن الهوس بالإسلاموية لم يلد من رحم ثورات الربيع العربي و أنه أَقدَمُ منها بكثير. كما يجب أن يثير التكرارُ المستمر لنفس الظواهر على مر التاريخ، انتباهنا. لا يمكن أن تغاضي عنه أو نجتنب التفكير و التأمل فيه، و هذا العدد الكبير من الأحداث المتشابهة لا يمكن أن يكون وليد الصدف، بل لابد من وجود ميكانيزما فاعلة وراء تكرار تجاربَ مماثلة، في حقب زمنية مختلفة، و من بلد عربي-مسلم لآخر.

في الماضي كان يوجد كيان سوسيولوجي اسمه “الإنسان المسلم” بمجده و بانحطاطه على وجه سواء. لكن هذا الكيان انقسم في بداية القرن العشرين إلى نصفين، أحدهما “مسلم تقليدي” (مثل بن باديس و الإبراهيمي) و آخر “مسلم عصري” (مثل فرحات عباس أو مالك بن نبي).

فتصور النهضة كان قد انشطر بين مناصرين للإصلاح يدعون للعودة إلى القيم الأخلاقية و الدينية، و آخرين يميلون إلى الاقتداء بالغرب لاستدراك ما طال الأمة من التخلف. لكن الطرفين رغم ذلك لم يدخلا في الصراع لكن كانا متكاملين. كانا يتعايشان و يتعاونان مثلما رأيناه في زمن المؤتمر الإسلامي الجزائري في 1936، عندما اتحد العلماء و الليبراليون و الشيوعيون و الوطنيون لتبني قضية موحدة هي مواجهة الاستعمار.

لكن بعد نصف قرن من ذلك، و مع تفشي أفكار المودودي و سيد قطب، لم يعد المسلم التقليدي و العصري إخوةً و لا حتى أبناء بلد. أصبحا يشبهان زوجين فَرَّقَ بينَهُما نزاعٌ أتى من خارج البيت، فلجئا إلى الطلاق بسبب استحالة بقاء الانسجام بين ذهنيتيهما بعد دخول العامل الخارجي، ثم انتهيا أخيرا إلى عداوة لدودة. المشكل الكبير هو أنهما لا زالا يقيمان بنفس البيت الذي لا يمكنُ لأحدهما التنازلُ عنه للآخر أو الرحيل عنه. و مع تفاقم الخلافات و تصعيدها و تراكمها، و التباعد التدريجي الذي طال وجهات النظر، انكسرَ الاحترامُ المتبادلُ بينهما و تولَّدَ عنه التطرف في المواقف، فأصبح الأول “إسلامويا” و الثاني “لائكيا”.

أما “المسلم” العادي المسكين، فقد وجد نفسه وسطهما لا يدري إن كان إسلامويا أم علمانيا. يرفض أن ينقسم إلى نصفين لأنه لا يزال يشعر بأنه فيه من كلى الصفتين جزئا، و أنه لا يريد أن يكون إسلامويا فقط و لا عصريا فقط. هذا ما كنا عليه نحن الجزائريون حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، و إن كنا نميل أكثر نحوَ المسلم العصري في فترة شبابنا، ثم نميلُ نحوَ المسلم التقليدي في كبرنا. لكن الكلمتين لم تكونا موجودتين بعد في قاموسنا، و لم نكن نتجاذب و نتمزق مثلما نفعلُ اليوم، لم نكن حتى نتساءل عمّا يناسبنا بين النموذجين، لأننا ببساطة كنا كلنا مثل بعض.

الفوارق لم تكن صارخة في اللباس و الكلام و النظرات و التصرفات. كل واحد فينا كان على شاكلته، و كل شيء كان على ما يرام تقريبا إلى أن فاز الإسلاميون بانتخابات 1990، و صنعوا من الجزائر “بلدية إسلامية” كبيرة، لم يعد المسلم العصري يشعر داخلها أنه في وطنه في جميع ربوعها، بينما صار المسلم الإسلاموي يحس بأنه ليس في وطنه بقدر ما يريد أو يطمح. لم نعد من حينها شعبا واحدا بل أصبحنا معسكرين مختلفتين.

في الوقت ذاته لم تتوقف الطبيعة عن إنجاز وظيفتها العادية ببسط التصحر على أرضنا، تقضم يَدُها المزيد منه كل يوم وسطَ صمت و لامبالاة الجميع. لكن تصحّرًا أخر أشد خطرا كان يطول النفس الجزائرية، هو التصحر الروحي و الأخلاقي. و إن كنا نعرف أن ثقافتنا إنما تتجسد و تعزز و تتقوى بالتراكم، فإننا اليوم نمضي قدما في طريق إلغاء ما كانت عليه حياتنا و شخصيتنا و عاداتنا و تقاليدنا العائلية و الاجتماعية منذ الأبد. كنا شعبا واحدا و أصبحنا مجتمعين متناقضين، نشبه في ذلك ما كان عليه البيض و السود في أمريكا حتى ستينيات القرن الماضي. الآن يجب أن نعلم أيضا أن الطائفية لما تصل إلى أقصى حدودها تصبح لا ترضى بحسن الجوار و الاختلاط طويلا، و سرعان ما تسعى إلى الفراق.

الإسلام الذي نحبه و نؤمن به هو الذي يزدهرُ تاريخهُ بالمئات من أمثلة التسامح و الطيبة و العفو التي ضربها الرسول طوال حياته و رسالته. إنه دين “دار الحكمة” و علمائها الحقيقيين الذين ترجموا أعظم ما أنتجته الحضارة الإغريقية من الأفكار. و دين المعتزلة، و ابن سينا، و ابن طفيل و ابن رشد و ابن خلدون و غيرهم. هو الإسلام الذي برز في تاريخه أعظمُ القادة العسكريين في زمنهم، و الذين جمعوا بين فنون الحرب و الشجاعة، وبين الثقافة و الشهامة و الإيثار. مثل عمر بن عبد العزيز الذي تخلى طواعية عن السلطة التي وصلت إليه بالوراثة، أو الكردي صلاح الدين الأيوبي الذي أرسل طبيبه ليعالج عدوه الملك ريتشارد قلب الأسد، و لم يترك من ثروة عند وفاته غير الكفن الذي دفن فيه. هو دينُ الأمير عبد القادر و الكواكبي و محمد إقبال و علي عبد الرازق و بن باديس و مالك بن نبي… و دين محمد عبده الذي خاطب علماءَ الأزهر يوماً قائلا: “من لا يُتقن واحدةً من لغات العلم الأوربي على الأقل، لا يستحق أن نلقبه بالعالم”. هذا هو الإسلام الذي ربّانا عليه آباءنا و أجدادنا و أسلافنا قبلهم، و الذي عشنا به طيلة قرون في التآخي و الفرحة و التسامح، رغم اختراقه من الشعوذة التي ظلت تعيش متطفلة عليه. أَيُّ إنسان و أيُّ شعب يمكنه ألا يحب هذا الإسلام؟

صدر بتاريخ: 4 مارس 2012

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى