بين الفكر والسياسة

هل يمكن إصْلاح الإسلام؟

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة: عبد الحميد بن حسان

 

يقول تعالى: ” وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ “ (المؤمنون الآية 71).

و يقول الرسول صلى الله عليه و سلم:” والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قَتل ولا المقتول فيما قٌتل”.

إنّ العالم الإسلاميَّ مريض. لقد بلغ من العمر أزيد من أربعة عشر قرنا، مرت عليه على فترتين تماما كسبع يوسف عليه السلام : سبع قرون كـأنها البقرات السمان تلتها سبع أخرى كالبقرات العجاف. وهو اليوم يشهد حربا إسلامية داخلية مسّت عاصمتين من عواصم عهد العنفوان والشباب: بغداد ودمشق. فهل هي بداية النهاية؟ والأدهى أنّ المريض يأبى الخضوع للتحليل والفحص الإشعاعي من أجل سبر أغوار المرض. لقد التفَّ حول فراشه العديد من المعالجين والسحرة والمشعوذين الذين لا يزيدونه إلاّ إغراقا في الوهم بأنه يبقى “خير أمة أخرجت للناس“. فرسخ في اعتقاده أنه ليس مريضا وهو ليس بحاجة إلى أي علاج، والحقيقة أنه بحاجة ماسة إلى هذا الأخير و لن يكون إلاّ بجرعات إصلاح مكثفة.

كثيرون هم المسلمون الذين لا يزالون يعتقدون أنهم مستقبل البشرية بالرغم من الصورة التي يعكسها حالهم والتي تعود إلى القرون الوسطى. إن العالم و الثقافات التي تكونه لم يتوقف عن تحسين ظروف الحياة المادية والمعنوية، وعن تجديد أفكاره بل و أسلوب تفكيره، بينما المسلمون لا يجدون أي حافز يدفعهم إلى التغيير مهما كانت درجة تدهورهم. إنهم في زهوهم وإعجابهم بأنفسهم يشبهون التلميذ الذي يأتي في ذيل الترتيب في قسمه، ثمّ يطالب بأن يُكرَّم كما يُكرَّم المتفوقون.

ما العمل إذا كنا حضارة قديمة شلتها سنوات الانحطاط، و أردنا تحريرها من الجمود وإدخالها في مرحلة الحركية الخلاّقة ؟ ما العمل إذا أردنا أن نكون في مستوى الحضارات الحديثة؟ تلك هي الانشغالات التي تضمنها التساؤل المطروح في عنوان هذا المقال، والذي إذا أردنا توجيهه إلى الشعوب وإلى الدول والنّخب، كان لزاما علينا أن نعيد صياغته كالآتي: أترغبون في الشفاء من أمراضكم النفسية والجسمية، ومن العُقد التي تُسوِّس كيانكم والتي تُختزَل في التشبث بالماضي وازدواجية الشخصية والشعور بالقهر الحقد على الغير و جنون العظمة (البارانويا) وعُقَد النقص والحرمان والتبعية العامة والتبعية الثقافية، والخضوع التام لأشخاص من أشباه البشر المسيطرين على الضمائر؟ وما هذا إلا غيض من فيض، فالأمراض لا تُعدّ ولا تُحصى.

إنّ المسلمين لم يتبنّوا المطبعة ولم يستعملوها إلاّ أربعة قرون بعد اختراعها من قِبَلِ غوتمبرغ Gutenberg في القرن 15م، وكان ذلك بسبب علمائهم الذين كانوا يتهيّبون من هذا “العمل الشيطاني”. وقياسا على ذلك كان غيابهم من الأحداث العظمى الأخرى كالثورة الصناعية في ق18، و19م، و الثورة التكنولوجية في ق20م. ويستمر غيابهم اليوم من ساحة البحث العلمي الأساسي والتطبيقي، ومن التحكم في العلوم النانوية (nanosciences) والعلوم التقنية والتكنولوجيا الحيوية والرقمية (numériques ) والغزو الفضائي وغيرها من حقول البحث الحديثة. وهم، في أغلبيتهم الساحقة يرفضون التقدم الذي حققته البشرية في مختلف وجوه النشاط الاجتماعي. وإذا كان هناك عدد لا يُستهان به من الأدمغة المهاجرة من المسلمين ينتمون إلى فِرَقِ البحث العلمي في مختلف بقاع العالم، فإنّ ذلك العدد يصبح تافها إذا قيس بمليار ونصف من المسلمين.

كان الأوروبيون في القرون الوسطى يخافون من التحقيقات الجنائية ومن الإعدام بالحرق، ومن القهر المعنوي والتعذيب الجسدي، ومن كل ألوان الوحشية والتسلط التي كان يتصف بها رجال الدين. لقد عرفوا الحروب الدينية التي أودت بحياة الملايين من الرجال والنساء، والعلماء، والمؤمنين المخلصين، ومن ذوي التفكير الحر. كل ذلك جرى بدون دافع حقيقي، بسبب الجهل والتعصب، لكن دوما باسم الله، باسم الحقيقة والعدالة الملازمة لها. إننا، نحن المسلمين، اقتفينا اثر الأوروبيين، إذ تشاء الصدفة أننا في القرن 15هـ وهو نفس القرن الذي عرفت فيه أوروبا عصر الظلمات في التقويم الميلادي. والفرق بيننا وبينهم، أن العالم كله كان في الظلمات عندما عرفت أوروبا تلك الأحداث. أمّا نحن فقد تقهقرنا في الوقت الذي صار فيه العالم يعيش تقدما لا مثيل له في تاريخ البشرية، تراجعنا وأضواء الألفية الثالثة ساطعة، تخلفنا والإنسان يستعد للاستحواذ على كوكب المريخ، يُرسل مركبات فضائية ومِجسَّات على بُعد ملايين، بل ملايير الكيلومترات من أجل اكتشاف الكون والبحث عن أشكال أخرى للحياة، وعن حضارات ذكية أخرى.

و بالنظر إلى هذه الوضعية، أيُّ الحلّيْن يكون أيسر على التطبيق: تغيير العالم في الاتجاه الذي تريده الثقافة الإسلامية التقليدية، أم تغيير المسلمين ليلحقوا بركب التقدم في العالم ؟ الفرضية الأولى أمر مستحيل مطلقاًـ والفرضية الثانية هي التحدي الصعب الذي وضعناه تحت عنوان “إصلاح الإسلام”، وذلك بتغيير نظرتنا إلى الله وإلى الكون، وإلى الحكمة من وجود الإنسان، وتغيير نظرتنا إلى غيرنا. هذا الإصلاح هو الفرصة الوحيدة للإسلام لأنه استنفد كل طاقته ومصادر قوته، ومِثْلُهُ في ذلك مِثْلُ النجم الآفل الذي سيتحول بعد حين إلى ثقب أسود.

إنّ دواعي الإصلاح عديدة وجلية، لكن المسؤولين السياسيين والسلطات الدينية الرسمية لا تريد أن تتبنى المسألة لأنها لا تحب المواضيع المزعجة التي قد تهدد سلطة السياسيين على أجساد الناس، وتهدد سلطة رجال الدين على عقولهم وأرواحهم. إنهم يفضلون التزام التناقض بين أقوالهم وأفعالهم، ففي ذلك خطورة أقل من أن يفعلوا ما يقولون. و هكذا فإنّ، على سبيل المثال، حدّ قطع اليد موقوف التنفيذ عندهم، وكذلك الرجم وقطع الرأس، والأجانب لا يُفرض عليهم ما يُفرض على الذِّمِّيّ من دفع للجزية. وهم لا ينادون بإبادة غير المسلمين من سطح الأرض، لكنهم لن يصرّحوا أبدا بأن تطبيق الشريعة أصبح أمرا مستحيلا، اللّهمّ إلاّ إذا تمّ تطبيقها على طريقة “داعش”.

قد يحتج البعض بأن العالم الإسلامي عرف عدة حركات إصلاحية في الماضي. إنّ الجهود التي بُذِلتْ في هذا الإطار النظري من أجل تحسين حال المسلمين، مِن ابن تيمية إلى ابن باديس، هي جهود موجهة إلى مجتمع موصوف بالفتور أو الانحراف، كما كانت الحال في عهد الطرقية، أو منذ أن نشر سيد قطب “جاهلية القرن العشرين”، ولم تكن جهود الإصلاح تلك موجهة إلى رجال الإصلاح أنفسهم، من العلماء والأئمة، أو موجهة إلى علمهم وفهمهم للقرآن الكريم والتوجيهات الأخلاقية التي يوجهونها إلى المجتمع. تلك الجهود لم تحقق شيئا سوى أنها زادت الطين بلّةً، إذ أنها لم تؤدِّ إلى أي تحسّن ـ وهو الهدف الختامي من كل إصلاح ـ بل زادت الأزمة عمقا، بدليل أن اللغة الوحيدة التي بقيت سائدة هي لغة العنف.إن المسلمين لم يتحسنوا، بل بلغ بهم الأمر حدّ الاقتتال فيما بينهم. ألا يدعونا هذا الفشل المتكرر إلى مراجعة إشكالية الإصلاح وإعادة النظر فيها ؟ ألا يحسن بنا أن نبدأ الإصلاح بالمورد قبل أن نصل إلى المصبّ، من القمة قبل أن نصل إلى القاعدة ؟ ألا ينبغي التفطن إلى أن المشكلة لا تكمن في كون المجتمع فظًّا غليظ القلب، بل في كون هذه المسلمة قد عفى عنها الزمن.

ذلك هو الإصلاح الذي ندعو إليه بالتحديد، مع إيماننا بالمبدإ القائل “إنّ كل عمل إصلاحي، إذا أُريدَ له النجاح، يجب أن يكون مطابقا للنصوص الدينية”. حتى وان لم يعرقل هذا المبدأ مسعانا،إلاّ انه يبقينا متحفظين حول أيّ “عمل إصلاحي” في تاريخ الفكر الإسلامي كتب له النجاح لان هذا الأخير و ببساطة لم يحقق أبدا… وفي هذا المقام نودّ أن نضرب مثالا لنعرف به حجم التقهقر الذي سجله العالم الإسلامي من بداية القرن 20 إلى نهايته، والتقهقر الذي سُجِّلَ عندنا في الجزائر بين 1971 ويومنا هذا.

ولنبدأ بأنفسنا. لقد عرفت كل الشعوب القديمة الرّبا الذي يعني القرض بفائدة مبالغ فيها، والذي يمثل ممارسة لا أخلاقية وهدامة في آنٍ واحد. لكنّ الحياة الاقتصادية اليومَ تختلف في كل شيء عن اقتصاديات تلك الأزمنة الغابرة، ذلك أن المبادلات والآليات تعقدت، وأصبح النقد يلعب دورا في الأنظمة الاقتصادية لم يكن يلعبه زمن ظهو الدعوة الإسلامية. إنَّ النقد أصبح عرضة للتغييرات في دلالته إسقاطا على القدرة الشرائية، بحيث أنّ مبلغا ماليا إذا أودع في حساب بنكيّ سيتعرض للتناقص بعد عام من إيداعه بالقياس مع قيمته الأصلية. وهكذا فإن النسبة المئوية التي يستفيد منها المودِع صاحب الحساب البنكي يمكن اعتبارها تعويضا للضرر الناجم عن ارتفاع الأسعار.

ولقد فهم المُصْلِح المصري محمد عبده هذه الظاهرة بعد إقامته في الغرب رفقة جمال الدين الأفغاني، وأصبح يميّز بين الربا والفائدة البنكية، فأصدر سنة 1904 فتوى بجواز دفع فوائد قرضية وتخليص فوائد تمويلية. وبناء على هذه الفتوى قامت السلطات الجزائرية بإصدار فتوى تنص على جواز مختلف العمليات المصرفية، وذلك سنة 1971. وقد نَشَرْتُ مقالا تحت عنوان “الإسلام والادّخار” في جريدة المجاهد بتاريخ 23 أوت 1979، وبالعودة إليه يمكن قياس حجم التقهقر الذي سجلناه في هذا المجال.

إن البلدان الإسلامية التي خضعت للاستعمار أو للانتداب كانت تعتمد وإلى وقت قريب على عاداتها الموروثة، ففرض هو عليها خطه الايجابي كي يدنيها إلى التطور و العصرنة، والذي حاولت أن تتعايش معه دون المساس بأصالتها الفكرية، لكن  وبمجرد حصولها على السيادة اعتمدت هذه البلدان، و بخبث، أسلوب من يمسك العصا من الوسط بين الموروث و الحداثي معتقدة انه سيعمر طويلا حتى جاء اليوم الذي ثار فيه بركان الأصولية التي جرفت كل شيء في طريقها ولم تخلِّف إلاّ النار والدّمار. و المسلمون اليوم مدعوون للبحث عن حلول لأمهات المشاكل العالقة، خاصة ما تعلّق منها بالمؤسسات الديمقراطية، وحرية المعتقد، واحترام الديانات الأخرى وحقوق الإنسان. وعلى كل حال، فهم بين خيارين لا ثالث لهما: فإمّا أنْ يجدوا تلك الحلول وإمّا أنْ يتوجهوا جميعا إلى العراق لمبايعة الخليفة الجديد.

إننا نصادف كلمة الإصلاح في القرآن مرارا، ذلك أنّ القرآن الكريم يقدِّم الإسلام على أنه إصلاح لحال المجتمع وإنقاذ له من براثن الشرك ومن بقايا الديانات السماوية السابقة، مع التأكيد على انه الدين الوريث والجامع لها جميعا. يبقى على الإسلام اليوم أن يُجْرِيَ إصلاحا داخليا، وذلك بإعادة النظر في الممارسات التي تُنْسَبُ له، والتي صارت بمثابة “أفكار ميتة” كما يقول مالك بن نبي. فما يُنْسبُ إلى السُّنَّةِ وإلى الثقافة الإسلامية اليوم أصبح يمثل عريضة ضد الإسلام.

وهناك أثر كثيرا ما يروى على أنه حديث شريف يؤكد على المبدإ القائل “لا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها”. فمَنْ هم هؤلاء الأوائل الذين تعرضوا للإصلاح؟ إنهم عرب مكة المشركين الذين أسلموا. وبِمَ تمَّ ذاك الإصلاح؟ تمَّ بالقرآن الأصيل الذي كان يُتْلى مرتَّبًا حسب زمن نزوله. ومَنْ هم آخر هذه الأمة؟ إنهم نحن، المسلمين المعاصرين. فِيمَ، وكيف يجب أن يكون إصلاحنا؟ يكون أوّلا بالاعتراف أننا قوم متأخرون متدهورون. كيف؟عن طريق تنفيذ الإصلاحات التي ننادي بها هنا، و على رأسها تجديد فهمنا للإسلام انطلاقا من تفسير مبني على إعادة القرآن الكريم إلى ترتيبه الأصليّ الذي أُنزِل به إلى “أول هذه الأمة”. هذا هو المعنى الحقيقي لهذه العبارة التي تُعدّ من جوامع الكَلِمِ، وهو المعنى الذي غاب عن كل المشتغلين في الحركة الإصلاحية: غيّر المورد يتغير المصب تلقائيا !

إن القرآن الكريم يطلق لفظ “المصلحين” على الأنبياء المرسلين إلى الأمم القديمة، كما يطلقه على أولئك الذين يدّعون الإصلاح وهم مفسدون – كما في الآية 11 من سورة البقرة- وعايشنا أمثلة عنها في تلك الإيديولوجيات الشعبوية القديمة والحديثة، اللائكية منها والدينية. وقد يكون ذلك عن غير قصد، فإنّ الأولى كانت منبتا للثانية، إذ أصبح رعيل جديد من “الثُّوار المُلْتَحِين”  يمارس عملية أَسْلَمَة المجتمع انطلاقا من الشارع. وكلمة الإصلاح نجدها كذلك عند أب التيار السلفي ابن تيمية في “كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”، كما نجدها عند العلماء الجزائريين أيام ابن باديس، إذ أطلقوا كلمة “إصلاح” على عملهم  كما تتباهى بذلك الأحزاب السياسية الإسلامية اليوم.

إنَّ فكرة الإصلاح  المدافع عنها هنا تستند إلى مفهوم الاجتهاد الذي يُسْتَقَى من المحاورات التي جرت بين النبيّ (ص) ومُعاذِ بنِ جبل، وبينه وبين علي بن أبي طالب، وبينه وبين عمرو بن العاص. و هذه الفكرة تستند كذلك إلى فكرة التجديد التي تُستوحى من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”. لكنْ من الذي وضع هذا الأصل وهذا المقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية؟ ومتى كان ذلك؟ إنّ الرسول (ص) هو نفسه من أسس للاجتهاد تشجيعا منه لحرية الرأي في حالة ما إذا لم يتوفر نص صريح من القرآن. إننا ننوي أن نعتمد على هذا المُعْطى في مسعانا، كما ننوي أن نستغلّ ما يتيحه من تجديد لسبل التفكير و نحن نتفحص  القرآن في ترتيبه الأصلي، وكذلك الاستفادة من اكتشافات العلم الحديث من أجل تحيين محتوى بعض الآيات القرآنية.

وإذا ما طُرِحتْ مسألة إصلاح الإسلام سارع البعض للاعتراض بقولهم: “أليس الإسلام صالحا لكل زمان ومكان”؟ فالفكر التقليدي قد أغلق كل أبواب النقاش والسير خارج الطريق الضيقة المسطَّرة: إنَّ القرآن هو كلام الله، ولا يمكن أن نقبل ببعض أحكامه ونرفض البعض الآخر. فإمّا أن تأخذ بالكل، وإمّا لا شيء. الكل هو فهمهم المتجمد و الأبدي للإسلام، و”اللا شيء” هو الكفر. فالتفسير الظاهري الذي وضعه العلم القديم ينبذ روح النقد بعد قصة المعتزلة (تيار عقلاني في القرون الأولى للإسلام).

لكن، وقبل كل شيء، لماذا وُضِع القرآن الكريم في ترتيب يخالف الترتيب الزمني الذي جاء فيه ؟ إنّنا لا ننوي أن نوجّه إلى القرآن أي نقد، ولا أن نضيف أو نحذف منه أي شيء. لكننا نقصد  القرار الذي اتخذه مجموعة صغيرة من صحابة الرسول (ص)، وهم “لجنة زيد” المكلفة بجمع القران، قرار تمّ بموجبه تغيير ترتيب سور القرآن الكريم بشكل مقلوب ألحق تغييرا في مقصديته وهندسته، وأصبح تفسير بعض آياته مستحيلا بدون عودة إلى العلم الخاص بأسباب النزول. تلك هي غايتنا بمعناها الشامل. وأخيرا، فإنه لا يمكن الإجابة عن السؤال المطروح آنفا لأنه سؤال يتجزّأ إلى عدة مستويات، وكل مستوى يتطلب جوابا خاصا، وتلك المستويات هي: مَنْ لديه كفاءة الإصلاح ؟ وكيف يكون الإصلاح ؟ وماذا يمسٌّ الإصلاح ؟

لقد فكَّر العديد من المصلحين و الحداثيين العرب المسلمين، ومنذ عهد النهضة، أي بين منتصف القرن 19 ومنتصف القرن 20، وكتبوا كثيرا عن حجم التأخر الذي سجله المسلمون قياسا بالغرب. لكن هؤلاء المصلحين لم يكن بإمكانهم أن يرفعوا تحدّياً لم يفهموا طبيعته. كانوا يرون أنه يجب “العودة إلى الأصل”، أي إلى الماضي،  بينما المسلمون كانوا غارقين في ذلك الماضي إلى درجة الغرق. إنّ تأخر المسلمين لم يكن بسبب تخليهم عن دينهم، بل بسبب التزامهم بما تمليه عليهم مواعظ رجال الدين. لم يكونوا بحاجة إلى روح أخرى وإضافية بقدر ما هم بحاجة إلى شحنة كهربائية تعيد لهم النشاط وتُمكِّنُهم من اللحاق بركب الحضارة الإنسانية. تلك الشحنة لم يتم بثها في المسلمين، بل تُرِكوا ليزدادوا تعفّنًا في تقواهم الزائفة وفي تأخرهم الفظيع.

لقد فهم المصلحون من “العودة إلى الأصول” الالتفات إلى الخلف والتمرغ وسط الكتب القديمة التي تحتوي على علوم أكل الدهر عليها وشرب. وفهموا من ذلك بعث التعليم في صورته القديمة، وإعادة تشكيل المشهد الاجتماعي بأزيائه، تماما كما يفعلون في هوليوود عندما يستعدون لإخراج فيلم تاريخي بمجموعة من الممثلين.

و هكذا اتخذت هذه “العودة إلى الأصول” عدة أشكال: فمنهم من راح يسعى لاستعادة الصورة الأولى للإسلام، ومنهم من وقع في أحضان الوهابية، ومنهم من اتجه إلى مهد القومية العربية، ومنهم من سقط في منزلق الشعوذة… وفي آخر المطاف التقوا جميعا عند نقطة واحدة: حربُ عالمية إسلاميةُ شاملة ! فمسألة الإصلاح ليست واردة عندهم إطلاقا، لأنها تدنيس مقدس، بل راحوا يبحثون عن كيفية “أسلمة الحداثة”، أي إخضاع الحياة الحديثة للإسلام بقوة البترودولار. إن هذا الخطأ الفادح في التقدير والحساب أدى إلى تقهقرٍ وانحطاطٍ أكثر خطورة. وما تمّ تحقيقه ليس “أسلمة الحداثة”، بل تشويه الحداثة وتقديمها في أقبح صورة.

نحن مضطرون للاعتراف بأن القرآن الكريم لم يُدخِل العرب في الإسلام، بل هم الذين عرَّبوا القرآن بإخضاعه لعقليتهم وميولهم، وبإلباسه كل العيوب والعقد التي يعانون منها. إنهم هم الذين كانوا قبل الإسلام يئدون البنات، وهاهم اليوم يعودون بنفس العقلية لكن بدلا من دفن البنات تحت التراب أصبحوا يدفنونهن تحت الطنافس والحُجُب. و لو كان الأمر بين أيديهم لاتخذوا من الإسلام دينا قوميا كما فعل اليهود بالدين اليهودي.

إنَّ إصلاح الإسلام يعني أوّلاً توجيه المسلمين إلى النظر إلى دينهم بعين جديدة، وذلك ببرامج تعليمية جديدة. وليس الهدف من ذلك إعادة النظر في الأركان الخمسة، بل إعادة تقييم الإسلام على ضوء دروس الماضي، وعلى ضوء تجارب الأديان الأخرى، وعلى ضوء المأزق الحالي، والعلم الحديث والتطورات التي لا تزال في طور الإعداد والتي يُتَوقَّعُ أن تُحْدِثَ زلزلة كبيرة في الفكر الإنسانيّ وكل العقائد الدينية خلال العقود القادمة.

إصلاح الإسلام يعني تغيير ثقافتنا الاجتماعية، وتعليمنا الدينيّ وتكوين أئمَّتِنا وعلمائنا انطلاقا من تفسير جديد مؤسس على اكتشاف معاني غير معروفة تنبع من دراسة القرآن الكريم في ترتيبه الأصليّ. إنها مهمة صعبة تتطلب عملية تنسيق معقدة بين الدول الإسلامية، كما تتطلب عشرات السنين من التعاون بين عدد كبير من البلدان والنُّخَبِ ذات الكفاءة العالية في العلوم القديمة والحديثة.

إنّ ولوج طريق الإصلاح يعني وضع نصب أعيننا أفكارا في منتهى البساطة، أفكارٌ يمكن إيجادها مُتضمّنةً في القرآن الكريم والحديث الشريف، ومثال ذلك: أنَّ التاريخ الإنساني والديني لم يبدأ بالإسلام، وأنّ القرآن الكريم مكتوب باللغة العربية لكنه ليس موجّها للعرب وحدهم، وأنّ الإسلام ليس حكراً على بلدٍ واحد حتى ولو كان هذا البلد هو الذي توجد به البقاع المقدّسة، وهو ليس حكرا على طبقة اجتماعية واحدة ـ أي العلماء ـ فالله سابق على الإسلام، والإسلام سابق على القرآن (مثال إبراهيم الخليل الذي كان حنيفا مسلما)، وكذلك القول بالنسبة لمعظم شعائر الإسلام (كالحجّ والصوم وتحريم الربا، وفرض الختان…)، وأنّ الكونَ لا يُعقَلُ أنْ يكون قد خُلِقَ للبشر وحدهم، وأنّ الجنّة لا يُعْقَلُ أنْ تكون مُخصصة للمسلمين وحدهم، فالله تعالى لا يمكن أن يُفضِّل 15% من خلقه  ـ أي المسلمين ـ ويكتب الجحيم للبقية مهما كانت أفعالهم، ومن غيروا الترتيب الذي انزل به القران مثلا لم يسقط السماء عليهم كسفا، وأنَّ القرآن جاء ليؤكد الكتب السماوية الأخرى ويتممها، ومن تلك الكتب المذكورة بالاسم:التوراة والإنجيل و الزابور، إضافة إلى الكتب المذكورة تلميحا.

لو أنّنا اكتفينا بتبني هذه الأفكار القاعدية والقواسم المشتركة وحدها لحدثت تغييرات جذرية على مستوى تفكير طبقة المسلمين الوسطى وسلوكها، لأن هذه الطبقة هي الشغل الشاغل. وليس المثقفون والمفكرون هم الذين بأيديهم الحل والعقد إذا انطلقت عملية الإصلاح يوما –اذا كان هذا اليوم سيأتي- بل الدول هي التي عليها أن تتحمل مسؤولياتها في إطار تنظيم ينسق العلاقات متعددة الأطراف، مثل “منظمة المؤتمر الإسلاميّ” التي بالإمكان تسجيل هذه المهمة في جدول أعمالها من أجل إخراجها من حالة البطالة التي تعيشها منذ تأسيسها. ويبقى على المثقفين والمفكرين أن يعبدوا الطريق بأفكارهم ويدفعوا السلطات لتحمل مسؤولياتها، وهذا بتوعية الجماهير والحكومات على السواء.

إنّ نخبة الجنس البشري و زبدته هم أهل القدرة على الكشف عن آفاق جديدة، و الرائدون الذين يخطّون الطريق إلى المستقبل، وهم أولئك الذين باستطاعتهم التكهن بما سيأتي في عالم الفلسفة أو السياسة أو العلوم والاختراعات التقنية، وهم أهل الإبداع الفني عبر العصور. كم طالت ملايير ساعات الجهل أمام دقائق من الحقيقة ؟ كم ضاعت ألفيات من الظلام من اجل يوم من النور أو  لأجل عشريات لكشوفات حاسمة ؟ كم تعددت محاولات فاشلة لتخرج من خلالها علاجات ناجعة أنقذت النوع البشري كله من أوبئة فتاكة مدمرة ؟

لقد مرّ على كوكبنا ما يقارب 80 مليار نسمة من البشر منذ الأصول الأولى، كم هي ملايين النكرات في هذا الرقم أمام  من قدموا خيرا مشهودا لأممهم، بل و أكثر، للبشرية جمعاء؟ بين 80 مليار حياة كم من محرك مصير أحصاه التاريخ و سجلته الذاكرة العالمية ؟ كم هم ملايين البشر أمام باحث في المجال العلمي؟ فكم هم عدد الأطباء مقابل هذا الـ”ابن سينا” و هذا الـ”باستور”؟ و كم هم الفزيائيون  مقابل هذا الـ”انشتاين” او هذا الـ”لوماتر”Lemaître ؟ كم عدد مفكري النهضة أمام هذا الكواكبي؟ كم عدد كباش الفداء في الأحداث السياسية الكبرى التي يضحى بها أمام بطل مخلد واحد؟ و كم هو زخم المنافقين أمام… مصلح صادق واحد ؟؟؟  و الله أعلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى