هيئة الأمم المتحدة والاستبداد
بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان
إنّ العالم العربي تتقاسمة جمهوريات استبدادية وأنظمة مَلَكيّة مُطلقة. ولا فرق بين الملوك والرؤساء مدى الحياة، إذ هم يتربعون على الحكم نفس المُدد الزمنية تقريبا، وهم سواسية في قسوتهم على شعوبهم. وإنّ الأنظمة الملكية لم تتطور باتّجاه النظام الجمهوري، بل إنّ الجمهوريات هي التي تدحرجتْ إلى النظام الملكي. والملاحظ انّ الثورات كانت في تلك الجمهوريات أكثر تمكُّناً إلى حدّ الآن. وإنّ ما حدث فيها يشبه ما حدث في بلاد شرق أوروبا من ثورات أدّت إلى تحرير شعوبها: اتصال جغرافي، وحظيرة ثقافية واحدة، وتنظيم سياسي واحد. وتلك البلدان كلها صارت اليوم حرّةً، وهي آخذة في الانضمام إلى الوحدة الأوروبية تباعاً.
وإذا كانت الحكمة تقول: الإنسان المُحَذّرُ يساوي اثنين (Un homme averti en vaut deux). فماذا عن المستبدّ؟ قد أجيبُ عن ذلك بقولي: ” المستبدّ كذلك ! “. والحقيقة أنه ليس كذلك ! ذلك أنه إذا أصبح يساوي اثنين فإنه سيُضاعف مشاكله مع شعبه، ويستلزم ذلك خلعه وشنقه مرّتين. وإذا كان يساوي واحدا فقط، فذلك سيكون كافيا لتعريضه للثورة، وللخلع، وللشنق مرة واحدة. وإذا لم يكن يساوي إلاّ نصف الواحد، فلا شكّ أنه ديمقراطي في النصف الثاني، فنصف ثورة تكفي، ونصف خلع ونصف شنق كذلك. لكن، أيمكن أن يُشنق الإنسان بنسبة 50%؟ وعلى أيّة حالٍ فإن أحسن جواب عن السؤال الأول هو: سواء أأنذرتموه أم لم تُنذروه، فإنّ المستبد لا يساوي إلاّ العدم.
وماذا كان على ابن علي ومبارك أنْ يفعلا كي لا تصل الثورة إلى بلديهما؟ لا شيء، لأنهما كانا سجينيْ ثقافتهما السياسية والنظام الذي أسّساه منذ زمن بعيد. فمبارك كان بإمكانه أن يأخذ دروسا مما حدث في تونس، لكنه لم يفعل، وفضّل أنْ يُطلق الرصاص على الجماهير. وهو اليوم مُهدّد بالشنق. فعندما انطلقت الثورة لم يفكر أيٌّ منهما في إحداث تغييرات عاجلة وجذرية، بل راحا يُناوران ويُهدّدان ويقمعان. ابن علي أمر جيشه بقصف القصرين، لكن جيشه رفض تنفيذ الأمر رفضاً حكيماً، أما مبارك فراح يحوم فوق ميدان التحرير على علو قليل بطائرات F16 لأغراض لا يعرفها إلاّ هو. لكن القذافي يأتي في النهاية ليُخبرنا عن تلك الأغراض. وبالفعل فإنّ المستبدين لا يتراجعون أمام أية هاوية: فالثلاثة جميعاً فكّروا في قصف شعوبهم بالطيران.
ماذا على السلطة أن تفعل عندنا كي لا يحدث أيّ مكروه؟ هي المسؤولة عن تحديد ما يمكن فعله. وإذا اندلعت الثورة فبسبب تعنّت السلطة. وإنْ لم تندلع فبفضل حكمة الشعب، لكن هذا مشروط بحد أدنى من الديمقراطية التي ستسمح له أنْ يبدي رأيه في تسيير شؤونه لأول مرة في تاريخه. هناك بالفعل عِلْمٌ مختص بدراسة الثورات يسمى الستا زيولوجياStaséologie ، لكنه لا يساعد على التنبؤ بها بل يكتفي بدراستها بعد وقوعها. لكن، من جهة أخرى، هناك دروس يمكن أن نأخذها من الثورات الحالية. أفلا يرى حُكّامُنا منذ 5 جويلية 1962 أنّ بلدنا هو جزء لا يتجزّأ من العالم العربي؟
والحال أنّ هناك تحفّظاً دفيناً وموقفا غامضاً في دوائر السلطة. إننا نحس أنّ هذه الدوائر لا تحبّ تلك الثورات. فالجزائر التي كانت دوما داعمة للشعوب الساعية إلى ” تقرير مصيرها “، والتي دعت إلى ” مغرب الشعوب “، والتي وُصِفتْ بـ ” مكة الثوار ” قد سكتتْ سكتة تامّة. ألن يؤدّي التّخلّي عن هذه المبادىء إلى فقدان آخر الأصوات التي كانت معها في قضية الصحراء الغربية على الساحة الدولية؟ فالجزائر صار يُنْظَرُ إليها على أنها مع القذافي. وماذا ستفعل عندما يذهب القذافي؟ كانت الجزائر خلال السبعينيات والثمانينيات تُشكل ” جبهة التصدي”رفقة سوريا وليبيا. أما اليوم فقد أصبحت هذه الجبهة تتصدى للديمقراطية وتقف ضد شعوبها بحزم، بل وتستعمل ضدها أسلحة طالما امتنعت عن استعمالها ضدّ العدوّ.
إنّ الدساتير الأربعة التي تزوّدت بها الجزائر (63،76،89،96) لم تصدر عن الشعب أو من هيئة عيّنها الشعب لأداء هذه المهمّة، لكنها صيغت بطريقة سرّيّة في مكاتب المسؤولين، ثُمّ أحيلت على الاستفتاء العام أو على مصادقة البرلمان. أما السلطة الدستورية المنسوبة في تلك الدساتير إلى الشعب فإنها لم تكن بيده أبداً ولمْ يُمارسْها إطلاقاً. قد يكون ذلك في المرة القادمة. كان بن بلّة وبومدين يحبّان السلطة، وقد أثبتا ذلك بما فيه الكفاية. لم تُنتزع السلطة من الأول إلاّ بالقوة، ولم تُنتزع من الثاني إلاّ بموته. ولولا ذلك لبقيا في الحكم إلى يومنا، مثل كاسترو والقذافي وموجابي. لكننا لو عُدْنا إلى تلك الفترة لأمكن أن نعزو كثيرا من أخطائهم إلى روح العصر الذي سادوا فيه.
فنصف العالم تقريبا كان تحت راية الاشتراكية أو الشيوعية، وكانت الديكتاتورية ضاربة أطنابها على أصقاع واسعة من العالم. ولهذا كانت صيغتا الدستور التي سلطها كل من بن بلة وبومدين على الجزائر صورة طبق الأصل عن الدساتير التي كان معمولا بها في ” الديمقراطيات الشعبية “: الدولة/الوطن، الأحادية الحزبية، المركزية الديمقراطية، الترشح الأحادي إلى الانتخابات الرئاسية، الاشتراكية، التلفزة الواحدة، الصحافة العمومية…
عندما وصل بوتفليقة إلى الحكم كان العالم الاشتراكي الشيوعي قد انهار والديكتاتوريات العسكرية قد سقطتْ. جاء ووجد دستورا هو أقرب إلى الدساتير الديمقراطية منه إلى الدساتير الأحادية الحكم. كُنّا نظنّ أنه سيُحسّن من صيغة ذلك الدستور، ويزيدها عصرنة كي تكون أقرب إلى دستور الولايات المتحدة أو فرنسا. هذا دون أن نذكر إصلاح المنظومة التربوية والعدالة، وإصلاح الدولة، تلك الورشات التي شُرِع فيها في عهد الشاذلي وزروال، لكن الخطوات الإيجابية التي سُجلت في عهدهما تمّ التراجع عنها بعدهما.
لم يكن الدستور الفرنسي السابق يحدد عدد العُهد الرئاسية حتى جاء شيراك ليجعل العهدة بخمس سنوات بعد أن كانت سبعاً، وجاء ساركوزي كي يحدد عدد العُهد باثنتين رغم أنه كان في ريعان الشباب. كان بإمكان رئيس الجمهورية أن يبقى في الرئاسة أربع عشرة سنة في عهد ميتران، اما اليوم فلا يمكن له أن يتجاوز عشر سنوات. إنّ الذين فكّروا في هذا التضييق يعرفون ما في ذلك من تقوية للديمقراطية. أما الرئيس الأمريكي فأقصى مدة يقضيها في البيت الأبيض هي ثماني سنوات. لكن أحدا من هؤلاء الرؤساء لم يُفكِّرْ كما كان يفكر ابن علي ومبارك، لا أحد منهم كان يعتبر نفسه بركة من السماء على بلده، وأنه يجب ألاّ يُغادر قصر الرئاسة إلاّ ليلتحق بالملإ الأعلى.
لا قيمة للدستور في بلد تتعرض فيه هذه الوثيقة للخرق من طرف رئيس الجمهورية الذي يُفترض أن يكون هو حاميها. والشعب الجزائري اليوم يدفع ثمن سكوته عن خرق دستور1963 سكوت يمكن أن يُعزى إلى الثقة العمياء التي كان يتمتع بها القادة وإلى نسبة الأمية العالية آنذاك. لقد سُلّطتْ عليه أحقر أنواع الاستبداد، وهو إن سمح بخرق الدستور مستقبلاً فلن يكفيه الاستبداد، بل لا بد أن يتدحرج إلى درجة الاستعباد، وهذا سواء أكانت صيغة التبني هي الاستفتاء الشعبي أو الانتخاب من طرف البرلمان.
إننا من الناحية النظرية مُقبلون على مرحلة تأسيسية بعد الإعلان عن إصلاحات هادفة إلى إبعاد شبح الثورة عن الجزائر. والحال أننا نعيش فترة تشبه تلك الفترة التي سبقت خلع بورقيبة على يد بن علي في تونس لأسباب صحّية. وكلّ أملنا ان بلدنا لن يمرّ بكل تلك المرحلة التي حكم فيها ابن علي والتي دامت ثلاثا وعشرين سنة وانتهت بثورة. إننا لا نريد أن نعود إلى الخلف، كما أننا لا نريد صراعا داميا. فإذا كان حكامنا لا يريدون تقديم أية تنازلات فسيكون لزاما علينا الالتفات إلى هيئة الأمم لنقدم لها الاقتراحات الآتية.
لقد تمخّضت الحرب العالمية الأولى عن عصبة الأمم، وتمخضت الثانية عن هيئة الأمم. فكان تأسيس هاتين الهيئتين استجابة لرغبة البلدان التي حطّمتْها الحرب. وكانت حصيلة الحربين ما يقارب مائة مليون قتيل وتحطيم بلدان بكاملها. جاءت هيئة الأمم كبديل عن عصبة الأمم لأن هذه الأخيرة لم تعُدْ قادرة على مسايرة تطور العلاقات الدولية. والحال اليوم أنّ هناك تيارا في الرأي العام العالمي يسود فيه الاقتناع بأن هيئة الأمم بشكلها الحالي لم تعد تستجيب لمقتضيات العلاقات المتعددة الأطراف. وإنّ الثورات العربية الحالية جاءت لتُضيف علامة استفهام أخرى.
إنّ الهدف الأساس الذي تسعى هيئة الأمم إلى تحقيقه هو ضمان الأمن بين الأمم. لكن، ماذا يجب أنْ تفعل إزاء صراعات بين شعوب وحكامها، والشعوب تعتبر أن هؤلاء الحكام لا تمثيل لهم عليها. أيجب أن تبقى كما هي، أي هيئة الأمم المتحدة، أم يجب أن نسمّيها: هيئة الحكومات المُتّحدة؟ وما جامعة الدول العربية إلاّ اتحاد بين الحكومات العربية. ولقد بدأ التفكير في إصلاح طريقة عمل هيئة الأمم منذ أمد بعيد، لأنها لا زالت تسير وفقا لميثاق سان فرانسيسكو الذي يعود إلى سنة 1945 والذي لم يعدْ يحظى بالإجماع، لكن لا شيء قد تحقق من ذلك الإصلاح إلى حدّ الآن. لقد بقي النقاش دائرا حول إشكالية توسيع مجلس الأمن وعدد وهوية البلدان المدعوة إلى المثول الدائم فيه. ومجرّد أنّ هذا المجلس هو حكر لخمسة بلدان تتمتع بحق الفيتو هو دليل على أن الهيئة كلها تسير تحت مظلة الاستبداد. فهناك خمسة بلدان خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وهي التي تفرض على العالم رغباتها. ومعنى ذلك أن دولة واحدة من تلك الخمسة الدائمة يمكن لها أن تؤدي إلى انسداد في حالة استعمالها لحق الفيتو، إنْ على مستوى الهيئة أو خارجها، إذ يمكن أن تقف حجر عثرة في طريق عجلة التاريخ. لكن الأمور قد تطورت منذ 45، فآنذاك كان عدد الدول العضوة أقل من اليوم بمائة دولة.
لا بدّ إذن من إحداث ثورة ديمقراطية في هيئة الأمم كذلك إذا أرادت أن تواصل مسيرتها مع البشرية باتجاه المُثُل العليا التي تأسست من أجلها. ويتعلّق الأمر بضرورة الاستجابة للتطلّعات الديمقراطية لدى الشعوب وأملها في تسيير أحسن لمواردها من طرف حكّامها. وبدلاً من إرسال قوات الحلف الأطلسي لمعالجة المشاكل بالقوة، يمكن معالجتها سلميا لو بدأنا بالجذور، أي بإعادة النظر في مهام هيئة الأمم. ماذا يمنع هيئة الأمم من أخذ الدروس من التجارب الفاشلة، فتعالج أسباب هذه المشاكل بطريقة خلاّقة ومُبدعة وتُعفي البشرية من الدماء المهدورة والخسائر المادية الفادحة؟ بإمكانها ذلك إذا قامت بتعديل ميثاقها وأدخلت تدابير جديدة في القانون الدولي بخصوص الحكم الراشد في بلدان العالم.
إنّ القانون الدولي فوق القانون الوطني. ومحاولة منها للاستجابة للحاجات الجديدة قامت هيئة الأمم خلال العشريات الأخيرة بتأسيس محكمة العدل الدولية، وأمرت بتنفيذ عمليات عسكرية ضد البلدان التي تمّ فيها خرق القانون المتعلق بحقوق الإنسان، وتمّ إيقاف رؤساء دولٍ بسبب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية أو أعمال إبادة جماعية، ومثلوا أمام محكمة العدل الدولية وحوكموا وأُدينوا. ومن جهة أخرى فقد أرسِلَتْ تعليمات على المستوى الدولي تأمر بوضع مخطط لمسيرة المبالغ المالية التي مصدرها تجارة المخدّرات، والتي تنتهي بتبييضها أو بتمويل الإرهاب. فماذا يمنع هيئة الأمم، وفي إطار هذا الجهد التجديدي، من أن تُصدر قوانين تحمي الشعوب من الاستبداد ومن الفساد في دواليب الحكم؟
إن تلك القوانين إذا صارت سارية المفعول استدْعت مراجعة النصوص الخاصة بشروط العضوية في هيئة الأمم، بحيث لا يُقبل من البلدان إلاّ تلك التي تكون هيئاتها الحاكمة مُنتخبة انتخابا ديمقراطياًّ. وينتج عن ذلك طبعا أنّ كل الدول العضوة في الهيئة سيكون عليها أن تتزوّد بدساتير ديمقراطية تضمن حقوق الرجل والمرأة، وحرية المعتقد، وحرية الرأي والمعارضة، كما تضمن انتخابات صادقة..إلخ. وهذا يعني أن وثيقة حقوق الإنسان والتعديلات الجديدة في ميثاق الهيئة ، وكذا باقي التدابير الخاصة بالمعاهدات الدولية، كلّ ذلك يصبح أمراً مُلْزِماً للجميع. إن هيئة الأمم بإمكانها حتى أن تقترح مخططا عاما لدستور قابل للتطبيق سواء أكان ذلك في الجمهوريات أو في المملكات الدستورية. وهكذا تصبح هيئة الأمم منظمة ديمقراطية تشرف على السلطات العمومية في كل البلدان. وتحديد عدد العُهَدِ الرئاسية بمكن أن يكون في هذا الإطار.
صدرت وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان سنة 1948، وبعدها كان العمل على إعطاء نوع من الشمولية للاقتصاد في العالم من خلال المنظمة العالمية للتجارة ومن خلال صندوق النقد الدولي، وبعد أزمة سنة 2008 سادت الدعوة إلى ضرورة إخضاع العمليات المالية لأخلاقيات معيّنة. فلماذا لا يبدأ التفكير في صياغة وثيقة دولية للأخلاقيات، ذلك أن العولمة يجب ألاّ تنحصر في الشؤون الاقتصادية.
إنّ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي هما مؤسستان تنتميان إلى تنظيم هيئة الأمم. لنتصور أن هاتين المؤسستين عمدتا إلى نشر تقرير سنويّ حول حسابات الحُكّام قبل وبعد تولّيهم الحكم. إنّ العملية قابلة للتطبيق من الناحية التقنية نظرا لما بين هاتين المؤسستين وبين البنوك المركزية في البلدان العضوة من علاقات. لكن هل من صلاحيات هيئة الأمم أن تُصدِر وثيقة أخلاقيات دولية، وهل بإمكانها أن تسهر على تطبيقها وهي عاجزة عن تطبيق قرارات مجلس الأمن حول فلسطين؟ هل بإمكانها أن تفعل شيئا من هذا وهي تتعرّض لإهانة إسرائيل منذ ستين سنة؟ وهي عاجزة عن إيجاد حلّ لمشكلة الصحراء الغربية ؟ وبما أنه لا فائدة من انتظار تحقق كل هذا قبل عشرية أو عشريتين فعلى الشعوب العربية والإفريقية أن تعتمد على نفسها لكي تنعتق من قيد الاستبداد.
لوسوار دالجيري 07 ماي 2011