أراء وتحاليلاتصالالجزائرالرئيسيةثقافةسلايدر

وثيقة: حقائق تترجم لأول مرة إلى العربية : كيف باع الأتراك الجزائر

*احتلال الجزائر العاصمة: كما رواها جزائري “الحاج أحمد أفندي”

ترجم النص من التركية إلى  الفرنسية من طرف السيد : م . أوتوكار سكلكتا

باريس : دار النشر : المطبعة الإمبراطورية ، 1863

ترجمته إلى  العربية : البهجة ستيت

ebsteit@outlook.com

حالفني الحظ خلال إقامتي في “إسطنبول”أن تقع بين يديّ مخطوطة صغيرة ، أين تعيد الصفحات التالية  كتابة نصها و ترجمتها أيضا . يدعى كاتب هذه النسخة الأصلية “بالحاج أحمد أفندي” ، جزائري الأصل ، شغل بمنصبه الحكومي الأخير”قائم – مقام” الآغا حيث توفي هنا بأرض الأناضول، و حسب ما يفيد إشعارا تمّ إدراجه “بجريدة إسطنبول”، فقد وافته المنية خلال العام الماضي فقط.

لقد كان شاهد العيان و مساهما في أغلب الحقائق التي يرويها هنا ، يوحي مكتوبه هذا عن استحقاق الكثير من التصديق والثقة. فهو مكتوب بأسلوب بسيط كما أمكن القول بأنه مقتضب أيضا ، و الذي يمكن إعتباره عند المشرقيين مثل ماهو الحال في مكان آخر بدليل إثبات  . و إن لم يكن به التباس ، فهو حتما نابع من الشهادة الحسنة للراوي .

إذا كان لهذا الكتّيب بأن لم يذع معلومات جديدة عن الموضوع الذي يناقشه ، فهل لا يزال من المحقّ القول دائما أنه يثيره من جديد؟ ، إنه يعدّ ، و حسب علمي ، العمل الأصلي الوحيد الذي دوّنه الأهالي في هذا الشأن .

إن أهميته هي من شجعتني في تقديمه إلى  العامة ، و إلى  القارئ الفرنسي بوجه الخصوص ، إليه و مهما كان محتواه ، كان ليوقظ فيه حتما تاريخا مغريا من جديد ، فذّاو مجيد امن حروب صنعتها أمته ، و صنيعا هاما قدمته للإنسانية و لحضارتها المسيحية أجمع .

مذكّرة الحاج أحمد أفندي: مفتي الديار الجزائرية سابقا

(مصرّح لهمن الشؤون الدينية) من عمر زادى أمين أفندي ، من كوزلحصار1

 

بسم الله لكل شيء سبب ، فأتّبع سببا …

إن “حسين باشا” الصندقلي2 والي الجزاير ، من كان السبب في أن تقع هذه البلاد بأيدي الكفّار . احتدم النقاش بالخامس من شهر رمضان الكريم 1243 )21 مارس1828) ، بينه و بين القنصل الفرنسي تبادل خلالها كلاّ من الطرفين كلمات بذيئة ، انتهت بوضع هذا الأخير الحانق يده على سيفه ، ليرتمي حرس منزل الباشا و الذين كانوا يحضرون الاجتماع على القنصل ويفكّوا منه سلاحه.

أراد الباشا بأول نوبة غضب قتله ، لكن و بفضل تدخّل وكيله “إبراهيم آغا دائي” و الذي رجاه بأن القانون يمنع قتل (مستأمن)*دبلوماسي، ليتخلى عن نيته الأولى و يحصر نفسه في محارية القنصل و النيل منه بطرده وسط مجلس النواب . عاد القنصل إلى  بلده ، ليهرول بنقل الواقعة إلى  مسامع ملكه .

ظهرت في الخامس من شهر ذي الحجة من نفس العام ( 20 ماي 1828 ) ، خمسة من السفن البحرية الفرنسية بمدخل مرسى العاصمة ، وجّهت الأشرعة للوقوف مستدعية القنصل بواسطة إشارات للظهور و الامتثال على متنها . باليوم التالي ، بعثوا بخطاب يفيد محتواه بأنهم باقين على ميثاق السلام كما بالسابق على شرط أن يقوم كبار الجزائر بالقدوم إلى  متن السفينة و تقديم الاعتذار و الصلح؛ و إلاّ ستنقض المعاهدة و يبدأ العدوان في الحال .

أجاب “حسين باشا” الرسالة برسالة أخرى(موجّهة إلى  القنصل) و موجزة في هذه الكلمات :” لم يطلب أحد منك الرحيل ، إن كان الأمر كذلك و تنوي الحفاظ على الشروط القديمة ، يمكنك العودة بحرّية مثل ما ذهبت ، و إن لم يكن كذلك أيضا فأفعل ما شئت” . علم القنصل بهذا الأمر العالي ، لتقدم السفن المسيحية على استعراض بعض العدوانية و ترحل بعدها .

أتى “حسين باشا” باليوم التالي بجميع الرعايا الفرنسيين المقيمين بالمدينة ليتوجّه إليم بهذا القول :”إن ترغبون بالرحيل أنتم كذلك فلتعلموا بأني لن أمنعكم ؛ ها هو الطريق! ،و إن على العكس تريدون البقاء فلن أمانع بالأمر أيضا ؛ ها هي الجزاير! “. أجابه الجميع بأنهم لا يريدون المغادرة ، حيث أن الخطأ في هذه الحالة لم يكن بخطئه، بل هو ذنب قنصلهم .غير أنه  أتت بالخامس عشر من شهر ذي الحجّة ( 28 جوان 1828) ، سفن فرنسية لأخذهم على متنها و اصطحابهم جميعا .

قام “حسين باشا” بالخامس عشر من شهر محرّم 1244 )28 جويلية 1828( بتجهيز السفن الإسلامية و التي بدأت في سباق العدو و إقتفاء أثر المراكب التجارية الفرنسية و من ثمّ بيعها . أما فيما خصّ المبالغ المحصّلة بعد البيع ، فقد قسّمت حسب قانون “بنجك” )و هو تقسيم الغنيمة إلى  خمسة حصص( . تسبّب هذا الفعل في هيجان ملك فرنسا ليبعث خمسة سفن حربية لمحاصرة مدينة الجزائر ، بالالتقاء عند مرساها .

أطلق الباشا بليلة الثاني عشر من ربيع الأول )22 سبتمبر 1828( ، أسطولا إسلاميا لمحاربة سفن الكفار . بنفس الوقت طلب الخطبة من علماء الدين و التلاوة من حفظة القرآن ؛ أمر أولئك العلماء بقراءة أحاديث نبوية للبخاري والحفظة بقراءة سور الفتح الشريفة ، أما باقي الأهالي فقد باتوا ليلتهم في التذرّع للخالق تعإلى  بالدعاء الصالح .

طلع الصباح أخيرا  ليصطدم الأسطولين ببعضهما البعض ، حضر جميع آهالي العاصمة ذلك المشهد المهيب لتبدأ الزغاريد و الحناجر في الصياح بأعلى الأصوات مهلّلة و مكبّرة : “الله أكبر …الله أكبر” .  اختارت سفن الكفّار و بعد اقتتال ضروس الهروب ، لتعود السفن الإسلامية بعدها إلى  الميناء .

ظهرت من جديد خلال الأيام الأولى للربيع الثاني )منتصف شهر أكتوبر(، إثنتي عشر سفينة فرنسية أكبر من تلك التي لاذت بالفرار ، و التي ألتقت بدورها أمام المرسى بنية سدّ مخرج الميناء ؛ بينما تمكّنت المراكب الجزائرية الصغيرة من الخروج ليلا و بمسار لم يتمكّن أسطول العدو من رؤيته ، حيث واصلت مطاردة السفن التجارية الفرنسية و التي بيعت لاحقا إما “بتونس” ، أو “وهران” و التي تقع على بعد أربعة من السهوب )*كسهل متيجة(من الجزائر العاصمة ؛ أو عبر ذلك الطريق برّاو المؤدي مباشرة إلى  غاية “سبتة” أو بتلك المناطق التابعة لإقليم “فاس” و اسبانيا .

أما بالنسبة للمبالغ المحصّلة من عمليات البيع ، فقد كان يدفع لهم على شكل سندات صرف مرسومة للجزاير ، أين كانوا يعودون بظلام الليل عبر نفس الممّر الذي خرجوا منه ، و الذي غفل عنه أسطول الكفّار . في حين و بليلة من الليالي ، التطمت المراكب المسلمة الجزائرية بعكس الرياح قبل أن تتمكّن من الوصول إلى  الميناء ، لتبقيها الريح بالبحر حتى الصباح و تكتشفها بالتالي سفن الكفّار و تنكبّ على مهاجمتها . و هكذا هربت المراكب المسلمة لتجنح على رمال “وادي الزعفران” )*واد مازافران”حاليا(؛ على بعد عشرين كيلومتر من العاصمة ، أين قام المسلمون الطاقم بحرق المراكب و العودة إلى  الجزائر العاصمة برّا.

بعدها بقليل ، بدأ الفرنسيون بطلب ميثاق السلام . امتثلت واحدة من سفنهم ذات ساريتين للمرة الثالثة عشر أمام العاصمة الجزائر من أجل هذا الطلب ، غير أن “حسين باشا” رفض هذا الميثاق رفضا قاطعا. كان هذا الرفض نتيجة للأسباب التالية : فقد أصرّ الفرنسيون على أن يبعث “حسين باشا” بعض من مندوبيه لإقتيادهم إلى  فرنسا حيث يوقّعون وثيقة السلام بحضور الملك ،  بيد أنّ “حسين باشا” أراد أن توقّع المعاهدة أمام شخصه و بحضوره هو . لم يكن لهذا الأمر أن يحصل قطعا ، كما أنه لم يشأ هو سماع أي أحد . إجتمع رؤساء الجيش و كبار وجهاء المدينة للتوسّل إليه و إقناعه ، لكنه رفض .

بعث له والي مصر “محمد باشا” برجالا في سفينة خصيصا للتكلّم معه و إقناعه في هذا الموضوع ، أبى أن يستمع إليهم . كما قام قناصلة الدول العظمى الأخرى بمساعيهم الحسنة لإقناعه ، فتشبث برأيه .

تدخّل قبطان حراقة حربية بريطانية هو الآخر ذاهبا آتيا إلى  إنجلترا ثلاث مرات أيضا لإقناعه و إنهاء هذا الأمر ، فلم يستمع له قط كباقي الآخرين . وصل أخيرا “عبد الرحمن أفندي” ، وكيل المفتش العام للترسانة في إسطنبول ، مكلّفا بمهمة رسمية خاصة من طرف  )شمس العالم( جلالة السلطان الأعظم ، قام “حسين باشا” بالتستّر على زيارته حيث لم يعلم أحدا بهدف مهمته . بعدها خاطب الباشا الجنود قائلا :”إن الجيش هو جيش السلطان، و الواقع أن السلطان أوكل إليّ بفرمان يأمرني بأن لا أعقد السلام مع الفرنسيين . ما قولكم في ذلك؟”، أجابه الجميع موقّعين خطيا و بما أنها إرادة السلطان ، فهم سيضحّون بأنفسهم إربا من أجل النصرة العظيمة للدين .

وصلت بالأيام العشرة الأخيرة من شهر محرّم 1245 )آواخر شهر جويلية 1829( ، سفينة فرنسية ذات سطحين ، أين هبط القبطان “دولا بروتونيار” عبرهما إلى اليابسة ، مرفقا بطاقم دبلوماسي كامل ، جاءوا لعقد السلام مع الباشا . رفض هذا الأخير كل ما عرض عليه .

شرّع القبطان السفينة من جديد عائدا ، لتقصف سفينته بينما هي تبتعد . لقد أرسلت عليها أعدادا جمّة من القذائف و التي سبّبت لها الكثير من الجروح و التلف . نفرّ هذا الأمر العديد من الربّان و الذين امتعضوا من هذا التصرّف قائلين :”ماذا يعني هذا؟!… هل يمكن قصف سفينة أين يتواجد أسطول العلم الإسلامي في البحر؟!! . كما أنّ شريعة الدين الحنيف و كما هو القانون ، يزدريان الاعتداء على رسول صلح ، لندعوا الله أن لا يعاقبنا بهذه الفعلة!” .

نزلت بأول العشرة من شهر ربيع الأول )31 أوت إلى  10 سبتمبر(كتيبة عسكرية فرنسية إلى  شاطئ “تسارا”3)*رأس بنغوت غرب دلس(، هذا المكان و الذي يبعد عن الجزائر العاصمة بستة و تسعين كيلومترا، لسرقة الغنائم . أنقض العرب عليهم ليأسروا واحدا و يحملوا أربعة و عشرون رأسا منهم إلى  المدينة .

وصل بالأول من شهر رجب )27 ديسمبر 1829(“الحاج خليل آغا أفندي” وكيل الجزائر العاصمة في “إسميرنا”)*إزمير حاليا بتركيا( في مأمورية موكّلة من طرف دولة الوزير الصدر الأعظم يرافقه “خصرو باشا” . لم يعلم أحد قط سبب الزيارة ، إلى  وقت لاحقفقط و حين إقامتي بإسميرنا حيث علمت أنه قد أتى بهدف إحلال السلام و أنه لم يستمع أحد إليه .

في العشرة من شهر شوال )26 مارس – 4 أبريل 1830( ، جنحت بالظلام أطقم عسكرية لسفينتين فرنسيتين بالمكان المذكور آنفا المسمى “تسارا” 4 ، لتنزل على اليابسة و تهاجم من طرف العرب مرة أخرى ؛ و الذين قادوا منهم هذه المرة ستة و تسعين من الأسرى و مائة و ثمانية رأسا حملوها إلى  الجزائر العاصمة . كما قام الباشا بالثامن من ذي الحجة )30 مايو 1830(بإعتقال كلّا من الآتية أسماءهم ؛”قارة مصطفى خوجة” و “كيركور إبراهيم” ، “إمام دلي” و “محمد جاوش” ، أعدم الأربعة ليلة وقفة عرفات . “هؤلاء …قائلا الباشا لحراس الثكنة بهذه المناسبة ؛ إنهم أعضاء من العصابة الثمانية و العشرون الذين يتآمرون ضدي بإثارة الفتنة ؛ أما بالنسبة لأولئك الذين تبقوا ، فأنا أتمنى أن يلاقون نفس المصير” . و كما هو الحال ، كان الجميع يجهل الجريمة التي إرتكبها هؤلاء حتى يعدموا ، ذلك ما أصاب الجنود بالذعر ، ليتربّى الحذر المتبادل و إنعدام الثقة منذ ذلك الحين بين العسكر و الباشا .

في غضون ذلك ، جرّب أعداء الإسلام في الثالث عشر من شهر ذي الحجة )الرابع من شهر جوان( النزول على شاطئ “سيدي فرج” ، و الكامن بناحية الغرب حوالي ستة عشر كيلومترا من العاصمة . حاول “بافرلي إبراهيم دائي” ، صهر الباشا و القائد الأعلى للمحاربين العرب مقاومتهم على رأس كتيبة من قواته ، لكن تمّ دحره من طرف العدو . كان عليه الإنسحاب نحو “سطاوالي”5 و التي  تبعد حوالي الساعة عن “سيدي فرج” )*توقيت باستعمال الجياد( . هناك ، إنضمّ إليه ألفا من الرجال و الذين كانوا يعدّون جزءا من الحامية التركية للمدينة ، و التي كانت تتكون من ثلاثة آلآف رجل ، غير هؤلاء العرب الذين هرعوا من كل ناحية .

إنقضّ المسلمون في صباح السبت ، الثامن عشر من شهر ذي الحجّة )9 جوان( على الكفّار ليلحقوا بهم الهزيمة . أرسلت أعداد من الآذان البشرية مع الرؤوس إلى  المدينة ، أين فجّر وصولهم فرحة عارمة بين آهالي العاصمة . لكن عندما تحوّل الحظ ، كان هذه المرة المحاربون المتقاعدون هم من يقاتلون .لقد طلب مني الباشا الحضور ليجعلني جزءا من الهزيمة التي لحقت بنا للتو. أوكلت لي مهمة مواساته ، ليركض بعدها للإرتماء أمام الهاربين ، و ليتمكّن عبر مواعظه و بعض النصائح الرنانة من التراجع في المسار إلى  غاية “عين الزرقة”6 أين لقي الكفّار من جديد ، إنسحبوا هؤلاء بعد معركة دامت لبعض الوقت إلى  “سيدي محمد” أين توقّفوا هناك .

كان الأمر بهذه الوضعية ؛ أصبح الفرنسيون الآن في “سيدي محمد” و المسلمين في “عين الزرقة” ، حيث تجدّد القتال من الصباح إلى  المساء لمدة إثنتي عشر يوما متتالية. غير أنه في ليلة حالكة ، هزم المسلمون بعد هجوم الكفّار غير المتوقّع عليهم في الظلام الدامس ؛ أين إستطاع فيها هؤلاء محاصرة قلعة الجزائر العاصمة ، عبر حفر الخنادق حول المدينة. في نفس اليوم ، توقّفت سفن النصارى و التي تحركت سابقا من “سيدي فرج” ، لترسو بمرسى الجزاير.

إمتدّ القصف المفتوح برّا و بحرا معا ليصل إلى  محمية الحصن الواقع جانب الجبل و المسمّى “حصن اسبانيول”7)*برج مولاي حسن( ، و الذي بدا أنه غير قادر على مقاومة المزيد ، ليتوقّف بعد إضرام النيران فيه ببراميل من البارود . هزّ الإنفجار المدينة ليترك الجميع مذهولا أمامه .

و هكذا إستدعى “حسين باشا” وجهاء المدينة لطلب النصح ، ضجّ الصراخ العالي و الشتائم من الآهالي جميعهم ضدّه متّهمين إياه بأنه هو المسّبب الوحيد لهذا الوضع . في أثناء ذلك ، قام بالنيابة عنه كلاّ من القنصل الإنجليزي و باشا الديوان أفندي و “القبطان أرنوت الحاج علي”)الألباني(و ذهبوا لمقابلة القائد الأعلى للقوات الفرنسية بغية جسّ نبضه و معرفة نواياه .

أجاب هذا الأخير برسالة رسمية وفقا للشروط و التي يمنح من خلالها أربعة و عشرين ساعة للتشاور بإخلاء المكان و تسليمه ، مصرّحا بأنه سيدكّه بعنف في حالة و أن إضطرّ أن يكرّر سلبه بالقوة مرة أخرى ليعيد قهر الغلبة. قرأ هذا الخطاب على الجميع ، وافق الباشا و سائر الأعيان بالإجماع على الاستسلام . بالنسبة لي بقيت عاجزا هناك على تحمّل فكرة الخضوع ، جمعت التقّاة من المسلمين لأملي عليهم بيان الشهادة و منزلة الشهيد و جزاءها عند الخالق عزّ و جل . قمت بحثّهم في أن يتبعوني للهتاف ضد العدو ، و بالفعل بعد نية الشهادة في سبيل الله و التسامح فيما بينهم على جميع الذنوب ، أخذوا بالسير من ورائي لنبدأ بالتكبير.

أخذت طائفة من النساء بتلك اللحظة في الاندفاع أمامنا و هنّ ترمين بأطفالهن عند أرجلنا و تصرخن :” إن كنتم أنتم المنتصرين فلا بأس في ذلك ؛ و إن لم تكونوا كذلك ، فلتعلموا أن العدوّ سيأتي ليسلبنا عفّتنا…فلترحلوا إذا ، لكن قبل الرحيل عليكم بذبحنا بأيديكم أولا!” . بينما كنت أسعى جاهدا بمواساة تلك النسوة ، بحث الباشا عني ليتوجّه لي قائلا :”فلتعلم يا ولدي بأنني عصيت الخالق ، و الذي لم يأمرني أن أفعل ما قدمت على فعله ، كما أنني قد استسلمت أيضا ، هذا هو مصير كل من يخالف سلطانه” .

نقلت هذا الكلام إلى  الجنود  و شرحت لهم بما أن خليفة المسلمين ينهي على القتال ، فإنّ المصلحة العامة تدعو إلى  منع فعل ذلك . عندها أجهش الجميع بالبكاء قائلين:” آه! …جرت الأمور هكذا إذا ؛ بعد أن تركنا أهالينا و بلادنا)*أي تركيا حاليا( بمحبة و إيمان و في سبيل الله ، لنعاني في هذا البلد البعيد و بهذا المنفى جميع أنواع الحرمان …هانحن إذا و بعد كل ما جرى ، نعلن الآن حالة العصيان!” . لقد أرادوا قتل الباشا . و آسفاه!  ما فائدة ذلك الآن؟ و بعد خراب الجزاير؟ ، فليحفظ الله سائر بلاد المسلمين من مشهد مماثل كهذا! .

أخذ الكفّار في الدخول إلى  المدينة ، في غضون ذلك هرول السكان من نساء و رجال عند عتبة منزلي و هم يصرخون بأصوات يقطّعها الحزن ، هاتفين :”بما أنه الهلاك لا محالة ، فالأفضل لنا أن نموت أمام بيت الإمام! ” . انفطر فؤادي أمام هذا المنظر ، ألزمت نفسي تحمّل الذل و الاحتقار في الذهاب و التشفّع لهم عند القائد الأعلى للكفّار . استطعت و بفضل ألف طريقة متملّقة في الحصول على بيان رسمي يضمن الذهاب الحرّ لكل من يرد الرحيل ، و السلامة الكاملة و الكلية لأولئك الراغبين في البقاء . علاوة على ذلك ، تمّ إدراج السماح بمتابعة و ممارسة حق الآذان بمآذن المساجد8 ، تماما كما كان في السابق . قمت بتصديق هذا التصريح عند قناصلة الدول العظمى الأخرى ، و الذين قاموا باعتماده ، بوضع أختامهم الخاصة عليه .

عدت بعدها بوسط جموع الناس المحتشدة أمام بيتي لأودع لهم من ثمّ الوثيقة المعنية ، قائلا لهم :”لقد انتهت الجزاير! لا يهم! …فليحيا السلطان! فأينما يشيح نظره ، فلا يزال لديه الكثير من الأقاليم ، أقاليم أكثر ازدهارا و قوة من هذا المكان!” .

وصلت أخيرا إلى “اسطنبول” مع أولئك الذين اختاروا الهجرة في هذه الوجهة ، في حين و بأي مكان أين سيعلن الجهاد ، أنا سأذهب إلى  هناك، آه! فعلا و بالتأكيد! سوف أذهب ، و إن قدّر لي أن أضحي بحياتي لآخر عمري في سبيل الجهاد! ، إن شاء الله تعالى .

 

  1. منطقة بتركيا قرابة أنقرة ، غوزالحصار Güzelhisar : .
  2. من مدينة “صندقلي” ، بمقاطعة “آفييون” بتركيا .
  3. “تاسارا” أو “تيسري”، تعني “الصخرة الكبيرة” باللغة الأمازيغية ، الكثير من الأمكنة بمنطقة القبائل الكبرى تحمل نفس الاسم ، تعني “رأس بنغوت” بوقتنا الحالي .
  4. يقول المترجم الفرنسي :”حسب ما علمناه من التقرير الرسمي بأن المراكب الفرنسية “سيلان” و “أفنتور” قد غرقتا بالقرب من “دلس” بليلة الرابع عشر أو الخامس عشر من مايو 1830″ .
  5. سطاوالي حاليا أصلها : “أوسطا –والي” ، يعني الوالي المقدس بالتركية .
  6. حسب ما وجدته ، أعتقد أن “عين الزرقة” كما ذكرها الحاج أحمد أفندي ، هي “برج الكيفان” حاليا ؛ أحاول التأكّد بمراجع أخرى .
  7. حصن إسبانيول ، سمّي بعهد الاستعمار “حصن أو قلعة الإمبراطور” أيضا ؛ هو “برج مولاي حسن” .
  8. يقول المترجم الفرنسي : “إنه “حمدان بن أحمد خوجة” هو من فاوض باسم الداي معاهدة الاستسلام ،حيث كان سكرتيره الخاص . لقد نسب إليه “الحاج أحمد أفندي” مفتي الجزائر سابقا و كاتب هذه النبذة التاريخية ، كل الفضل في ذلك . تعرّفت على “حمدان بن أحمد” بإسطنبول ، تمكّنت عبر وساطته البارعة من شراء المخطوطات الثمينة “حوليات ابن الكثير” ، و التي تمتلكها “المكتبة الإمبراطورية” الآن” .

* كتبت كلمة “الجزاير” لأعني بها “الجزائر العاصمة” في هذا الترجمة العربية .

* اعتمدت في المرجع إلى مذكّرة الحاج أحمد أفندي كثيرا في هذه الترجمة و على تلك الكلمات العربية القليلة جدا و التي جاءت بالنص التركي الأصلي القديم ، تصحيحا للمعاني و التي جاءت بترجمة الكاتب الفرنسي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى