بين الفكر والسياسة

وماذا عنّا نحن ؟

بقلم:نور الدين بوكروح

ترجمة :عبد الحميد بن حسان

في فيفري 1979 كان لي الحظ أن أمتطي أول طائرة مُقْلِعة من باريس باتجاه طهران بعد هبوط تلك التي أقلت آية الله الخميني من فرنسا يوما من قبل. كنتُ أريد أن أزور إيران لكي يتاح لي أن أعيش الثورة الإيرانية من الدّاخل وأسجل شهادتي على ما رأيتُهُ وعشته. وذلك ما قمتُ به عندما نشرتُ تحقيقا طويلاً تحت عنوان ( رحلة داخل الثورة الإيرانية) في جريدة المجاهد، بداية جوان 1979.

لم تكن القنوات الفضائية قد ظهرتْ آنذاك، فكان لا بدّ من التنقّل والتعرّض للأخطار من أجل الاطلاع على مجريات تلك الثورة. أمّا اليوم فقد أصبح بالإمكان متابعة الأحداث من البيت أو من أي مقهى عمومي، وبتفاصيل أكثر من المعاينة الميدانية الشخصية.

وفي هذا الشأن أتيح لنا منذ أيام أن نعيش لحظات نادرة في حياة الإنسانية: إنها مجريات عدة ثورات في آنٍ واحد. لقد ملأتْنا تلك الصور دهشةً وسعادةً، ومنها ما كان مُرعباً لأن المُشاهد عندما يراها يتساءل: وماذا لو حدث ذلك عندنا؟ إنني أقصد خاصة تلك الصور التي كانت تأتينا من ليبيا وتُقدّم على المباشر. بلدا ينفجر من الداخل ودولة تضمحل وجيشا يتفكك ومواطنين يتعرضون لقصف طائرات بلدهم، وقوات أجنبية تُحطم كلّ البنى التحتية بالطيران أو بالسلاح البحري، وكل ذلك كان يجري بسبب رجل واحد. من كان يعتقد أن الليبيين سيصلون إلى هذه الحالة؟ ولو حدث ذلك عندنا يوما، لا قدّر الله، فسيكون هناك من يقول كما قلنا: مَنْ كان يظن، أو من كان يعتقد…؟

وكانت كلٌّ مِنْ أفغانستان والصومال واليمن قد عرفت نفس المصير، لكن لأسبابٍ أخرى. وعلى نقيض ذلك يمكن لنا أن نلاحظ أنّ بلجيكا مثلاً تعيش بدون حكومة منذ سنة، وأنّ المجتمع منقسمٌ إلى شطرين، لكن البلد ما زال يسير وكأنّ شيئاً لم يحدُثْ. إذا كانت بلجيكا تبدو وكأنها تسير بواسطة التحكّم الآلي، فالعلّة في ذلك أنّ المُواطن البلجيكي والفلاماني(Flamand) والفالوني (Wallon) قد قاموا بثورتهم الديمقراطية منذ قرنين من الزمان. وكلُّ ما في الأمر أنّ إحدى هذه الجماعات تصبو إلى الانفصال. لم تُطلقْ رصاصة واحدة، ولم تُسجّلْ أيّة خسارة بشرية أو مادّيّة لها علاقة بالعنف.

وماذا عن بلدنا في خضمّ الثورات العربيّة؟ يقول عبد الرحمن الكواكبي الذي تنطبق أفكاره على الإشكالية المطروحة اليوم في البلدان العربية، والتي تعود أصولها إلى سنة 1866، يقول في كتاب (” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد “):  إنّ الأمّة التي لا تشعر كلّها أو في أغلبيتها بآلام الاستبداد هي أمّة لا تستحقّ الحريّة… وقبل محاربة الاستبداد لا بدّ من إعداد النظام الذي يخلُفُه… فالاستبداد الغربي لو كُتِب له أن يختفي فإنه سيُعوّضُ بحكومة تقوم بتأسيس المؤسسات التي تتيحها الظروف، أمّا الاستبداد في مشرقنا لو امّحى فإنه سيُعوّضُ باستبدادٍ أكثر قساوةً. إنّ الأمر سيكون كذلك لأنَّ المشارقة لم يتعوّدوا أبداً على الانشغال بالمستقبل القريب، لأنّ أكبر همّهم مُتعلِّق بما سيحدثُ في العالم الآخر “.

أحْرى بنا، قبل التساؤل عمّا إذا كانت موجة الثورات العربية ستمتدّ إلى بلدنا، أنْ نتواضع وأنْ نطرح التساؤلات التي يقترحها النصّ الذي أوردناه، أي: هل هناك وضعية استبداد في الجزائر؟ وهل نحن مُتّفقون على إدانة هذا الاستبداد حتى ” نستحقّ الحُرِّيّة “؟ وهل أعددنا الطريق للنظام الذي سيخلُفُه؟ ألمْ نكدْ نستبدلْ الاستبداد باستبداد آخر أكثر قساوة سنة 1991؟ وفي كلمة واحدة، أو في مائة كلمة، هل نحن ناضجون بما يكفي للقيام بثورة ديمقراطية؟

بإمكاني أنْ أصوغ في الحين جوابا سريعا عن السؤال الأخير الذي لا يُمثلُ إلاّ شخصي: نعمْ، بالنسبة للثورة، وفي أية لحظة، لكن بالنسبة للديمقراطية فالأمر ليس مؤكّداً. صحيح أنه من الخطإ الاعتقاد بأنه بمجرّد أن تشتعل النار في منزل واحد تشتعل في المنازل الأخرى، لكنها إنْ كانت مصنوعة من نفس المواد فإنّ الاشتعال أمر حتميّ. والحال أنّ منزلنا مصنوع من قشٍّ. يجب أن نسارع ببناء منزل جديد ما دامت الإمكانيات متوفرة، وإنْ لم نفعل فإنّ النيران ستلتهمه.

إنّ المسؤولين الرسميين قد أكّدوا أنّ بلدنا لنْ يُصاب بأذى لأسبابٍ يمكن تلخيصها فيما يأتي: إنّ الجزائر قد قامت بثورتها الديمقراطية سنة 1988، وإنّ الدولة تملك إمكانيات مالية كافية لامتصاص الضغوط الاجتماعية، وإنّ قوات الأمن عندنا قد تمّ تدعيمها وتقويتها، وإنّ السلطة تحظى بقاعدة اجتماعية واسعة.

وكلّ هذه الحُجج واهية. فلو كُنّا قد قمنا فعلاً بثورتنا الديمقراطية سنة 1988، فأين هي نتائجها، وما السبب في بقاء السخط على السلطة؟ وهل تغيّر النظام؟ وهل جرى التداول على السلطة؟ أولمْ يتم تزوير الانتخابات بانتظام؟ ألم يتمّ تعديل الدستور تعديلا غير معقول؟ أمّا بالنسبة للحجّة الثانية، يكفي التذكير بأن ليبيا التي لا يتعدى عدد سكانها سدس عدد سكاننا ومداخيلها من العملة الصعبة هي ضعف مداخيلنا، ومع ذلك لم تبق في منأى عن الاشتعال. أما الحجة الثالثة فهي واهية لأنّ مصر كانت عندها قوات القمع تقدر بمليوني فرد، أي ضعف قواتنا، ومع ذلك لم تتمكن من تحرير ” ميدان التحرير ” ومِن إنقاذ حسني مبارك. فمهما كان عدد قوات الأمن ومهما كانت كفاءتها وسلاحها فإنها تبقى عاجزة عن إخماد الإرادة الشعبية عندما تتحرك بالفعل. لا يمكن القضاء على ملايين الناس والعالم بأسره يتفرّج، والمتابعات القضائية الدولية تُراقب القائمين بالمجازر. أما الحجة الرابعة فيجب التذكير بأن ملايين المناضلين الإداريين التابعين لحزب ابن علي وحزب حسني مبارك كان بإمكانهم أن يَغْشَوْا شوارع تونس والقاهرة وأن يغمروا المتظاهرين، هذا لو كان هؤلاء المناضلون موجودين حقيقةً. والحال أنّ كلّ ما شاهدناه هو عبارة عن شطحات بلطاجية سرعان ما اندحرت أمام الحشد الشعبي.

ومع ذلك فهناك أسبابا أخرى تدفعنا إلى التشكيك في إمكانية امتداد موجة الثورة إلى بلدنا. لقد حدثت عملية انتحار بالاحتراق في سيدي بوزيد، ومنذ ذلك الحين اشتعلت النار في عشرة بلدان. وبالمقابل جرت نفس الحادثة عندنا عشرين مرّة دون أن يحدث أي شيء حتى في نفس الشارع الذي جرت فيه الحادثة. ولهذا يمكن لي أن أجازف بالقول إنه لن تحدث أية ثورة عندنا على المدى القريب. وأكثر من ذلك يمكن أن نذهب إلى أنها ليست ذات فائدة لأنّ الشعوب لا تلجأ إليها إلاّ إذا دفعهم إليها الحكام بسوء التسيير وبتجاوزاتهم وانغلاقهم على أنفسهم. فالثورة ليست هدفا في حدّ ذاته، وهي لا تكتسب شرعيتها إلاّ بالأهداف الإيجابية التي تُحقّقها. ومعنى ذلك أنه إذا كانت هناك إمكانية لتحقيق الأهداف بالطرق السلمية، فهذا أحسن لأنّ ذلك يؤدي إلى إعفاء البلد من الخسائر المادّيّة والبشرية. وهذا بالذات ما يحاول أن يقوم به جيراننا في المغرب.

ومع ذلك يجب التريث وعدم التسرع في التفاؤل. ذلك أنه لو بقيت الأشياء على حالها، فبدلا من الثورة يمكن أن تستفحل ظاهرة الإضرابات والمناوشات والصدامات والانتفاضات المحلّيّة، والتشنّجات الجهوية، والصراعات القبلية، والمواجهات بين الأحياء والأماكن التي يغيب فيها القانون، والتي ألفناها في بلدنا، كلّ ذلك يمكن أن يتفاقم حتى تتلاشى الدولة. وعند ذلك ستكفي أتفه الأسباب لتتحول الصراعات المحلية إلى لهيب شامل.

إنّ المظاهرات وأعمال الشغب تمثّل المرحلة البدائية في عمر السياسة. ومن الأقوال الشائعة بين هؤلاء المتظاهرين: “إننا نريد أن نُلقّن درسا للسلطة” و “أن نُبيّن له أنّ…”، هذا دون الرغبة في ذهاب تلك السلطة بالضرورة، ليس حُباًّ فيها، ولكن بسبب شيوع فكرة هدامة في العقليات، إذ يُقال: ” إنّ الذي سيأتي لن يكون أحسن من الذي يذهب. فلماذا التغيير إذاً؟”. إن الثورة هي العنف، هذا صحيح، لكنها تأتي لخدمة فكرة: فكرة حول ما نريد أن نؤسسه بدلاً من الذي نريد أن نهدمه. إنّ الثورة هي فكرة مستقبلية في حياة الأمّة والدولة والمجتمع، وهي فكرة تؤمن بها أغلبية من المواطنين. والحال أنه إذا كان هناك إجماع على رفض النظام لمختلف الاعتبارات، فإنّ الإجماع على البديل لم يحدث مطلقاً. لا زلنا في مرحلة ” الأشياء ” أو “لقمة العيش ” وفي مرحلة الأشخاص (المهدي المنتظر، الزعيم، الشيخ…). لا زلنا لم نرقَ إلى مرحلة الأفكار: مرحلة الإجماع على مشروع مجتمع سائر في اتّجاه الديناميكية التاريخية، مشروع يضمن لقمة العيش للجميع ودون حاجة إلى استبداد شخص أو جماعة أو حزب.

إنّ انتفاضة أكتوبر 1988 لم تحمل بين طياتها إلاّ رفضا عنيفا للسلطة. لم نُشاهد، قبل أن تبادر جبهة الإنقاذ(FIS) بالاستيلاء على الانتفاضة، أية لافتة ولا لوحة ولا شعار. دامت هذه الانتفاضة ثلاثة أيام أعقبها خطاب باكي من الرئيس الشاذلي بن جديد، وكان الخطاب وحده كافيا لإقناع المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم وأغلبهم تسيل أعينهم بالدموع هم كذلك. أما انتفاضة جانفي 2011 فلم تدم أكثر من ذلك ولم تحمل هي كذلك أية رسالة سياسية. فقد اتفق الجميع على الاكتفاء بخفض أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، وهذا ما تحقق بسرعة.

كانت صور الجماهير الحاملة للاّفتات والشعارات وأقوال المتظاهرين في تونس ومصر تُبثّ تباعاً على قناتي الجزيرة والعربية وقنوات أخرى. لنتأمّلّ تلك الصور ولنتساءل عما إذا كانت تشبه أحداث أكتوبر 1988 أو جانفي 2011؟ لنقارن بين تشكيلة الجماهير، ولنستمع إلى تصريحات الشباب والصغار والنساء والمثقفين ورجال الشارع… أهي شبيهة بتصريحات شبابنا؟ هل سمعنا التونسيين والمصريين يهتفون “الشعب يريد الفيزا “؟ ولنتفحّص الشعارات التي ترددت في مظاهراتنا كثيرا: ” سلطة مجرمة” pouvoir assassin!)) “أولاش سماح أولاش”، ” وان تو ثري فيفا لالجيري “.. أين هي الرؤية السياسية للمستقبل في كلّ هذا؟ أين هي الأفكار؟

لقد شهدت بلادنا العنف على المدى الواسع مرتين على الأقلّ لأن التظاهرات المتقطعة كانت يومية تقريبا، لكننا لم نشاهد الأفكار تبنّتْها أغلبية إلاّ مرّة واحدة: إنها الأفكار التي رفعتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1990 والتي مفادها أنّ: الديمقراطية كفر، لا للميثاق ولا للدستور، لكن القرآن وحده يكفي، الدعوة إلى تغيير العادات والتقاليد المتعلقة بالملبس والمأكل عند الجزائريين، رفض الاختلاط في المدارس، تحبيذ المحاكم الشعبية للجنرالات، وإلغاء الضرائب…

كُنّا قرأنا قول الكواكبي منذ حين: ” إنّ المشارقة لم يتعوّدوا أبداً على الانشغال بالمستقبل القريب، لأنّ أكبر همّهم مُتعلِّق بما سيحدثُ في الآخرة. فما كانت جبهة الإنقاذ تَعِدُ به من ينتخب لصالحها هو بالضبط” الفوز بالجنّة “. وقد اتّضح أنّ جزءا كبيرا من الوعاء الانتخابي قد انجذب إلى هذا الإغراء، فأبواب جهنم ستُفتح لجميع الناس إنْ لم ينتخبوا. لكن، في النهاية، منِ الأولى بالتوبيخ: أهي جبهة الإنقاذ أم الناخبون، أي الشعب؟ إنّ ظهور معتوه أو معتوهين ليَعِدَ الناس بأي شيء أمرٌ ممكن. فأيّهما أكثر عَتَهاً ، أهُمُ الواعدون أم التابعون؟

وهناك مثال: لقد ظهر في تونس حزب مكافىء لجبهة الإنقاذ، وهو  ” الجبهة الإسلامية للتحرير “. وقد أعلن قادته أنهم أعدّوا أرضية من أجل الجمعية التأسيسيّة القادمة. وماذا كانوا يُحبِّذون في تلك الوثيقة؟ إعادة تأسيس الخلافة ومنع الديمقراطية والتعددية الحزبية إذا وصل حزبهم إلى السلطة. هكذا، بكل بساطة، وبابتسامة عريضة. وبعدُ، أين يكمن المشكل، وأهمّ من ذلك مَنْ بيده الحلّ؟ أهو في أيدي هؤلاء المعتوهين الذين لم يمنعهم عتههم من الإعلان عن برنامجهم على الأقل؟ أم هو بين أيدي الناخبين يوم الاقتراع؟

قد ينتابنا الخوف على التونسيين فنعمد إلى تقديم نصيحة لهم بألاّ يغامروا بقبول هذا الحزب، مثلما نَصَحَنَا ابن علي ومبارك والقذافي. لكن ذلك سيكون إخلالا بالاحترام تُجاههم لأنّ الأمر يعني ضمنياًّ أنّ نصف التونسيين مرشح للجنون. إذا كان الناخبون الذين سيُدلُون بأصواتهم بعد أشهر هم هؤلاء التونسيون والتونسيات الذين رأيناهم في التلفزة أيام ثورتهم، فلا خوف عليهم. فالشعب التونسي قد ارتقى إلى درجة مجتمع منذ زمن بعيد، ولم يبق له إلاّ أنْ يبدأ بتنظيف الإصطبلات لأنّ العسكريين والنخبة لم يقوموا بذلك.

إنّ المشكلة التي كانت مطروحة على الجزائريين في أكتوبر 1988 هي نفسها التي تُطرَح اليوم وبنفس الصيغة، والمشكلة هي: كيف يمكن إرساء قواعد الديمقراطية بدون رأي عام مؤمن بأفكارها؟ كانت أفكار الديمقراطية آنذاك تمثل أقلية، وهي عاجزة عن القيادة لأنّ تلك الأغلبية الصامتة التي كان يؤمّل أن تكون مع الديمقراطية قد امتنعتْ عن التصويت في أغلب الحالات. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ تلك الأفكار الديمقراطية كانت تتعارض فيما بينها أكثر مما تُعارض النظام الذي تدّعي محاربته. فالمعارضة الجزائرية لم يحدُثْ أبدا أنّ اتفقت على رأي واحد بخصوص البديل الذي يجب إعداده ليخلف النظام الحالي، بمعنى أنه لم يكن هناك أي إجماع على برنامج التداول على السلطة بصيغة قابلة للتطبيق. وكأنّ الغاية من العمل السياسي هي أشبه شيء بالتحقيق القضائي في قضية السلطة، ثمّ نشر بيانات، أو التوقيع على لوائح مطالب جماعية، أو في أحسن الأحوال الإدلاء بتصريح أمام ميكروفون قناة أجنبية. وبعد كل هذا يعود الناس إلى بيوتهم يرافقهم الإحساس بأنهم قاموا بالواجب على أحسن وجه والاقتناع بأن الثورة سائرة في طريقها.

وفي كل مرة تظهر محاولة للتّجمّع يتمّ إغراقها ونسفها في الحين. كل حزب يُشكك في الأحزاب الأخرى، وكلّ زعيم يحذر من الآخرين، وجميع الناس مهووسون بفكرة المخابرات. وللتذكير فإنّ الأحزاب في مصر وتونس قد تبنّتْ لغةً واحدةً أثناء أحداث الثورة، وأخذت مكانها وراء الشباب، ولم يتجرّأْ زعيم واحد على البروز ليوجّه الأحداث وجهة تناسبه. لكن أولئك الشباب كانوا يعرفون إلى أين بتّجهون، وقد كانوا في الاتجاه الصحيح بالفعل.

ينبغي أنْ نعترف بأنّ شعبنا لا تهمّه في الوقت الراهن إلاّ يومياته الصعبة: إنه لا يريد أية حكايات، فلا فائدة عنده من ” هذه الديمقراطية التي تمخضت عن مئات الآلاف من الضحايا”. يُريدُ أنْ يعيش ولو عيشة نباتية. وليس وراء هذا الموقف نقص في الشجاعة، فهو شجاع إلى درجة غياب الوعي، وليس وراءه خوف من الموت، فهو يراه ويواجهه يومياًّ. إنه ببساطة لمْ يَعُدْ يؤمن بأي شيء وبأيّ شخص. لو اتصلنا بالجزائريين فرادى لوجدناهم يتمنون التغيير جميعا، لكن شرط أن يأتي هذا التغيير من الغير وأنْ يتحملوا بالتالي تبعاته، وهم في هذا يُعبّرون عن وفائهم لتعاليم جحا التي يعرفها الجميع عن ظهر قلب. وإذا كان الجزائريون يتمتعون بالاستعداد للتضحية، فإنّ الذي كان ينقصهم دوماً هو الحسّ الاجتماعي والجماعيّ.

لقد تكلّمتُ، بزمن طويل قبل مجيء التعددية الحزبية، عن العصبيات، وهي “تجمّعات إيديولوجية حول الدفاع عن رموز ثورة التحرير والإسلام والبعد البربري”، تلك العصبيات التي تنخر عظام مجتمعنا. وهي لا تزال قائمة إلى يومنا، لم يتغيّر منها شيء، متّخذة شكل أحزابٍ سياسية. وكنتُ خصّصتُ سنة 1997 كتابا تحت عنوان  ” الجزائر بين السيء والأسوإ ” لتحليل هذه الإشكالية. ونحن لا نزال نتراوح في نفس الإشكالية.

أما في تونس فلم تظهر عصبيات ضد الدّفع العام لتحاول إجهاضه. ولو ظهرت العصبية لتدخّل الجيش لفرض حلٍّ ما، مهما بلغ هذا الحل من البُعد عن الواقعية. كان يمكن أن تُستغلّ العشرون سنة الماضية في إرساء قواعد حياة سياسية عقلانية وإعداد البديل، لكن النظام عمد إلى منعه، بينما كانت الأحزاب مُصِرّة على عصبياتها كي لا يضيع منها رأسمالها.

وبهدف التصدّي لعاصفة الأزمة الاقتصادية بدأت السلطة الجزائرية تتراجع عن التدابير المتّخذة في السنوات الأخيرة والتي كانت تهدف إلى الحدّ من رقعة الاقتصاد الموازي، وراحت تُزيلُ معظم العراقيل البيروقراطية التي كانت تقف في وجه الشباب الراغبين في القيام بمشاريع استثمارية. فهي ترى أنّ الرضوخ أحسن من الانكسار، وأنّ الاستجابة للمطالب الاجتماعية الاقتصادية أحسن من مواجهة الثورة. وهكذا صرنا نلاحظ أنّ مخالفة قانون المرور لم يعد يُعرّض صاحبه لأية عقوبة، وأنّ رجال الشرطة والدرك تلقّوا تعليمات بتفادي استفزاز المواطنين، وأنّ مصالح الجباية تلقت أوامر بالتخفيف من الأعباء الجبائية، وأنّ شركات الكهرباء والغاز والماء أصبحت مدعوة إلى تفادي قطع التموين بالماء والغاز والكهرباء عن المواطنين الذين لا يدفعون مستحقاتهم… وكلّ هذا قريب مما كان القذافي يقترحه على الليبيين في بداية الثورة: ” خذوا أموال البترول واقتسموها بينكم “! . وهكذا اقتُطِعَتْ مائة مليار دولار من المخزون وقُسّمتْ على 35 مليون جزائري، وحاصل العملية 2857 دولار لكل فرد، أي حوالى 280.000 دج في السوق الموازية. وهذا كله تجسيد لمقولة شعبية مأثورة: ” من لحيته بخّر له “. وقد وجدتِ السلطة عدة أحزاب وأقلام تدعم هذه ” السياسة الاقتصادية الجديدة “.

إنّ مثل هذه السياسة غير مسؤولة، وهي سياسة ديماغوجية وشعبوية لأنها لا تندرج ضمن الحرص على بناء اقتصاد مرشح للدوام، ولا هي نوع من التعاطف المفاجىء مع الشعب، بل هي هروب إلى الأمام. إنها ليست سياسة، بل عبارة عن “بوليتيك” أو لعبة الأغبياء، وهي كرّ وفرّ بين شعب مستعدّ لمهادنة السلطة إذا تركته لشأنه، يفعل ما يشاء كما يشاء، وبين سلطة مستعدة لتقديم كل التنازلات شرط ألاّ تتعرّض لخطر الانقلاب.

إنّ القاعدة الذهبية هي أنّ السلطة إذا فقدت شرعيتها يجب أنْ تُراجع نفسها أو أن تنصرف، وأنّ الشعب عليه أنْ يحترم قوانين وتشريعات بلده، ومن بينها الالتزام بالتشريعات الخاصة بالعمليات التجارية والمالية، ودفع المستحقات الجبائية، واحترام المحيط العمراني وقواعد التعمير. إنّ واجب الدولة أنْ تُكوِّنَ مواطنين واعين، مُتشبّثين بحقوقهم وواجباتهم، وواجب الشعب أنْ يوجِدَ لنفسه مؤسسات شرعية سيكون عليه أن يحترم قوانينها ويقبل بأعمالها. والحال أنه يكفي أنْ نتأمّل في حياتنا الوطنية لكي نُدْرِك أنّ هذين الشرطيْن غير متوفّريْن. وإذا كانت السلطة تسمح باختراق القوانين أو التهرّب منها كي لا يثور الشعب، وإذا كان الشعب يقبل بسلطة غير شرعية لأنها لا تحاسبه على أفعاله، فإنّ في ذلك إيذاناً بنهايةٍ مبرمَجةٍ لكلٍّ من السلطة والشعب. وتلك هي أحسن وسيلة لقتل الاقتصاد والقيم الأخلاقية، والوطن والدولة. وعند ذلك لن يبقى إلاّ دفنهما في مقبرة جماعية واحدة.

إنّ نقطة الضعف في الجزائر كانت تتمثل دوما في السياسات الاقتصادية المنتهجة. وهذه السياسات ـ وهي سياسة واحدة في الحقيقة، أي: هيمنة الدولة على كل شيء ـ تشترك كلّها في أنّها قائمة على هاوية، وعلى مداخيل ظرفية، وعلى التوازن البنكي. وكلُّ ما أُنجِز في إطار هذه السياسات سرعان ما تحلّل واضمحل وانطفأ مثله مثل أي شيء يُربط بخيوط رهيفة أو باللعاب. وبالفعل فإنّ الجزائر عاشت منذ الاستقلال من مداخيل البترول والغاز. فهي تشتري من الخارج بالعملة الصعبة التي تأتيها من البترول والغاز لكي تُغذي وتستجيب لحاجيات الرعاية الطبية والتجهيز والتربية والتسليح والعمل، وكذا تلهية البلد وأهله. إنّ كل هذا يُكلّف الجزائر اليوم حوالى 40 مليار دولار سنوياًّ (خارج المصاريف العسكرية).

لنتصوّرْ مثلاً لو توقف الغاز والبترول، إنه لن يبقى في الخزينة إلاّ أقل من مليار دولار بينما حاجياتنا من الواردات هي أربعون مليار دولار. أنا أعرف أنّ ذلك لن يحدث بعد أسبوع، لكن الجميع يعرف أن الأمر حادث لا محالة في ظرف 15 إلى 20 سنة في أحسن الأحوال، وفي أسوئها قد يحدث هذا في أقل من هذه المدة لو انهارت أسعار المحروقات. والسؤال المطروح هو: هل بإمكاننا أن نفعل في عشرين سنة ما لم نفعله في خمسين؟ هذا بالإضافة إلى أنّ حاجياتنا الاستهلاكية ستتزايد بتزايد عدد السكان، وفي المقابل فإنّ إمكانياتنا المالية لتغطية تلك الحاجيات مرشحة للتناقص حتى التلاشي. وقد يقول قائل: في انتظار ذلك فإنّ صُنّاع هذه “البوليتيك” لن يكونوا حاضرين لكي يُحاسبوا.

سيبلغ عدد سكان الجزائر خمسين مليون نسمة على الأقل بعد عشرين سنة، وستكون بحاجة إلى ثمانين مليار دولار من المصاريف للحفاظ على المستوى الحالي للمعيشة، ذلك أنه يجب أنْ نُدخِل في الحساب مداخيل البترول والغاز اللّذين سنكون قد توقّفنا عن إنتاجهما. فمن أين نأتي بهذه المبالغ المالية؟ وهل سنتمكن في انتظار ذلك من بناء اقتصادٍ قادر على تصدير ما قيمتُه ثمانين مليار دولار؟

إنّ ثلثي الميزانية المخصصين لدفع أجور الموظّفين والمعلّمين ومِنح الطلبة والعسكريين ورجال الدرك والشرطة والجمارك ورجال الإطفاء والأطباء وشبه الطبيين، والأئمة، ومنح المجاهدين وذوي الحقوق، والمتقاعدين، والبعثات الديبلوماسية في الخارج وغيرها من المصالح العمومية وخُدّام الدولة، هذان الثلثان آتيان من الجباية البترولية. بماذا سنُعوِّض كلّ ذلك؟ لنتصور ماذا سيحدث لو أن الدولة أصبحت عاجزة عن دعم أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، وعن تمويل قطاع الصحة والتعليم وبرامج التجهيز والسكن؟ ماذا سيحدث عندما يضطر القطاعان العام والخاص إلى غلق وحداتهما الإنتاجية بسبب نقص المواد الأولية والتجهيز الصناعي المستورد، وما ينتج عن ذلك من إحالة ملايين العمال على البطالة؟

ذلك هو اليوم الذي ستحدث فيه ثورة في غياب الديمقراطية، والذي ستظهر فيه الطامة الكبرى، أو ” الهول” الذي تساوي قوته الزلزال المرفوق بالتسونامي الذي ضرب اليابان. ذلك هو اليوم الذي ستنتفض الجزائر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. سيغادر الموظفون الذين لم تُدفع أجورهم مناصبهم، وسيكون القتال العام على طريقة ” زنقة زنقة ” من أجل رغيف خبز أو قطعة نقود أو علبة دواء أو ثوب… ستُنهب الدكاكين، وستنهال الموجات البشرية على مراكز الشرطة والدرك من أجل الاستيلاء على الأسلحة، وستغيب الدولة ولن يوجد أي إنسان يسعى إلى السلطة… وعندما ستتحول الحياة في المدن إلى جحيم مثلما نشاهد في أفلام الرعب، سيعود كلٌّ إلى قريته الأصلية، وسترجع العروش والدواوير والمشاتي كما كانت نظاما لبنيتنا الاجتماعية، وسنعود إلى حياة الرعي والبداوة، ونضطر إلى استعمال الحمير والبغال والخيل والبعير في النقل لأن حظيرة السيارات ستُشلّ بسبب نقص قطع الغيار والوقود. ومع ذلك فإننا في كل هذا سنربح شيئا مُريحا، بل مُميِّزاً، وهو أننا سنكون أكثر الشعوب حفاظا على البيئة في المعمورة !

لم يمر على استقلانا أكثر من نصف قرن وها نحن أولاء على شفا حفرة من الإفلاس العام. لن يكون دخولنا إلى التاريخ إلاّ لرمشة عين، وفي هذه المدة القصيرة نكون قد عرفنا طرفا من الحياة الوطنية والعصرية. وعلى أية حال فإننا خلال العشرين قرنا الماضية عشنا تحت الاحتلال الأجنبي أكثر مما عشنا أحراراً . ولقد تحدث ابن نبي فيما مضى عن القابلية للاستعمار وعن ” البوليتيك”. و الأحداث الحالية بيّنت لنا أن الإنسان لا يكون مُستبَداًّ به إلاّ إذا كانت فيه القابلية لذلك. لكن الرسول (ص) قال قبل أيٍّ كان:” كيفما تكونوا يُوَلّ عليكم “.

إن التحوّلات والتطورات التي يعرفها العالم العربي تبيّنُ أننا سنكون مُجدّداً في آخر الرتل، كما هي حالنا اليوم في عدة مجالات. و السبب في هذا أن السلطة لا تستشرف المستقبل والشعب لا يريد أن يجعل لحياته نظاماً. فمتى سيعود لنا الوعي يا تُرى؟ متى سنستيقظ لننظر في الحقيقة ونرى الوقائع؟ ومتى سنشرع في العمل على كل الجبهات وفي كل المستويات؟ ومتى سنعمل على تفادي هذا المصير المشؤوم الذي ينتظرنا؟

عندما كنت طفلاً سمعتُ والدتي المحترمة أكثر من مرة تذكر إحدى النبوءات التي سمعتْها هي بدورها وهي طفلة من والديها خلال الأربعينيات. والنبوءة تقول إن فرنسا ستغادر الجزائر قبل نهاية القرن، لكن جنسا أصفر سيُسلّط على بلدنا. ورغم نعومة أظافري فإنّ هذه الكلمات كان لها بالغ الأثر في نفسي، ولأجل ذلك لم أنسها أبداً. وفي أيامنا، عندما استفحل أمر الصين على صعيد الاقتصاد العالمي، وأمام تكاثر عدد الصينيين في بلدنا، رحتُ أتساءل عما إذا كان مضمون تلك النبوءة ينطبق على ما نراه من غزو للمنتوجات واليد العاملة الصينية لساحتنا الاقتصادية، أم أنه ينطبق على شيء آخر يختفي وراء الستار الذي يلُفُّ المستقبل.

في العشرين سنة المقبلة ستبقى تونس قادرة على تغطية تكاليف وارداتها بما تدرّه عليها صادراتها وسياحتها وإسهامات مُغتربيها بالعملة الصعبة. ستبقى تونس قادرة على تغطية أجور مستخدميها بمداخيل الجباية. فلماذا تُصدّر تونس عشر مرات أكثر ممّا نُصدّرُ نحن ـ خارج المحروقات ـ ؟ لماذا يُرسِلُ مُغتربوها أموالهم عن طريق القنوات البنكية ولا يفعل مغتربونا نحن ذلك؟ ما السّرّ في موت سياحتنا؟ ما السبب في أن تجارنا وأرباب الصناعة عندنا لا يُصرّحون إلاّ بثلث رقم أعمالهم أو أقل (هذا إن صرّحوا أصلاً)؟ ما هو الشيء الذي قمنا به منذ خمسين سنة ممّا يصدق وصفه بالصحيح والحقيقي؟ هل قمنا ببناء الإنسان، هذا المورد الرئيسي وهذا المكسب الغالي بالنسبة لأيّ وطن؟ بماذا يمكن أن نعتزّ: بتجارتنا السوداء؟ ببناياتنا غير الشرعية؟ بغياب الحس المدني عندنا؟ بميلنا إلى التّهرّب أو إلى العمل الرديء أو إلى العنف؟ بالحرّاقة ؟(وقد دخلت هذه الكلمة إلى معجم لاروس كشهادة على إسهامنا في اللغات الحديثة). أمْ بالفضائح المتعلقة بالفساد والتي يظهر ابن علي إزاءهاكسارق صغير؟

وقد سبق لي أن طرحتُ هذه التساؤلات في مقال نُشِر في أكتوبر 1979 في جريدة ” المجاهد ” تحت عنوان:” عبقرية الشعوب “، حيث كتبْتُ قائلاً:  إنّ عبقرية الشعب هي علامتُهُ الخصوصية التي تُعطيه لمعانا يُميِّزه، وطريقته الإيجابية والخلاّقة في أخذ نصيبه من التاريخ، وهي انتصاراته على الطبيعة وعلى نفسه، وإنجازاته التقنية والروحية، واكتشافاته العلمية والاجتماعية، وإسهاماته في إطار الحياة البشرية، ونظرته الشعرية إلى الحياة، ومهاراته في المعمار… فعبقرية الشعوب إذاً ليست خيالاً أو صفة واهية وغير مُحدّدة، أو مُجرّد بهرجٍ في اللغة السياسية، بل هي واقعٌ، وحقيقة ساطعة مُثبتة ومُعترف بها لدى الجميع. صحيح أنّ ساعات الديماغوجيا والجهل قد تُحوّل عبقرية الشعب إلى مُجرّد شعار أو إطراءٍ أو وهم، وقد حدث ذلك بالفعل، لكن مثل هذا الشعار والإطراء والوهم لا يدوم في الغالب، ولا يقف في وجه النقد… ففيمَ تتمثل عبقريتنا؟ وما الذي يُميِّزُنا عن الغير؟ وكيف يرانا غيرنا؟ وماذا يُقال عنّا في التقارير الديبلوماسية؟ وفيمَ تتمثّل هذه العبقرية التي أرهقوا بها أسماعنا؟… إننا نعيش بسلوك يدلّ على اعتقادنا بأنّ الحياة ستنتهي بموتنا. فنحن لا نهتمّ إلاّ بما يمسّ بمصالحنا. فما أكثر المُخالفات والجرائم المتنوعة التي تُقترف أمام أعيننا، وأحيانا برضا تام منّا، أو على الأقل بسكوتنا المشبوه… “حشيشة طالبة معيشة” ، “هف تعيش” وغيرها من العبارات التي تعطي سلوكنا تبريرا”فلسفياًّ”… فقد خرج الجزائريّ من مرحلة ما قبل الاقتصاد ليقع في مرحلة النزعة المادية المُسِفّة (Economisme). وقد أذلتنا تلك النزعة وجعلت منّا أوغادا وشوّهتْ طبيعتنا، وحشرتنا في نزعة فردية منقطعة النظير، وحوّلتنا إلى مستهلكين حقيرين أو إلى أجهزة هضمية “. كان ذلك منذ اثنتين وثلاثين سنة !

لوسوار دالجيري 28 مارس 2011

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى